عثمان ميرغني

كيف تتقنُ عملك؟!!


‏‏‏‏
ما معنى )والذاكرين الله كثيراً والذاكرات(؟ تمعن في هذه الآية )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقات وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( الأحزاب )35(..
التدرج الهرمي بدأ من قاعدة الانطلاق )الإسلام( أولاً.. ثم )الإيمان( فهو درجة أعلى )قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم..( ثم درجة أعلى )القانتين( أي المطيعين بمنتهى الخضوع.. ثم درجة أعلى أخرى )الصادقين..(.. )الصابرين( ثم )الخاشعين..(.. إلى هنا تنتهي مرحلة الصفات الشخصية المرتبطة بالفرد.. لتبدأ مرحلة صعود آخر الفعل الإيجابي تجاه الآخر؛ )المتصدقين(..ثممرحلة ثالثة الامتناع عن الفعل )الصائمين(.. و)الحافظين فروجهم..(.
إلى هنا تنتهي التراتبية التفضيلية التي تسردها الآية.. فتقفز إلى )والذاكرين الله كثيراً والذاكرات..(.. هل يعني أنَّ الصفات السابقة لم تكن تشملها صفة )الذاكرين( فأفردت لها الآية حيزاً ختامياً منفصلاً.. هنا مربط الفرس..
)الذاكرين الله كثيراً( هنا لا يقصد بها )الذكر( بالمعنى التقليدي الذي يعرفه الناس عموماً.. اللهج باللسان )وحده!( بالكلمات.. وإلا لما كان لمجرد الذكر باللسان كل هذه الأفضلية التراتبية على كل تلك الفضائل التي شملتها الآية الكريمة.. فما هو )ذكر الله( المقصود بالآية؟
يقول المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ(.. عبارة )كأنك تراه( هي أعلى مراتب )ذكر الله( فالذاكر باللسان وهو فارغ الجنان لا يفعل سوى تكرار النطق بكلمات لا يستحضرها القلب ولا يلتفت إليها الضمير.. هي مجرد همهمات.. لكن الذي يعبد الله )كأنك تراه( فإنَّ كل حركاته وسكناته هي في مقام )الإحسان( الذي مجده الله تعالى )والله يحب المحسنين( أعلى مقام الإنسانية أن يرقى الإنسان إلى مرتبة أن )يحبه الله(..
الذي يعبد الله كأنه يراه.. لا يغش في بضاعته إن كان تاجراً .. فالله يراه.. مثل القصة الشهيرة للمرأة التي أمرت بنتها بأن تخلط اللبن بالماء فقالت لها البنت: )إن كان عمر لا يرانا فإنَّ الله يرانا(..
سوء الحال الذي نكابده الآن في مجتمعاتنا من غش وكذب مرده إلى قصور الفهم لكلمة )ذكر الله( فحصرها الكثيرون بين الشفاه وحبات المسبحة.. والدندنات.. فكيف تكون أرقى درجة من الصدق والخشوع والقنوت والصدقة.. إن كانت مجرد كلمات منثورة في الهواء بلا وعي.
استشعار )رؤية الله( أعلى مقام الذكر.. لأنها تفرض )الإحسان( في كل أعمالنا ظاهرة وباطنة..
ترديد الأذكار باللسان هو ترويض للقلب على استشعار معية الله.. لكن مقام )ذكر الله( لا يكتمل إلا إذا ارتقى التلفظ إلى مرتبة اقتران الجوارح باستشعار )كأنك تراه(.
قال الله تعالى: )فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( الجمعة)10(.
ذكر الله في سياق الحياة اليومية )وابتغوا من فضل الله( في غمرة مشاغل الحياة.. فيرتفع مقام المحبوب كلما جاء ذكره في سياق أقصى ما يشغل القلب من الهموم مثل قول عنترة بن شداد:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي..!!

حديث المدينة
عثمان ميرغني