الدولار الغلب الحكومة
في ثقافة البقارة وخصائص اشتهار شعرائهم وحكاماتهم، يتسمى الشعراء و(الهدايين) بأسماء ترمز للقوة والنجاعة والشجاعة والبراعة والتفوق، مثل (البلتون الضرب سفاهة) و (الجميل الغَلَب باللوح) و (المرفعين الطرد الأسد) (المسمار القَلَب القطر)و (الإسعاف الهزم المجروس) وغيرها من الألقاب التي تعطى لأهل القصيد الشعبي،
بينما تطلق ذات الألقاب على مصارعي جبال النوبة في حلبات (الصُّراع) خاصة من الحوازمة وبقية السكان من القبائل الأخرى التي تتصف بطبائع وثقافة البقارة، ومن هنا يمكن وصف ونعت الدولار بما سار به البقارة، فهذه المعركة الطاحنة بين الدولار وجنيهنا المغلوب على أمره، لم يتمكن الدولار من هزيمته إلا عندما خذلت الحكومة جنيهها وتركته عُرضة للتقريع والتشنيع والتبخيس، وذلك على مرِّ عهود الحكومات السابقة التي ارتضت لفترة أربعين عاماً الإذعان لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين، وأدخلت نفسها في مضاربات البورصة والسياسات المالية العالمية، واعتمدت الوصفات والروشتات العلاجية الاقتصادية الجاهزة التي تعطيها المؤسسات المالية الدولية للبلدان النامية حتى تزيدها فقراً على فقر وعجزاً على عجز، وتسقطها أسفل سافلين.
> ما تفعله الحكومات في الدول النامية في الغالب هو اتباع ما يقال لها، دون أن تحاول هي استنباط حلول موضوعية من عندها وفق واقعها وقدرتها على تحريك الاقتصاد وزيادة الإنتاج وحفز الشعوب على العمل والكد، وليس هناك في عالمنا الثالث أكثر وطأةً على الاقتصاد من المسؤولين الاقتصاديين ذوي ربطات العنق الأنيقة وهم يلوكون المصطلحات الاقتصادية الفجة، ويرددون منطق النظريات البالية، ثم يحشونها في آذان الشعوب الغافلة.
> قبل سنتين، كنا نستمع في العاصمة البيروفية للسيدة كريستين لاغارد المدير العام لصندوق النقد الدولي وهي تستقبل نسمات المحيط الهادي بوجهها الجامد الطويل وملامحها الدقيقة، وهي تحث دول العالم النامية على ضبط مؤشرات اقتصادياتها على توقيت الصندوق والبنك الدوليين، مما يعني أن كل دولة مارقة عن هذا النظام المالي الدولي لا يمكنها تجسير المسافة ما بين الفقر والصعود إلى أعلى إلا في حالة واحدة هي تنميط سياساتها الاقتصادية وبرامجها الإصلاحية والتجارية وأسواقها، وفق شروط البنك والصندوق، فكل شيء مربوط مع بعضه البعض الاقتصاد والسياسة والعالم المخفي والسري لدنيا المال والتمويل والقروض والمنح والتسهيلات.
> الصراع مع الدولار يحتاج إلى رباطة جأش أكبر وأعظم بكثير مما تبديه السلطات الرسمية وهي تلهث وراء لجم الصعود المخيف بلا طائل، ويقول بعض دهاة الاقتصاد شبه المزيفين، إنه بدون الإنتاج والإنتاجية والتصدير لا سبيل لوقف تصاعد الدولار، لكننا نرى دولاً بلا موارد ولا تمتلك 1% مما نصدره من صادرات استطاعت بفضل سياسات ضابطة وصارمة وتشدد داخلي وقليل من الإعانات، إخضاع الدولار وتقليل مخاطر ارتفاع سعره أمام العملات الوطنية ووقفه في حدود المعقول والمقبول.
> حكومتنا تعرف أين الداء, وتعلم علم اليقين من هم الذين يضاربون في الدولار وجعلوا منه سلعة تُباع وتُشترى وفق منطق السوق، وتعرف حكومتنا أكثر من أي أحد لماذا يرتفع الدولار وينخفض، فهي أكبر مشترٍ ومتعامل مع السوق كما يقول بعض أهل الاقتصاد والدربة والخبرة المالية، ولو أرادت الحكومة أن تجد حلاً لاستطاعت، ولو رغبت في الانتصار للجنيه السوداني لتم لها ما أرادت، فلو ضربت بيدٍ من حديد على تجار الدولار وأنهت سطوتهم، واتخذت جواذب حقيقية لمدخرات المغتربين وشجعتهم على تحويلها، ووطأت أكنافها للمستثمرين ورأس المال الخارجي، وتركت الحلول المعلبة التي ينتجها قطاعها الاقتصادي الفاقد للرؤية الشافية، ونظرت إلى حلول مبتكرة وجديدة لا تحتاج إلى عبقرية كما يقول د. عثمان البدري، ومزقت الوصفات التي تقررها وترسلها المؤسسات المالية الدولية التي يهيمن عليها الغرب بمفاهيمه الرأسمالية المتوحشة، وقللت الصرف الحكومي واقتنعت بجدوى تشكيل حكومة ضامرة الحشا ورشيقة القوام، لو فعلت ذلك، لن يجد الدولار بديلاً لحني رأسه وطأطأته، والتباطؤ في الصعود والتمهل قليلاً حتى يلحق به الجنيه ولو بعد حين.
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة