حتى نفهم ما يجري ..!
لا يمكن فهم سياقات ما يجري في المنطقة العربية، خاصة في اليمن وسوريا والعراق والأزمة الخليجية وليبيا، وأخيراً التطورات السياسية في لبنان والملكة العربية السعودية،
دون أن تعرف بدقة ما يُحاك في الخفاء والعلن لإجراء تغييرات جذرية وشاملة في بنية المنطقة كلها والتهام ما تبقى منها، وإخراج العرب بالكامل من صناعة التاريخ وركلهم عبر بواباته ونوافذه إلى الهامش والفراغ العريض..
> ومن غرائب الصدف، إن مئويتين مرتا على الأمة العربية خلال هذا العام والذي سبقه، تشيران بقوة ووضوح الى الواقع الجديد والمستقبل القريب الذي يصنع ويطبخ بأيدٍ ماهرة، فقد مرت في العام الفائت 2016 الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو 1916 التي قسمت المنطقة العربية وحددت حدودها، ووزعت أسلابها على الدول الاستعمارية خاصة فرنسا وبريطانيا، وكوفئت بعض القيادات العربية آنذاك نظير وقوفها مع القوى الاستعمارية وحلفاء الحرب العالمية الأولى لإنهاء وتصفية الخلافة الإسلامية في الامبراطورية العثمانية، وكانت آخر المعاقل لرمزية الإسلام وحضارته وكيانه الواحد .
> أما المئوية الثانية، فهي مرور مائة عام عام 1917 – 2017 على إعلان بلفور الذي قدمت فيه بريطانيا العظمى أرض فلسطين على طبق من ذهب لتكون وطناً لليهود والحركة الصهيونية، وقد تزامن إعلان بلفور وترافق مع اتفاقية سايكس بيكو لإعطاء نفس النتيجة وبلوغ ذات المرام والغايات، وللأسف غابت العقول المدركة وأُبعدت القوى الفاعلة وهيمنت الأذناب والربائب، وغدا الواقع العربي من بعد ذلك موطئاً تحت نعال المستعمرين.
> ظل المشروع الصهيوني منذ قيام إسرائيل في العام 1948 يعمل على تفتيت المنطقة العربية والسيطرة عليها وسلب إرادتها وزرع الفتن والحروب وسط شعوبها، ولعب الاستعمار وربيبته الصهيونية العالمية المزروعة وسط العالم العربي ، على وضع أزمة وحكام وحكومات لقهر الأمة العربية وتدجينها وإفشال كل مشروعاتها في النهضة والبناء ومنعها من استغلال مواردها الضخمة وثرواتها التي تمكنها من أن تكون قادرة على أدوارها الحضارية وتحتل موقعها المتقدم بين الأمة.
> والمتتبع للمشروع الصهيوني، يكتشف أنه بمساعدة الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، نجح في تحييد كثير من الأنظمة والحكومات والدول، وإبعادها عن مسار المواجهة وألا تتبنى القضية الفلسطينية وتحويل بوصلة اهتماماتها، وعندما حانت الفرصة للكيان الصهيوني بأن يتخلص مستخدماً الدول الغربية من بعض الأنظمة القومية القوية في عالمنا العربي وإزاحتها من طريقه وتفتيت دولة مثل العراق وسوريا وشغل مصر بنفسها وصراعاتها الداخلية وإبعاد قواها الحية من مواقع اتخاذ القرار وتدمير بعض البلدان وتقسيمها، لم يتبقَ إلا الدول الغنية في الوطن العربي التي تمتلك الثروة والرصيد الأكبر من الأرصدة المالية والنفط والغاز، وحان الوقت للإجهاز على بقية مواطن القوة والخطر، وتعبيد الطريق الى قيام إسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل .. فما يجري اليوم من تطورات مهمة سيعجل إن لم تنتبه الدول العربية جميعها، الى إتمام وإكمال المشروع الصهيوني والقضاء على خير أمة أخرجت للناس وهي الأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة التي من غاياتها إسعاد البشرية وتخليصها من الشرور والأزمات والمآزق الفكرية والسياسية التي ألمت بالجنس البشري وألزمته النزاعات والصراعات والحروب والدماء والأشلاء.
> معرفة هذه السياقات وأنساقها الفكرية والحضارية، هي التي تمكِّن من قراءة ما يدور في المنطقة العربية من تحولات متسارعة تلاحق بعضها البعض، وتمسك بتلابيب بعض، فلا عاصم اليوم كما يبدو من أنياب المشروع الصهيوني التي يغرسها في اللحم الحي لأمتنا من محيطها الى خليجها، وقد وفرت الأنظمة والحكومات وقصار النظر البيئة الملائمة لهذا المشروع من التمدد والتحرك بحرية وخبث، فالخلافات العربية بين الدول والحكومات غبشت الرؤية وجعلت الجميع يقاتل بعضه ويوجه سهامه الى الاتجاه الخاطئ، وسقطت الكثير من المسلمات والقيم والأخلاق العربية الأصيلة، وارتجت الأرض من هول ما يجري فيها من خيانات ومخازي وعداوات وخناجر مسمومة يغرسها الإخوة الأعداء في ظهور بعضهم البعض .
لم يعد للشارع العربي والمواطن العربي وجود، فكل أدوات الشارع العربي تم قهرها وكتم صوتها وتكميم أفواهها، فالقوى الحزبية على طول الوطن العربي وعرضه تائهة وضائعة، وظهرت قوى سلطوية جديدة غاشمة وطاغية تتحكم في القرار العربي وتنفرد به في مواجهة الجماهير، وتلعب أدوارها لصالح المشروع الصهيوني حتى تكتمل حلقاته وينفرد بقوته المطلقة ..
ما نراه ونتابعه صورة واضحة للمآل الخطير والبئيس الذي ستؤول إليه الأوضاع قريباً وقريباً جداً إن لم تستعد الأمة يقظتها وتستعيد قوتها الكامنة وتصحو بوعيها وتطوي صفحة هذا الواقع الكئيب ..
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة