هل يتوقف الكون عن التمدد.. ومتى؟
حين وضع الفيزيائي الشهير ألبرت آينشتاين نظريته المعروفة بالنسبية العامة عام 1916 -والتي تدور أحداثها بشكل رئيسي حول الجاذبية وكنهها- وجد من ضمن حلول معادلاته أمرا غريبا، هو أن الكون يجب أن يكون في حالة اتساع مستمر.
لكن نتيجة كهذه مثلت كارثة بالنسبة لمعتقدات آينشتاين التي تؤمن بأن شكل الكون لا يمكن أن يتغير، وعليه فقد قام بإضافة قيمة ثابتة حرفت المعادلات لتجعل منه كونا ثابتا.
ومرّت السنون دون أن يقتنع هو بنتائج معادلاته، إلى أن وجد الفلكي الأميركي إدوين هابل من وراء عدسات تلسكوب جبل ويلسون بكاليفورنيا في نهاية العشرينيات أمرا غريبا جدا، هو أن ضوء المجرات ينحاز أكثر إلى الطيف الأحمر، وليس لذلك تفسير سوى أن المجرات تتحرك بعيدا عنا وأن الكون يتمدد، وهي النتيجة نفسها التي كان حصل عليها آينشتاين في نظريته النسبية.
أثار هذا الاكتشاف وقتئذ موجة قلق عارمة في صفوف علماء الفلك ما بين مؤيد ومعارض، فهي تدل على أن الكون لا بد أنه كان مضغوطا في نقطة واحدة ثم تفرق.
وعليه فقد ظهر فريقان متعارضان: أحدهما ينكر التمدد ويؤمن بأن الكون ثابت وأنه لا يجوز أن يتمدد لأنه سيخلق فراغا ومن أين نملأ هذا الفراغ بعد ذلك لأنه مناف لقوانين حفظ الطاقة، والثاني مؤيد للتمدد ومؤمن به.
بيغ بانغ
وبطريق الصدفة التي جاءت على سبيل التندر، أطلق الفلكي البريطاني المعارض للتمدد فريد هويل على بداية الكون اسم “بيغ بانغ” بمعنى الانفجار العظيم، متهكما على أصحاب النظرية بأنهم سيزعمون أنه قد بدأ من انفجار كهذا، وهذا ما حدث فعلا، فمع زيادة الأرصاد تتالت الأدلة على صحة هذه النظرية. فما نظرية الانفجار العظيم وكيف حدث هذا الانفجار؟
يتصور أصحاب هذه النظرية أن الكون كان منضغطا في نقطة لانهائية الصغر، كانت تحوي مادة الكون كله.
ولسبب غير معلوم، وبعد مرور زمن متناه في الضآلة لا يمكن قياسيه (يقدر بـ10-43)، انفجرت هذه البيضة الكونية انفجارا مدويا ولد على إثره المكان بأبعاده الثلاثة، وولد الزمان الذي يعده آينشتاين البعد الرابع في الكون.
واستمرت هذه المادة بالتمدد والبرودة إلى أن مرّ على ذلك قرابة ثلاثمئة ألف سنة هبطت بعدها الحرارة إلى قدر يسمح لذرتي الهيدروجين والهيليوم بالتشكل، ثم ظهر النور فجأة بعد أن كان الكون معتما مظلما، فانطلقت الفوتونات تجوب أرجاء ذلك الكون، وهي التي لا تزال بقاياها موجودة حتى يومنا هذا بما يعرف بالخلفية الميكروية للإشعاع الكوني التي قام العالمان بنزياس وويلسون في عام 1965 باكتشافها من خلال تلسكوب راديوي لاقطه على شكل بوق، إذ كانا يسمعان هسيسا قادما من كل اتجاه يوجهون البوق نحوه، ولم يكن ثمة تفسير سوى أنها بصمات الكون الأولى، ذلك أن درجة حرارتها المقاسة تعادل ثلاث درجات مطلقة أو ما يعادل 270 درجة مئوية تحت الصفر، وهو تماما ما تنبأت به حسابات نظرية الانفجار العظيم.
وبذلك أصبح لهذه النظرية داعمان: تباعد المجرات، واكتشاف الخلفية الميكروية ذات الحرارة الضئيلة هذه.
ثم جاء الداعم الثالث، وهو نسبة الهيدروجين في الكون إلى الهيليوم التي حسبت النظرية أنها 75% للهيدرجين و 24% للهيليوم، وهو الخبر الذي أيدته نتائج أرصاد القمر الصناعي “دبليوماب” (WMAP) في بداية الألفية الجديدة لتطابق تماما ما تنبأت به النظرية من قبل، ولتصبح بذلك أقوى نظرية تحاكي بداية الكون ونشأته الأولى.
أفكار جديدة
ومع تقدم العلم وإطلاق التلسكوبات الفلكية إلى الفضاء، أخذت أفكار جديدة تتشكل بشأن الكون ومادته التي نراها، فقد ثبت للعلماء أن جل ما نراه من مادة على شكل مجرات وسدم ونجوم وغيرها مما يمكننا رصده إن هو إلا 5% من مجموع كتلة الكون الحقيقية وطاقته.
ذلك أن الفلكيين تساءلوا أيتمدد الكون إلى ما لا نهاية أم أنه سيتوقف وربما يعاود الانكماش مرة أخرى في انهيار عظيم يعيد كل ما تم بناؤه أثرا بعد عين؟ فقاموا وفقا لهذه الفرضية بدراسة كثافة الكون مقارنة بسرعة تمدده التي تزداد كلما كانت المجرة أكبر، وهو ما جعلهم يضعون تقديرا لعمر الكون وحجمه، فعمره المقاس حاليا يعادل 13.77 مليار سنة، وأقدم ضوء وصلنا من مجرة جاء من مسافة 13.4 مليار سنة ضوئية (السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة وتعادل قرابة عشرة تريليونات كيلومتر) وهذه المجرة تدعى “GN-z11” التقط ضوءها تلسكوب هابل الفضائي في العام 2016. أما قُطر الكون فيقدر حاليا بـ91 مليار سنة ضوئية.
لكن أرصاد تلسكوب الفضاء هابل أظهرت في العام 1998 أن الكون لا بد أنه كان أبطأ تمددا مما هو عليه الآن، بمعنى أن الجاذبية لم تكن تبطئ في سرعة تمدده، على العكس كانت تزيدها. وقد عزي أمر تسريع تمدد الكون واستمراريته حتى اليوم إلى ما عرف مؤخرا بالطاقة المظلمة التي يرى العلماء أنها لا بد أن تشكل ما نسبته 72% من مجموع الطاقة والكتلة في الكون، وأن باقي النسبة المئوية -وهو قرابة 23%- يشكل ما يعرف بالمادة المظلمة التي بدأ العلماء وضع تصورات عن كنهها والتقاط بعض ما يمكن الاستدلال منه على وجودها، من هالات تحيط بالمجرات وبالعناقيد المجرية في الكون، بما يرفع من احتمال أن يظل الكون متمددا بشكل ثابت بحيث تكون كثافة المادة فيه مساوية للقيمة واحد صحيح، فلا يعود ينكمش على نفسه ولا يستمر بالتسارع، ليعرف كوننا باسم الكون المنبسط أو المتمدد بسرعة ثابتة إلى أجل غير معدود.
والانفجار العظيم هو خلق جديد لكل ما يعرف بالزمكان، فليس هناك مصطلح اسمه “خارج” الكون، لأن الخارج والداخل والمادة والطاقة والزمان الذي نحسبه على إطلاقه كالماضي والحاضر، كلها خلقت بخلقه، فهو بداية الزمان وبداية المكان.
ولو وجد العلماء مستقبلا أن كتلة الكون أكبر مما هي عليه الآن -أي أكبر من واحد صحيح- فإن ذلك سيعني أن الكون مغلق ومنكمش، وسيؤدي ذلك إلى توقفه عن التمدد ومن ثم انهياره بما يعرف بالانكماش العظيم.
ويقدر الفلكيون حصول هذا الحدث بعد مرور خمسين مليار سنة على عمر الكون، لتنهار مادته مرة أخرى وتنضغط إلى مرحلة التفرد تتصف بها الثقوب السوداء والتي جاذبيتها أعظم من أن يهرب منها فوتون الضوء، وهي حال الكون الذي تنبأت به نظرية الانفجار العظيم قبل أن يقال له “كن”، فكان.
وتبقى معضلة فيزيائية واحدة يعجز العلم عن حلها، وهي ماذا حدث قبل وقت الانفجار بين الصفر والزمن عشرة للقوة سالب 43 التي يحسبها العلماء زمنا أولا للانفجار العظيم، من أين صدر الأمر، وكيف انفجر هذا الكون المتفرد في نقطة لانهائية الصغر، نقطة الثقب الأسود الأولى؟
المصدر : الجزيرة