الصادق الرزيقي

بونا يأتي متأخراً


لم تكن منطقة أبيي وسودانيتها في حاجة لاعتراف كبير وعريض من السياسي الجنوبي السيد بونا ملوال أحد أبرز رموز قبيلة الدينكا والوزير في عهد مايو، والمستمر في نشاطه السياسي زهاء أربعين سنة دون توقف في مضمار صعب وقاسٍ مثل العمل السياسي والتعاطي مع قضايا السودان وجنوب السودان،

ولو قال بونا ما قاله أمس في مؤتمر صحفي بالخرطوم من سنوات قبيل اشتداد السُعار لدى بعض أبناء دينكا نقوك قبل الانفصال، لتغير وفقاً لمضمون نطق به أخيراً مسار القضية، ولقلنا شهد شاهد من أهلها وقطعت جهيزة قول كل خطيب، ولكن رغم ذلك لشهادته واعترافه قيمة كبيرة أيضاً لا يفل حديدها الميقات والزمان والسياق الذي قيلت فيه.

> قضية أبيي .. تعود إلى واجهة الأحداث من جديد نتيجة لعوامل كثيرة وتفاعلات جديدة في دولة جنوب السودان، وبالحديث الاعترافي للسيد بونا، فهي لم تمت بالنسبة للسودان أو لأهلها الأصليين وهم قبيلة المسيرية، وقد كان للموقف الرسمي لحكومة دولة الجنوب بعدم الاعتراف بالاستفتاء الأحادي الجانب الذي أجراه أبناء دينكا نقوك من الناشطين في صفوف الحركة الشعبية في أكتوبر 2013م، دور كبير في طمر الآراء السياسية المتشنجة التي كانت تصدر من داخل مجموعة أبناء أبيي في الحركة الشعبية، وتشتت شمل تلك المجموعات ولم يعد لها صوت إلا عند استرجاع هذا الملف في بعض الأحيان، وصمت المجتمع الدولي والدوائر التي كانت تثير القضية، ونذكر هنا أنه في عام 2015م كان السيد الدكتور فرانسيس دينق مندوب دولة الجنوب لدى الأمم المتحدة يومها يعمل بكل ما يستطيع لإقناع وفد من أبناء قبيلته زار نيويورك في ذاك الأوان، بضرورة الجلوس مع المسيرية لتوليد حل توافقي متراضٍ عليه بين الفريقين يسهل عملية تسوية القضية، وطالب بعدم التصعيد لأنه لم تعد هناك آذان صاغية في العالم لهذه القضية بعد انفجار الصراعات في دولة الجنوب وتصنيفها بأنها دولة فاشلة.

> إذن لا يمكن التعامل مع قضية أبيي وما يحدث من تطورات بشأنها وتغيير في وجهات النظر من النخب السياسية والمتعلمة في دولة جنوب السودان عن الظروف والمناخ الذي أحاط بهذه الدولة خاصة خسران السيد سلفا كير حلفاء داخليين جعل المعادلات تختل، وخسرانه أيضاً بالتساوي مع أبناء أبيي إحدى أهم الركائز التي تضبط المعادلات الجنوبية للدينكا، وهو الجنرال المبعد بول ملونق وأبناء منطقة أويل وشمال بحر الغزال، فضلاً عن أن دينكا توج وبقية فضائل الدينكا في مناطق متفرقة من الجنوب لديهم أولويات أخرى وحادثات جسام أهم بكثير من التنازع حول هوية وانتماء منطقة أبيي التي يقرون في قرارة أنفسهم بأنها سودانية مائة بالمائة، فهذه العوامل المختلفة تجعل قضية أبيي قابعة في آخر قعر الاهتمامات والشواغل الجنوبية، كما هي بالطبع تحت درجات السلم في الترتيب الدولي للقضايا المثيرة للانتباه.

> ونعلم جيداً أن القضية ظلت ساخنة في سنوات ما بعد اتفاقية السلام الشامل لضرورات الاستهلاك السياسي بالنسبة للحركة الشعبية قبل الانفصال وبعده بقليل، وكانت منطقة مزايدات وتربح وتكسب سياسي حققت منه فوائد متعددة، ولم تكن مجموعة أبناء المنطقة داخل الحركة الشعبية ترغب في حل معقول حتى بعد حكم المحكمة في لاهاي، وكانت الحركة الشعبية في تلك الفترة تستخدم قضية أبيي كمفاعل لتحريك الشعور والوجدان الجنوبي ضد السودان، ظانة أنها قضية يمكن أن توحد صفوف الجنوبيين ضد الشمال وضد الخرطوم، بينما كانت الحقائق على الأرض تقول إن التاريخ والجغرافيا لا يمكن تغييرهما مهما كان، فتبعية المنطقة للشمال وللسودان حقيقة واقعة يسندها ما هو على الأرض ويدعمها ما هو كائن والمعلوم بالضرورة عن الظروف التاريخية التي مرت بها هذه البقعة العزيزة من أرض السودان.

> ويُشكر السيد بونا على حديثه المتأخر جداً، لكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، وليت كل الساسة الجنوبيين يقولون الحقيقة التي يعرفونها جيداً، ويخرجون من شرنقة العداء المصطنع لكل ما هو سوداني، ويسعون إلى تجسير الهوة وتقريب وجهات النظر، علَّ ذلك يسرع بتفاهم أوثق مع السودان وربما عودة محتملة!!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة