مونديال 1978.. أن تقتل شعبا لأجل كأس العالم
يشتهر كأس العالم 1978 في الأرجنتين بكونه النسخة التي رفض يوهان كرويف، الهولندي الأكبر، المشاركة فيه. وكان ذلك لأسباب سياسية. ما نعرفه عن هذه الأسباب يكفي لتفهم موقف كرويف. حيث اتهمت وزارة الداخلية هناك بالمسؤولية عن العديد من حالات الاختفاء القسري في عام 1977. واتهمت الحكومة هناك باستخدام الرياضة كوسيلة ترويج للنظام العسكري الحاكم. و لكن ما عرضه “سايمون كوبر” في دراسته حول هذا المونديال، والمنشورة في كتابه “الكرة ضد العدو”[1]، يكشف أفقًا جديدًا من توحش حكومة الجنرالات هناك. والتي صعدت لمنصة الحكم بانقلاب عسكري سبق كأس العالم بعامين فقط. وهذا التقرير يعرض هذه الدراسة الطويلة.
“كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام؛ وكثيرًا ما يرهن السياسيون والدكتاتوريون على هذه الروابط. ففصيلة كرة القدم الإيطالية ربحت موندياليّ 1934 و1938 باسم الوطن وموسوليني. وكان لاعبوها يبدؤون وينهون كل مباراة بصرخة تحيا إيطاليا، وبتحية الجمهور ببسط راحاتهم المرفوعة”(إدواردو غاليانو)
منحت الفيفا للأرجنتين حق تنظيم كأس العالم في بداية السبعينات. وفي عام 1976 وقع انقلاب عسكري في البلاد واستولى على الحكم. وعلى عكس المتوقع رحبت الحكومة الجديدة بخطة إقامة كأس العالم. وذلك لاجتذاب الصحافيين العالميين للبلاد، مما يشكل نوعًا من الدعايا للنظام العسكري، وإقرارًا ضمنيًا بشرعيته. فشكّلت لجنة منظمة ترأسها أحد جنرالات الجيش. وكانت الأزمة منذ البداية في الموارد المالية المطلوبة. فقد عزمت الحكومة على إنشاء العديد من الاستادات الجديدة بسعة جماهيرية كبيرة، ربما تزيد عن عدد سكان المدن المقامة بها. وأرادت ربطها بشبكة طرق ممهدة.
كانت الأرقام المبدأية تشير إلى احتياج الأرجنتين إلى مبالغ تتراوح بين 70 – 100 مليون دولار. غير أن التكفلة الفعلية التي أعلنتها الحكومة لاحقًا بلغت 700 مليون دولار. حدث هذا في بلد لديه أعلى نسبة تضخم اقتصادي في العالم. ويُقال أن حكومة الجنرالات أجلت العديد من المشروعات الأساسية لما بعد البطولة. وتحول شعار المونديال من «25 مليون أرجنتيني ينطمون كأس العالم»، وأصبح «25 مليون أرجنتيني سوف يدفون تكاليف تنظيم كأس العالم». وفي النهاية يرى بعض الاقتصاديين أن الحقيقية الغير معلنة تجاوزت الـ 700 بحوالي 400 مليون. أي أن كأس العالم كلّف الأرجنتين مليار دولار. ويمكن إدراك فداحة الرقم عند مقارنته بتكاليف كأس العالم 1982 في إسبانيا، والتي لم تتجاوز الـ 300 مليون!
أُنفقت كل هذه الأموال بغرض إظهار وجه للبلاد غير وجهها الحقيقيّ. ولتتم المهمة دخلت البلدوزارات إلى الأحياء السكنية العشوائية في المدن المقرر إقامة كأس العالم فيها. لتهدم مئات الأبنية السكنية. وهُجّرت الأهالي إلى أماكن أخرى لا ترقى لتنظيم المونديال، وثمة أخرين نُقلوا إلى صحراء كاتامارا. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد أقامت الحكومة جدارًا عازلاً يخفي آثار هذه الأطلال على طول الطريق المؤدي إلى مدينة روزاريو .. نعم! مسقط رأس ليو ميسي!. وهو ما وصفه أحد الفنانين الوطنيين بـ: «إنه جدار البؤس. لقد أنشأوا لوحة جدارية ضخمة لإخفاء البؤس والقمع الذي تعيشه الناس في الأرجنتين».
لم يكن أحدٌ في الأرجنتين بمأمن من خطر الجنرالات. فقد بلغت أعداد المختفين يوميًا في هذه الفترة ما يقارب 200 ناشط وسياسي. وتنوعت أشكال الاختفاء بين الإعدامات الفورية أو الاختفاءات القسرية. بل وصل الأمر إلى نقل معسكرات إعتقال كاملة إلى مناطق نائية أو إلى سفن لنقل البضائع. فلم ترد الجنرالات أن يقابل الصحافيين هؤلاء السياسيين المشكوك في ولائهم. وسارت الدوريات العسكرية في الشوارع لتأمين احتمالات أي مظهر احتجاج غير مراد.
اهتمت حكومة الجنرالات بشكل حاسم بضرورة حصول الأرجنتين على كأس العالم. بحيث تتماهى كرامة البلاد مع كرامة المنتخب القومي. ولأجل ذلك كان قرارهم واضحًا بمنع الصحافيين الوطنيين من توجيه أو كتابة أي انتقادات لأداء المنتخب أو للجهاز الفني. ولكن الصعوبة الحقيقية كانت في السيطرة على الصحافيين الأجانب. فلم ترد الحكومة تقديم مادة جاهزة لهم لانتقاد الأوضاع في البلاد. فلجأوا إلى الهدايا ودعوات الأطعمة والشراب من أجل نيل ودهم. ورغم انخداع نسبة لا بأس بها بهذه الصورة، إلا أن العديد من التقارير التي وصلت صحف أوروبا أقامت مقارنة بين الأغراض السياسية لكأس العالم في الأرجنتين وبين دورة الألعاب الأوليمبية التي أقيمت في برلين عام 1936 تحت حكم هتلر!
أما فيما يخص النتائج، فقد صعدت الأرجنتين بعد الحصول على المركز الثاني في الجولة اللأولى. وفي الجولة الثانية، وقعت مع البرازيل وبولندا وبيرو. وكان النظام حينها أن يصعد الأول مباشرة إلى المباراة النهائية. فازت الأرجنتين على بولندا بهدفين نظيفين ثم تعادلت سلبيًا مع البرازيل. وبينما فازت البرازيل على بولندا 3-1 وعلى بيرو 3-0. وأصبح موقف التانجو في مأزق بعد أن تبقت لها مباراة واحدة أمام بيرو تحتاج فيها الفوز بفارق 4 أهداف من أجل الصعود.
بدأت المباراة بصورة غريبة نوعًا، خاصة فيما يخص أداء حارس مرمى منتخب بيرو. وانتهى الأمر بأن استقبلت شباكة 6 أهداف وصعدت الأرجنتين لنهائي كأس العالم. لم تستطع الفيفا إثبات حادثة الرشوة حتى الآن. لكن ما يقوله سايمون كوبر في كتابه، يسرد منح الحكومة العسكرية الأرجنتينية 35 ألف طن من الحبوب الغذائية لحكومة بيرو. وكذلك كان الإفراج عن 50 مليون دولار من ودائع بيرو في البنك المركزي الأرجنتيني. ولم تخل الصفقة من بعض قطع التسليح أيضًا والعتاد العسكري تلقتهم بيرو.
تشير بعض المصادر حسب الكتاب إلى أن مجلس قيادة الثورةأمر بإعطاء بعض لاعبي المنتخب المنشطات في المباراة النهائية. حتى أن لاعبيّ المنتخب ماريو كيمبيس وألبرتو تارانتيني قد استمرا في الركض لمدة ساعة كاملة بعد المباراة. ويروي كذلك أن أحد عينات البول الخاصة بأحد لاعبي الأرجنتين للكشف عن المنشطات بعد المباراة، احتوت على مادة غريبة لا تزيد إلى في حالات الحمل. وخرج الهولنديون حينها وهم يقولون أن الأرجنتين لم تفز بالكأس إلا لأنه مقام في أرضهم.
فاز المنتخب الأرجنتيني بكأس العالم، وظن الجنرالات أن غرضهم من تنظيم البطولة قد تحقق، إلا أن تلك البطولة كانت سببًا في لفت أنظار العالم إلى الأرجنتين، فأخذ العالم كله يقرأ عن السياسة في الأرجنتين وما بها قمع وفساد وأصبح الحكم فيها موضع تحقيقات وتساؤلات مما شكل الضغط على الحكومة آنذاك فقامت بالإفراج عن كثير من المعتقلين السياسين، فربما لو لم تكن مباريات كأس العالم، لما أُجبر الجنرالات لاحقًا على التنازل عن السلطة لحكومة ديموقراطية منتخبة في مطلع الثمانينات.
حينما أطلق حكم المباراة صافرة النهاية، وأعلن فوز الأرجنتين، خرج الجميع من سكان بيونس آيرس إلى الشوارع محتفلين، وكان هذا التجمهر الأول الذي يُسمَح به منذ بداية حكم الجنرالات (مواقع التواصل)
كتب لويس مينوتي مدرب الأرجنتين أنذاك في أحد الصحف الرياضية الأرجنتينية عن تلك الخبرة من تدريب المنتخب تحت ذلك الحكم العسكري، فقال: «لقد كان ذلك يتعارض مع أسلوب حياتي. ولكن ماذا كنتُ لأفعل؟» ويرى كوبر أن هذا التصريح يائس، خرج من شخص وكأنه يعتذر على فوزه بكأس العالم لأنه يعرف أنه منحه للجنرالات.
وبعد كل ذلك، ماذا عن الناس؟ الشعب الأرجنتينيّ؟ فحينما أطلق حكم المباراة صافرة النهاية، وأعلن فوز الأرجنتين، خرج الجميع من سكان بيونس آيرس إلى الشوارع محتفلين طوال الليل. إذ كان هذا هو التجمهر الأول الذي يُسمَح به للناس في الشوارع منذ بداية حكم الجنرالات. وتقول إحدى السيدات التي اختفى ابناها قسريًا، ورأست لاحقًا جمعية «أمهات المفقودين»: «من المؤلم والمفزع أن تشاهد الابتهاج على شاشات التلفاز. فقد بدا ذلك بالنسبة إلينا أمرًا خطيرًا جدًا. لأن عدم الاحتفال يعني أنك تشجع هولندا». فشعر الأرجنتينيون وكأنهم مجبرين وكأنهم غرباء في بلادهم. وكتب أحد الصحافيين: «الفرح ليس فرحًا. بل هو نوع من الانفجار في المجتمع المجبر على الصمت».
“الجزء السيئ كان النهاية
تلك الجثث المختلطة، غير المبجلة
العائدة إلى أحواض النهر
إلى القبور الجماعية
تهز رؤوسها
وتغني أغنية النسيان
ونحن هناك
مع تلك الطبول
وتلك الرايات المجنونة التي تتصبب عرقًا
والعالم مقلوب رأسًا على عقب”
(قصيدة المونديال – كارلوس فيريرا)
الجزيرة