الصادق الرزيقي

من سان خوسيه لسان سلفادور.. أم كيكي ووطن الحزن..

(أ)
كانت الطائرة تنعطف في دورة واسعة فوق مياه المحيط الهادي، وركامات من سحب بيضاء ترسم لوحة مع ضوء الشمس الباهت قبيل المغيب تتمايل الطائرة وترتجف وتحاذر وهي تنسرب بين كتل السحاب كمحارب يتخطى الفرسان من حوله وامامه،

كانت سماء خليج (غونا كاستيه) في كوستاريكا او الساحل الغني، هي نفس المناطق التي زعم ان الاهالي شاهدوا فيها سحباً ملونة وكأن السماء انشقت هناك في ظاهرة كونية غريبة لم يعرف كنهها وسر وغموضها حتي اليوم.
كانت الألسن التي تتراطن داخل الطائرة، إسبانية وبرتغالية وانجليزية، ولعل اللسان العربي الوحيد كان لساني، فقد اقلتنا الخطوط الجوية اللاتينية وتسمى ( افيانكا ) وهي شركة تتبع لعدد من دول القارة الايبيرية، اقلتنا من العاصمة ليما في البيرو، وعبرت فوق الاكوادور لترسم هلالاً ضخماً لمسارها متجهة نحو المحيط الهادي الملبد بغيوم داكنة وضباب كثيف، تجاوزنا وفق خريطة مسار الطائرة كما تظهر في الشاشات امامنا، الاجواء الكولمبية وسط ثرثرة غير مفهومة لبعض الركاب وقد غط بعضهم في نوم عميق وعلا شخير البعض، وفي المياه الزرقاء الباسفيكية كانت السفن التي عبرت للتو قناة بنما تتابع كما قطعان الأبقار قبل أن تفترق في أعالي البحار او بالاحرى أعالي المحيط ، وعندما أعلنت المضيفة بصوتها الرقيق الآمر عن ربط الأحزمة في منطقة السحب المتراكمة كأكوام الحطب وكتل الدخان، تلاحظ أن السحاب هنا يتكاثف ويتكون بشكل طولي مرتفع، فهي ليست سحباً مسطحة منبسطة كما في بلادنا حتى عندما تخترقها الطائرات، وربما كانت هذه خصائص المناخ في الساحل الغربي لأمريكا الوسطى فوق تلاطم أمواج المحيط الهادي أكبر محيطات الكرة الأرضية وأغربها، ساكنٌ بضبابه، هائجٌ بظلامه وعبابه، وغامضٌ موجه وسحابه، يا له من محيط غريب بحياته المائية وجزره التي لا تحصى ولا تعد .. ربما لم ينتبه أحد من ركاب الطائرة لموسيقى انبعثت من مكبرات صوت الطائرة لــ(فالس) قديم أو ربما (سالسا) جديدة طروبة، لأن المشهد كله والشمس الغارقة حتى نصفها في الأفق الغربي البعيد قد أخذ لباب المسافرين.
(ب)
في منخفض بين جبال شاهقة تكسوها حلة خضراء خلابة المنظر، بدت ملامح العاصمة الكوستاريكية (سان خوسيه) تلوح بمبانيها العالية وتلالها المكتظة بالمساكن والعمارات المنخفضة الطوابق والفلل الراقية، مدينة موزعة على تلال منخفضة تقع كلها في بطن وادٍ ضخم أو أخدود عظيم تحاصره الجبال العالية من كل مكان، وبدأت الأضواء تتوامض وتقترب حتى انزلاق الطائرة في مدرج المطار الأنيق والأكثر نظافة في العالم، حيث تحتل كوستاريكا المرتبة الأولى في الحفاظ على البيئة والمعدل المنخفض للغاية في انبعاث ثاني أكسيد الكربون، وبها أكبر المحميات الطبيعية ومساحات الزهور والنباتات في العالم.
شوارع العاصمة المتدحرجة والصاعدة مرتبة ومنظمة كأنما رسمتها ريشة فنان مبدع وبارع ، تعبر الشوارع والمنتزهات والساحات والميادين والمباني الحديثة عن هذا الساحل الغني في امريكا الوسطي التي كانت في السابق مجرد جزء من جمهوريات الموز الأمريكية، لكنها كما هو معروف من أعرق ديمقراطيات في العالم، وتنتشر ظاهرة الشباب الرافض لكل شيء في طرقات المدينة ووسطها لقصات شعرهم المميزة والغريبة والموسيقى الصاخبة والحب الجنوني لكرة القدم، خاصة المنتخب القومي الكوستاريكي، لكن الصرامة والانضباط بالقانون والنظام المدني والوعي الاجتماعي يسيِّج الحياة العامة ويعطي الإجابة بأن المزاوجة ما بين حرية الشباب ومسؤوليتهم الوطنية لا يمكن القفز منها إلى ساحة الانفلات..
(ت)
في غمرة انشغالاتي بمدينة سان خوسيه الساحرة، مررت برجل يعزف على آلة من وتر واحد، بها قوس مصنوع من غصن شجرة جاف ثناه على هيئة قوس الكمان، كانت مهارته مذهلة، وبعض المارة عند منعرج الطريق في قلب العاصمة على مقربة من كنسية (سيدة الملائكة) ينفحونه بعملات معدنية يقذفونها في بطن قبعته الضخمة ويهتفون له (بورا فيدا) أي تحياتنا، يرتدي بنطالاً أسودَ ضيقاً وقميصاً أزرق عليه عباءة واسعة من الصوف بلا أكمام، مثلثة الشكل تمتد حتى ركبتيه، أعطته شكله وملامحه الإنديزية الغائرة في لحم التاريخ..
توقفت طويلاً لهذا المشهد، لأنني تذكرت عازفاً مثله، وربما يكون أبرع منه، في بلدي هناك في مدينة نيالا، كان يأتي من الفرقان أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ونحن أطفال نشاهده في السوق الكبير وسوق (أم دفسو) وفي شارع الضعين أمام اللواري التجارية وفي سوق العيش، يحمل آلته الموسيقية الأثيرة (أم كيكي) صنعت من القرع المجوف وعليها غطاء من جلد البقر، ووترها المشدود يئن من العزف عليه ويخرج لحناً لا مثيل له، والرجل يتمايل معه مغمضاً عينيه كأنها في حالة جذب صوفي مجيد..
(ث)
عازف «أم كيكي» الكوستاريكي، يتكسب من لحنه، والنقود تتقاطر كزخات المطر على قبعته الضخمة، بينما عازف «أم كيكي» السوداني، كان يتمتع بحس فني راقٍ، لا يبيع إبداعه ولا يتربح من تلك المعزوفات التي جادت بها فطرته وسليقته وذائقته اللحنية المدهشة، يرتدي جلباباً من الدمور السميك، ومركوباً من جلد الغنم أكل عليه الدهر وشرب، وصار في لون أسود مثل عود التقطيع في جزارة الجزار (ضلمة) في حي طرفي بنيالا لطخ الدم وما في أحشاء الغنم والضأن والأبقار، العود الضخم حتى صار في اللون البني الغامق، وللرجل طاقية ممزقة حمراء اللون وضعها على رأسه الذي يشبه سرج الدراجة مفلطح من الخلف وحاد من الأمام أعلى الجبهة، له عينان كعيني نسر كاسر تعبر عن ذكاء حاد وإبداع مغروس في الأعماق، له لحية مدببة تشبه ذقن «التيس» الجامح، يعاني من حساسية الأنف بشكل دائم، اتخذ خرقة قديمة وهي قطعة من ملاءة عتيقة كمنديل يمسح به أنفه السائل، لم تعرف قدماه ولا يديه في يوم من الأيام مرطب للبشرة أو زيت، فهو أغبش اليدين والقدمين بشكل لا يصدق، رقبته نحيلة طويلة تظهر «تفاحه آدم» في وسط عنقه تتحرك أعلى وأسفل كحركة بابور «الدوانكي» القديمة..أما ألحانه، فهي مستوحاة من البيئة المحلية والتراث الشعبي، مثل نظيره الكوستاريكي الذي استل ألحانه من رف قريب من رفوف التمازج بين السكان المحليين في أمريكا الجنوبية والمستعمرين الإسبان الذين أزاحوا الحضارات القديمة والأصلية وسقوا السكان أصحاب الأرض والتاريخ من كؤوس العذاب المهين.
(ج)
لم تكن المسافة ما بين (سان خوسيه) عاصمة وكوستاريكا، وسان سلفادور عاصمة السلفادور، بعيدة، تقطعها الطائرة في نصف ساعة أو تزيد، وربما لا تحلق في ارتفاع عالٍ، لكن الفرق بين المدينتين كبير جداً، فالسفادور التي انهكتها الحروب والانقلابات والعصيانات والتمردات والفقر، عاصمة يائسة حائرة، رغم طبيعة البلد الخضراء والثروات المطمورة، إلا أن الاضطراب السياسي حرمها من التمرغ في تراب الثراء الذي تعيشه كوستاريكا، من المطار تشعر بالفرق، ليست هناك صالات انتظار تسع الركاب القادمين والمغادرين أو العابرين عبرها، كلهم في صالة واحدة يحجزونهم بحبال تفصل بينهم أو برجال أمن المطار الذين يصيحون في الركاب ويوجهونهم هنا وهناك.. والتفتيش في المطار يدوي وبدائي وممل وطويل وعقيم، ليس في المطار مطاعم سوى مقاه تقدم الشاي والقهوة بالحليب والبسكويت الرخيص، لا خدمة (واي فاي) ولا أية نعمة إلكترونية..
هناك في طرف قصي جلست أمام شيء يشبه الطبلية في وسط المطار سيدة تخطت الأربعين بقليل، قصت شعرها وجعلته قصيراً كفتى مشاغب، لكن ملامحه هادئة عيناها عميقتان غائرتان، تبدو عليها ملامح محنة ما، تبيع بعض الأشياء كالحلوى والسجائر ومقتنيات تراثية وتحف صغيرة في صمت غريب، تكتب للمشترين سعر ما يريدونه على آلة حاسبة تحملها في كفها، لأنها لا تجيد غير لغتها، لكنها صارمة في التعامل مع رجال أمن المطار الذين يضايقونها بين الفينة والأخرى بلا سبب، فهي حاصلة على تصديق يمنحها ذلك..
تذكرت (حواية) وهي بائعة محلية في قرية تقع في طريق نيالا كاس زالنجي، تتوقف فيها اللواري السفرية والسيارات العابرة، تجلس في راكوبتها تبيع البركيب (الزيادي البلدي)، ومأكولات شعبية والشاي، صارمة الملامح مخلصة لعملها، تخفي وراءها محنة كبيرة فقد فقدت كل أسرتها في حرب ونزاع قبلي مطلع الثمانينيات، وتزوجت شيخاً من قريتها وأنجبت له طفلين لكنه مات ونازعها أبناءه الكبار في كل ما يملكه وهو مزرعة صغيرة وحمار وثلاثة عشر رأساً من الغنم العجفاوات الهزيلات.. لكنها صامدة تقاسي الحياة..
الفرق بين الأنموذجين.. عازفي «أم كيكي» وبائعتي المأكولات والمشروبات الأغراض للمسافرين، إن الحياة هي الحياة، والظروف هي الظروف والبشر هم البشر، مهما اختلفت البلدان والأصقاع والمجتمعات، هناك شيء مركوز في داخل الإنسان.. إبداعه وحزنه.. الإبداع لا مكان له ولا عنوان.. وكذلك الحزن..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة