رأي ومقالات

محمد حامد: تمركزت محاذيا (المسدس)، احسست بفرح طفولي؛ صوت انسياب الوقود وسريانه للحظة ظننت انه في عروقي

بعد إنتظار لنحو ثلاث ساعات ؛ قضيتها زحفا ؛ وتحركا عبر قياسات البوصات من وثبة لاخرى في صف الوقود ؛ وللحقيقة فقد راقتني روح النظام والانتظام الطوعي من المواطنين ؛ ممن رافقوني ورافقتهم في رحلة الصبر المديد نحو (مسدس) محطة الوقود ؛ وكان حظنا ان نصطف في الجانب الغربي لشارع المطار ؛ قبل إنعطافة شارع (61 ) ؛ وهو موقع تؤانسك فيه حركة سير المركبات المتجهة والقادمة من الشمال للجنوب والعكس ، فيما تبرز من السماء كل حزمة دقائق طائرة مثل النورس ، تمد راسها تتحسس مطالع مدرج مطار الخرطوم ؛

انشغلت في عملية إحصاء ومسابقة مع ذاتي ؛ اميز شعارات الاجنحة ؛ واحصي اضواء إشعارات الهبوط ، ولطالما ارتبعت من هذه اللحظة في احايين سفري ؛ افزع من إرتطام الاطارات الكبري السوداء بمخاشن الارضيات ؛ اغمض عيناي واتحول الى شيخ مجود ؛ ادس وجهي واحيانا راسي بالكامل في المقعد الذي أمامي الى حين تنفس الجميع الصعداء ؛ لمحت شعار طائرة (بدر) عائدة في رحلة مسائية ، حفرت فضول التوقع لاعرف كم عائدة تنتظره امه وكم غائب يرجوه ابيه ؛ كم حامل مغنم وكم فيها كليم الفؤاد والجسد وكم فيهامن (مسجى) في صندوق ، عاد نعيا بعد امل عيش !

ويبدو اني قد (سرحت) اذ انتبهت مفزوعا على طرق مهذب اللمس والايقاع لمن هو خلفي ؛ يرجوني ان أتقدم لان الصف قد تحرك ؛ اعتذرت بلطف باسم ؛ وتحركت للامام ، وجدت نفسي قبالة (ست شاي) كان الجمهور قد جعل محطتها في المسيرة (إستراحة محارب) ، بعض الصبية من (كماسرة) الحافلات وجدوا في مجلسها مقاما لارتشاف جرعات الشاي والقهوة ؛ السيدة الوسيطة العمر بدت لي مستثمرة ذكية ؛ اذ اختارت جانب حائط قبالة الصف من ناحية عمائر محاذية لمسارنا فاقامت مجلس مرتب بالمقاعد مع (حافظة) مياه مبردة نصبتها مثل سبيل لمن ارهقهم العطش ؛ كان البعض يحتسي في مجلس المقاعد والاخر بطلب في مركبته ؛ فيما وقفت فئة ثالثة تمضغ احاديث السياسة وجدل الحال العام ؛

ظل الصف يمضي ببطء لكن بتوافق وتفاهم ؛ انتقال سلس لفرص وحظوظ ؛ توزيع الوقود المتاح ؛ سمعت الذي خلفي يبتهل ان يصل الى لحظة (التفويل) لمطلبه من وقود سيارته دون ان (يقطع) لحظة فرصته ؛ انتقل القلق منه الي ؛اذ لمع مؤشر النفاذ عندي ؛ مثل ضوء جمرة اوجعت ظنوني ؛ حينما تحركت ارتج مؤشر الوقود وهبط لادنى ادنى مثل راس دمية في مسرح عرائس نفقت ؛ رجعت لصاحبي اسأله هل من الممكن ان (يقطع) فاجاب وهو ينفث دخان سيجارة ، لم يكملها وانما سحق ما تبقي منها وهو يقول (عادي) ! تلمست انه مستاء للغاية ويبدو انه صاحب حظ جاف وعاثر فابتعدت عنه ؛ وانصرف الى جدل مع طفلة تصر ان تبيعني مناديل ورقية ؛

اعتذرت لها برقة وغصت في تتبع اثار الواتس ؛ كانت كل المجموعات التي طالعتها ترى الحكومة كسوداء الجبين كذئب ترعرع في نواحي المنزل ! عاودت الطفلة الملاحقة ؛ شي ما جعلني اعود البها متفرسا ملامحها ؛ ارتدت عباءة سوداء على خمار اخضر او مخضر ، بدت مرهقة ؛ ومشوشة ؛ محرجة من جارحة ردود البعض ربما ؛ استشعرت الخجل ؛ طلبت حزمة صناديق ، علتها ملامح ارتياح وعلتني أنسام رد إعتبار ؛

مرة اخرى لاحقني صاحبي الذي خلفي ؛ (امش الله برضى عليك) كان قريبا من البكاء فاسرعت ، وقتها تمركزت محاذيا (المسدس) ، احسست بفرح طفولي ؛ صوت انسياب الوقود وسريانه للحظة ظننت انه في عروقي ؛ سعلت من تصاعد الغاز والابخرة ونفاذ رائحة المحروقات ، اغلق العامل اغلاق التنك ؛ امرني بالخروج ، كان رفيقي (الشفقان) قد وصل ؛ لمحته ببتسم لاول مرة ؛ اظنه ارتشف رشفة بنزين ؛ بدا حظه هذا المساء افضل ؛ اتخذت مساري اضرب في المدينة ؛ هممت باطلاق بوق او بوقين ؛ ثم احترمت نفسي ؛ وانا اعدد محظورات سارتبها في السير والتواصل وامتطاء السيارة الى حين انفراج هذه الازمة ؛ التحية لرفاق وقفة اليوم الصبورة ؛ والقبعات ترفع لروح الجميع الودودة ؛ وتعاونهم على عسر ارجو الا يطول.

بقلم
محمد حامد جمعة

‫2 تعليقات

  1. ود جمعة لك التحايا

    نســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخ ” عاد نعيا بعد امل عيش ”

    وأنا في مهجر بعيد ، ذاك اليوم حفرته أصابع الألم في ذاكرتي ، لا يختفى ، لكنه قد يتوارى قليلا ، وما يلبث أن تنفجر براكين الألم من جديد
    وها أنت بعبارتك تبعث لحظة الألم بكل تفاصيلها ،

    يوم سبت ،كنت في رحلة تسوق عدت منها بفرح ، ولحظة دخولي رن الهاتف رنات لن تنساها أذني أبدا أبدا

    ونقلت إلي شقيقتي نعيه ، شقيقي الذي سافر يستشفى خارج السودان من مرض عسير شفاؤه ، لكن الحي لا يقنع من الأمل .
    آخر نبرات صوته كانت بعد اتصال عليه يوم الجمعة ، لم أدر أنها آخر ما سأسمعه منه ، وإلا لظل خطي مفتوحا له ذلك اليوم بطوله

    لم أرافقه ، ولم أستقبل الجثمان إذ لم يكن لي فرصة ، ألا قاتل الله الغربة

    وأول شء حين سنحت فرصة العودة للبلد ، أن وقفت على قبره مسلما ومودعا .

    ما أسرع رحيلك ، يا صاحب النفس النقية والقلب الأبيض

    رحمة الله عليك

  2. ود جمعة

    أيضا حركت كوامن المشاعر المستفزة في داخلي

    نســــــــــــــــــــــــــــــــــخ : انصرف الى جدل مع طفلة تصر ان تبيعني مناديل ورقية ، اعتذرت لها برقة

    طفلة …طفلة ….يا وجعك يا بلدي

    ضعفان اجتمعا : ضعف طفولتها ، وضعف أنوثتها

    مثل هذه مكانها مقاعد الدراسة حيث أمن معلماتها ، ودفء صويحباتها

    ولكنها تحمل ضعفها ، وبؤس أسرتها ، ومأساة بلدها فتظل راكضة بين أرتال السيارات ، في قلب الخطر

    وقد أصبح الأمر عاديا جدا ، والدليل إنك يا ود جمعة نقلته كتفصيل عادي ليغذي سطور مقالك

    ثم تعتذر لها برقة !!

    أهذا ما نالته منك ؟ ! لم ترحم ضعفها ! لم تحرك كامنا إنسانيا حتى !

    أقله ، أفلا جازيتها على إصرارها ؟

    إصرارها لأنها خبرت على قلة سنوات عمرها ، أن الرحمة في هذا البلد قد لملمت أطرافها ورحلت مع الراحلين

    ماذا تساوي دريهمات من هذه العملة التي غدت دون قيمة

    لو كنت أعطيتها إياها ، حتى تشعرها بقيمة مجهودها الجبار

    ولكانت لك اتقاء من النار ، ” اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ”

    ولكن يبدو أنك اعتبرت رقتك معها بمثابة الكلمة الطيبة