في وسط الخرطوم.. صيدليات تُخالف القانون أغلب ملاكها تجار لا علاقة لهم بالمهنة
توجد صيدليات بولاية الخرطوم توظف عمالة غير مؤهلة في بيع الأدوية للمرضى .. وآخرون لا علاقة لهم بمهنة الصيدلة أو الطب، وإنما يمارسون العمل بكل حرية ويصرفون الأدوية من خلال التجربة ومعرفتهم بمسميات الأصناف فقط .. وفي كثير من الأحيان يرشدون المريض إلى البديل الدوائي دون المعرفة بالمخاطر الصحية المصاحبة له.. هذا الحديث ذكره لـ(الصيحة) طبيب صيدلي كشف الغطاء عن مافيا مستترة تعمل تحت مسمى مساعدي (صيادلة) تضم عناصر مختلفة من الأفراد يتلاعبون بحياة المواطن، وصفهم بالصيادلة المزيفين الذين ساهموا في تفشي ظاهرة صرف وتناول الأدوية الخاطئة، التي راح ضحيتها الكثير من المرضى.
عمالة باهظة الثمن
فبحسب تقديرات محدثي أن في ولاية الخرطوم أكثر من (4) آلاف صيدلية، وما يفوق الـ(10) آلاف صيدلي يعاني نصفهم العطالة وبعضهم دخل السوق وعمل في المجال الحر، نتيجة الضغوط التي يفرضها أصحاب الصيدليات، التي يملك نصفها مستثمرون (تجار ـ أساتذة ـ ورجال أعمال) وغيرهم، يتحكمون في التوظيف ويستبعدون الصيدلي المتخصص لارتفاع راتبه الشهري، وأضاف أن بعضهم استعان بعمالة غير مؤهلة ولا علاقة لها بالطب أو الصيدلة، وأغلبهم من موزعي الأدوية الذين كانوا يعملون بشركات الدواء، وطالب بفرض رقابة على الصيدليات والتأكد من أن العاملين بها يحملون شهادات في مجال الصيدلة أم لا.
الشافي .. القاتل
(الدواء) من السموم التي يجب أن يتعامل معها الإنسان بحذر، ولكن في ظل وجود عمالة غير مدربة وصيادلة تنقصهم الخبرة، تحول إلى سلعة يتم تداولها بدون وصفات طبية وأضحى من السهولة الحصول عليه بمختلف أنواعه، هذا ما أشار إليه عدد من المواطنين الذين استطلعتهم (الصيحة) خلال رحلة بحثها للتأكد من حقيقة صرف الدواء بواسطة عمالة (عادية) غزت الصيدليات بشكل مخيف، وأصبحت تنافس الصيادلة في الأجور، وأبدى المواطن (أحمد سمير) استغرابه لعدم دراية أغلب العاملين في الصيدليات بدولة المنشأ أو الدواء الأفضل للحالة المرضية، في بعض الأحيان يقومون بصرف أدوية بديلة لا تفيد المريض وإنما تعمل على زيادة المرض، منتقداً سياسة التوظيف داخل بعض الصيدليات، وحمل الجهات المختصة مسؤولية الأخطاء التي يتعرض لها المريض ابتداء من (تفاوت الأسعار إلى الغش) في الدواء الذي لا تحكمه قواعد أو ضوابط.
تجربة مريرة
لم تكن عملية اكتشاف وجود عامل يقوم بمهام الصيدلي مسألة صعبة على (مروة أحمد) التي لجأت لإحدى الصيدليات في محلية أمدرمان تسأل عن مضاد حيوي لعلاج الالتهاب الذي أصابها، فنهض عامل النظافة من مقعده بالصيدلية وأعطاها الدواء الذي طلبته، لتكشف لـ(الصيحة ) أنه ومن خلال تجربتها تأكد لها أن العاملين في بيع الدواء داخل بعض الصيدليات مجرد باعة يحفظون أسماء الأدوية فقط، تقول عند تناولها الدواء شعرت بحالة خمول ونعاس شديد، وقضت النهار كله نائمة كالميت دون حراك، وعندما راجعت الصيدلي المسؤول في الصيدلة تقدم لها باعتذار وقام باستبدال الدواء بآخر، وما لفت انتباهها أنه لم يهتم لأمر العامل الذي يبيع الأدوية أثناء فترة غيابه. التجربة التي مرت بها (مروة) جعلتها تنادي بضرورة إجراء حملة تفتيشية للعمالة داخل الصيدليات والتأكد من أن العاملين (صيادلة) وليسوا مجرد (جربندية).
مجرد معاهد
بعد الاستماع إلى إفادة المواطنين، توجهت نحو عدد من الصيدليات بوسط الخرطوم لمعرفة رأي الصيادلة حول القضية، حيث قال الصيدلي (الطاهر حسن) في فترة سابقة كانت بولاية الخرطوم معاهد تدرس الطلاب فنون العمل الصيدلي بنظام الكورس (ثلاثة) أشهر استعدادًا للعمل بالصيدليات، ونسبة للأخطاء التي ظهرت من خلال الصرف الخاطئ للأدوية، والتعامل في الدواء منتهي الصلاحية وغيرها من الأخطاء الأخرى، قامت وزارة الصحة بإلغاء الكورسات، وتم استبدالها بدبلوم صيدلة وهؤلاء يتم تعيينهم بالصيدليات تحت مسمى (مساعد) صيدلي، وهم من الكفاءات والخبرات، وبعيدون كل البعد عن الممارسات الخاطئة، لكنه أشار إلى أن القطاع أصبح وجهة للمستثمرين والتجار الذين لا علاقة لهم بالمهنة من بعيد أو قريب، وإنهم يقومون بتوظيف صيدلي بدرجة اختصاصي ومعه بعض العمالة (حافظو الأسماء) الذين يقومون بترتيب الأرفف وتوزيع الأدوية حسب الأصناف، والبعض منهم من فئة موزعي الأدوية على الصيدليات من قبل الشركات بالولاية.
تعيين غير مرشد
فيما أكد الصيدلي (أيمن) وجود الظاهرة، وأشار إلى إحدى الصيدليات تم إغلاقها في الفترة الماضية نتيجة التعيين غير المرشد للعاملين بالصيدلية، ودورهم في صرف دواء خاطئ لطفلة أدى إلى وفاتها، ودافع عن مساعدي الصيادلة الذين يحملون شهادات جامعية، وطالب بإغلاق الباب الذي دخل من خلاله التجار والجزارون وغيرهم من أصحاب المال الذين أصبحوا يمتلكون صيدليات ويتلاعبون بحياة الناس دون أن يتصدى لهم أحد، ووافقه الرأي الصيدلاني (محمد سالم) الذي اتهم ملاك الصيدليات باستسهال عملية التعامل مع المريض وترك حياته بين يدي تجار وعمال نظافة يصرفون له ما يعجبهم من الأصناف، وقالت الصيدلانية (ملاذ محمد) بصيدلية (المودة) إنها سمعت كثيراً عن صيدليات تقوم بتوظيف عمال لبيع الدواء، وأكدت دور هذه الفئة في انتشار ظاهرة صرف الأدوية بدون (روشتات)، كما أنهم تسببوا في حدوث فوضى بالقطاع وتوجيه الاتهام للصيادلة بقلة الكفاءة من قبل الكثيرين.
اتهام واضح
فيما اعتبر دكتور (نصري مرقس) الرئيس السابق لشعبة الصيدليات صرف الأدوية بدون وصفة طبية (روشتة ) أمراً غير قانوني، وفي غالب الأمر يتم بصورة مكثفة من قبل العاملين وهم مساعدو الصيادلة وقلة من الصيادلة الكبار أنفسهم، وحذر خلال حديثه من ظاهرة صرف الأدوية بدون روشتات خاصة فيما يتعلق بالمضادات الحيوية، قائلاً إنها نشأت نتيجة لمنهج خاطئ من بعض الأطباء الذين يكتبون المضادات الحيوية وغيرها من الأدوية الأخرى للمرضى دون فحص للميكروبات ولحساسيته للمضاد ومدى حاجة الحالة المرضية لوصفه، هذا الأمر خلق رغبة من قبل الكثير من المواطنين لأخذ علاج لحالات بسيطة بادعاء أن طبيبهم سبق وكتب لهم هذا الدواء، ونبه إلى أن تناول الأدوية بشكل خاطئ يعمل على خلق أجيال من الميكروبات ذات مناعة عالية تجاه المضادات الحيوية التقليدية وتحويلها إلى مضادات حيوية بدرجات عالية، مما يزيد من تكلفة العلاج التي قد يعجز المواطن في الحصول عليه، بالتالي ينعكس الأثر على الاقتصاد القومي لتحمل الدولة نفقة العلاج مما يتطلب تكثيف عمليات الوعي الصحي من خلال القطاع الطبي وأجهزة الإعلام .
أمر خطير
دكتورة نادية يوسف محمد مسؤولة المناهج والمهن الصحية بأكاديمية العلوم الطبية، استنكرت وجود مساعدي صيادلة يعملون بدون مؤهلات علمية، وأشارت إلى أن مساعدي الصيدلة الذين يتخرجون من الأكاديمية يعملون في الولايات وتحت رقابة وضوابط صارمة، وأوضحت أن الأكاديمية لا علاقة لها بمساعدي الصيدلة الذين يعملون في صيدليات ولاية الخرطوم، وبينت أن مساعد الصيدلي معتمد من التعليم العالي ويتم تسجيلهم في مجلس المهن الطبية، ووصفت وجود عمالة غير مؤهلة تعمل في صرف الدواء في الصيدليات بالأمر الخطير الذي يهدد حياة الإنسان، باعتبار أن الدواء سم ويجب التعامل معه بحذر، موضحة أن مهنة الصيدلة تعتمد على دراسات عالمية، ومهارة وسلوك التعامل مع الدواء وأن منهج الأكاديمية إرشادي ومتقدم جداً ويضم إرشادات ونصائح للمريض بكيفية استخدام الدواء ومضاعفاته وعلاقة الدواء بالأطعمة وحساسيتها.
عقوبة رادعة
وقال دكتور (عصام أحمد محمد صادق) أمين الشؤون العلمية للأكاديمية: ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من الأعمال غير الأخلاقية في مجال الصحة على مستوى العالم والسودان جزء منه، حيث إنه يتأثر مثله مثل الدول النامية، مبيناً أن المعاون الصحي تحدد له الأدوية التي يتعامل معها وكيفية وصفها للمريض، وأن الأكاديمية تتمسك بأخلاقيات المهنة، وتقوم بتدريس الأدوية المنقذة للحياة لمساعدي الصيادلة لكي يعرفوا كيفية التعامل معها.
و يقول دكتور (صلاح الدين إبراهيم) رئيس اتحاد الصيادلة إن مساعدي الصيادلة مثلهم مثل مساعد الطبيب، يتلقون كورسات (دبلوم) في الصيدلة، ويتخرجون من الجامعات بصفة مساعد صيدلي ولا يحق لهم العمل إلا تحت إشراف صيدلي اختصاصي، وتنحصر مهامهم في مناولة الدواء للاختصاصي فقط، وفي حال حدوث أي مخالفة فإنه يحاكم وفقاً للقانون.
الرقابة ثم الرقابة
مشيراً إلى أن المهنة تحددها ضوابط ومحكومة بقانون جنائي (الأدوية والسموم) الذي يعتبر من أقوى القوانين، وتصل عقوبته إلى السجن أو الغرامة أو العقوبتين معاً، مؤكداً على وجود عمالة بالصيدليات غير مؤهلة بالشكل الكامل مما فرخ صرف الأدوية الخاطئة للمواطن، مناشداً الصيادلة بالرقابة وعدم تعيين أي فرد لا يحمل صفة صيدلي في بيع الدواء، وحول صرف الأدوية بدون روشتات أشار إلى أن هناك بعض الأدوية مسموح بصرفها بدون وصفة طبية (روشتة) مثل الأدوية المزمنة المستدامة الخاصة بمرضى (السكري ـ والضغط) وغيرها، وذلك من خلال خبرة الصيدلي الذي هو أعلم من أي جهة بمدى فاعلية الدواء، وأخرى يجب أن لا تصرف إلا بواسطة روشتة مختومة من اختصاصي، وطالب بتفعيل الرقابة على العمل لأن هناك دخلاء لا علاقة لهم بالمهنة قاموا باستغلالها بشكل سلبي، وناشد المجلس الأعلى للأدوية والسموم وإدارة الصيدلة والصيدليات بالمحافظة على المهنة وحمايتها.
تحذير سلطات
وفي سياق ذلك اتخذت السلطات الصحية الكثير من الإجراءات لضبط العمل في الصيدليات، وفرضت العديد من الضوابط التي تحد من عملية صرف الأدوية بدون روشتات طبية، وحذرت وزارة الصحة بولاية الخرطوم في وقت سابق من مغبة صرف أي مضاد حيوي بدون الرجوع للطبيب لتحديد المضاد المناسب للمرض، وأشار د. (محمد علي) مدير عام الوزارة إلى أن الاستخدام الخاطئ للمضادات أحدث درجة كبيرة من المناعة ضد هذه المضادات مما يهدد بالخطر الكبير لفقدان الدور العظيم الذي تلعبه المضادات.
الخرطوم: إنتصار فضل الله
اخر لحظة