الصادق الرزيقي

يا إلهي.. كم هي مأساة؟ ..!

(أ)
قبل أن نصعد الطائرة المتجهة من مطار إسطنبول الضاج بحركة مسافرين ضخمة، كلٌ في اتجاه في الدنيا العريضة الفسيحة والعالم المجنون، إلى مطار الملك محمد الخامس بالدار البيضاء،

بدأت تهمي صور في ليلة البارحة المفرحة الكئيبة في آن واحد ونحن نغادر مطار الخرطوم، كل شيء بقي في الذاكرة والوجدان طازجاً، مفجعاً، مبكياً، أليماً .. مثلما هو حدث سعيد ممتلئ بالدمع السكوب، فهو يومض بقوة كتلة من الشظيات الحارقة، وكثير من الأحداث عندما تراها بقلبك وتحسها بإحساس حقيقتها، تتحول إلى شيء يسكن خلاياك ودمك وعصبك الحي ..

قبل أن تتحول الطائرة في انعطاف مسارها فوق بحر( إيجه) مخلفة الأستانة وراءها ومياه البحر ومضيق البسفور وخليج الدردنيل تتوارى خلفها، سيطرت على صورتهن والأطفال الثلاثة، صورة السودانيات اللائي عدن مساء الأربعاء بعد جهد ومفاوضات مضنية من غربة قاسية وظلام دامس، قضينه في صفوف (داعش) في نسخته الليبية، ووقعن في قبضة ثوار طرابلس – حركة البنيان المرصوص التي قضت على داعش في مدينة سرت، وأسرت عدد كبير من المقاتلات الداعشيات من جنسيات مختلفة، كان بينهن سودانيات وأطفالهن، وبالطبع قضى عديد من السودانيين والسودانيات وأطفالهم نحبهم في صفوف داعش وحروبها في ليبيا، ومن وقع أسيراً ذهب إلى غياهب السجن في مصراته، والعشرة الذين عادوا أمس سبع نساء وثلاثة أطفال، هم آخر من تبقى من أهل السودان من ضحايا التضليل الداعشي والأسر المصراتي، وتم إطلاق سراح النساء السبع والأطفال الثلاثة بعد شهور طويلة من التفاوض والحوار بين جهاز الأمن الوطني والمخابرات السودانية وثوار مصراتة ولعبت الجالية السودانية هناك دوراً كبيراً في عملية التفاوض حتى تم الإفراج وأتى مع المجموعة الأخ معتز ميرغني رئيس الجالية في مصراته والوسيط المؤتمن الذي لعب نفس الدور من قبل في إعادة الأطفال السابقين ..

(ب)
منذ نزولهن من على متن الطائرة التي حطت في مطار الخرطوم، شاهدنا سبع نساء وجلات، مرتعدات خائفات، كأنهن أتين من مزاريب الموت التي كانت تهمي فوق رؤسهن، هبطن سلم الطائرة وأرض المطار، ثم صالة كبار الشخصيات، وقد توزعن وجل وخوف وفرح مكتوم يكاد يقفز من بين الأضلع و مسام الجلود، بنظرات لا يزال يسكنها رعب مميت، دخلن خجلات مضطربات يفزعن بصدقهن إلى التكذيب بأنهن عدن إلى وطنهن وإلى عائلاتهن وقد ملأ البكاء والنحيب صالة المطار الأنيقة ..

نساء صغيرات يافعات.. ناحلات .. شاحبات ..بائسات يائسات، في عباءات فضفاضة تكاد لا ترى منها إلا العظام، وخدوش الروح والجلد، وقفن غير مصدقات، إحداهن تحتضن طفلاً صغيراً قُتل أبوه في حروب داعش وخبالها في مدينة سرت الليبية، وولد بين نيران الحروب وقسوة الأسر والاعتقال وظلام السجن وفظائعه، أبوه قتيل في أرض معركة وأمه متهمة بأنها مجرمة حرب وإرهابية، أسرت في ساحة الوغى ورشاشها في يدها وبندقيتها تمد فوهتها العاجزة نحو الفراغ العريض ..

(ت)
وراء كل فتاة التحقت بداعش قصة ومحنة، لكن وراء كل عودة فاجعة لها ألف جناح ومدن عوالم عاصفة، روح المرأة السودانية المتسامحة والطيبة التي تربت في كنف مجتمع لا يعرف العنف والتطرف والعصبية المفضية للقتل والقابلة للانتحار، كيف تسربت تلك الروح من بين أعطافهن، وتسلل إلى دواخلهن النقية دعوات التطرف العنيف ورائحة الدم والبارود، وهذا الفكر الدموي القاتل ؟..
وجوههن صافية كما غناء البادية وحداء أهلها، سمتهن رفيق ورقيق يشبه تلك الحالة الصوفية النورانية التي تشع من كل محراب وبيت بسيط من بيوت السودان، كيف تحوَّل هذا النقاء والصفاء ولثغة الأطفال المحبة في عمر العامين، إلى دم مسفوح وانتحار مجنون بحزام ناسف ومعارك عبثية غير متكافئة تقودها مجموعة غالبت الدين فغلبها فقررت مواجهة الجميع بمنطق الدم مقابل الدم؟ .

القلق والحيرة وعاصفة من الندم الثقيل ناءت به أعينهن وأبين أن يحملنه، وران على قلوبهن حزن عميق.. عميق!. تحجرت الدموع في مآقيهن من هول الفاجعة والدهشة، وسيطر عليهن عدم التصديق بأنهن عُدن أخيراً إلى بيوتهن وأهلهن وأترابهن ..لقد جئن من جفن الموت والردى ومنظر الأشلاء والأزواج الممزقة أجسادهم من الرصاص والمتفجرات والقنابل ومن طمر تحت الأنقاض .. ومن قسوة القادة الذين كانوا يقودونهم لأقسى محنة إنسانية ضحيتها عقل الإنسان وفكره، تتحكم فيهن فتاوى غريبة وجامدة وفقه مضلل و فكر منفر ومنحرف غضوب لا يمت إلى سماحة الدين في شيء، تحكمت فيهن عقليات موغلة في العنف والقسوة وقلوب لا تعرف الرحمة ، تطالبهن بطاعة عمياء مسرفة في الإذلال ..

(ث)
كان مساء الأربعاء /4/4/2018 في مطار الخرطوم طويلاً جداً، الليل يوغل والانتظار خارج الصالة وداخلها من عشرات الصحافيين والأسر المكلومة والأصدقاء والأقارب، مشهد يعبر عن أحزان دفينة ومشاعر مشوشة وفرحة جامحة، كل هذا المزيج تحول مع قدوم العائدين الى بكاء مُر وعناق أمر بين والد يلتقي بابنتيه بعد سنوات، بريئات غررن بهن بدعوات ملوثة وتسربل باسم الشريعة والدين، وعندما ذهبن إلى هناك كغيرهن من الشباب السوداني واجهن الحقيقة الكاملة، لكنهن انخرطن في مصير لابد منه، هو أو القتل والسحل وجز الرؤوس، وما أسهل التضليل، كل العائدات أمس وراءهن قصص وحكايات طويلة تكشف حلكة وسواد الأيام التي عايشنها، تجربة أكبر من أعمارهن وسنوات أطول بكثير من كل سنواتهن مذ نفخت فيهن الروح .. المشاعر والصور، فكل كلمة قاصرة من التعبير بدقة عن الحقيقة، لكن الذي رأيناه هو فقط الفجيعة والأسى المقيم في الأفئدة الصغيرة المحطمة.

لا يمكن وصف المشهد، فواحدة من اللائي عدن، كانت تحتضن طفلها الرضيع بقوة وقد علمنا أنها لم تجده إلا وهي قادمة إلى البلاد عن طريق الخطوط التركية، كانت في سجنها مفصولة عنه ولم تكن تعرف مصيره، ففي المعارك التي أسرت فيها في مدينة سرت تشتت الجمع وقتل من قتل وظنت أن طفلها أُزهقت روحه أمطار الرصاص المنهمر، وللقارئ أن يتخيل مثل هذه الأم تخرج من السجن بجراحاتها النفسية، وقد رأت الموت ووقفت أمامه فحاذر منها وتركها لشأنها ورأت أهوال السجون والأغلال والجوع والمرض والعطش وكل ما يعانيه السجين في معتقلات لا تديرها سلطة دولة لكنها جماعة وطنية ليبية تراعي حرمات الله كما علمنا لكن السجن هو السجن والمعتقل هو المعتقل، أم بفؤاد منفطر ولا أمل في الحياة تعثر على ابنها الفقيد وهو معها في أيامه الغضة عائدان إلى أرض الوطن، احتضنته بقوة لا تصدق بكت بكاء يشطر الفؤاد ويقطع نياط القلوب والطفل الهزيل زائغ النظرات لا أظن أن شفتيه عرفت الابتسام مذ ولد ..

العائدات سيخضعن هن والأطفال لتأهيل نفسي وعلاج طويل ومعالجة فكرية أطول، لكن يجب علينا كسودانيين أن ننتبه لهذه المأساة الحقيقية التي تلامس العصب الحي في مجتمعنا، لابد من دور كبير للأسر والأهل والأصدقاء والدولة والجامعات والمدارس في تحصين الشباب الغض وأبناءنا من تيارات الغلو والتطرف العنيف، ولنا عظة وعبرة في بناتنا العائدات أول من أمس .. ذهبن للقاء ملائكة، فعدن وقد علمن أن الشيطان كان يعظهن ويدعوهن لقتل الأبرياء واعتزال المجتمع، لكن هذه العودة التي زرعت اليقين والطمأنينة في الأسر و الأهل، يجب ألا تكون مجرد فرح غامر ودعوات صالحات، لا يزال هناك شباب وشابات مع تنظيم داعش في سوريا والعراق لابد من إعادتهم . وما بذلته الدولة ممثلة في رئاسة الجمهورية وجهاز الأمن والمخابرات وبقية مؤسسات الدولة، يجب أن يتواصل حتى يعود آخر شاب وشابة من أبنائنا، ونسد الذرائع التي كانت تقود الى هذا المصير الذي لا يسر ..

هناك ما يجعل بعض شبابنا يتجه ويختار هذا الاختيار الخاطئ، بعضه ردات أفعال لما نعانيه من اغتراب واستلاب من صحيح الدين ومظاهر الترف والفساد والتضليل الإعلامي والبرامج الترفيهية التي ما زادت شبابنا إلا اغتراباً وبُعداً عن قيم الدين والأخلاق الفاضلة، فيلجأ جزء منهم في سبيل التعويض والرفض إلى أفكار داعش وغيرها .. لذا يقع علينا عبء كبير خاصة وسائل الإعلام أن تعمل على غرس الفضيلة والوعي والدين الصحيح حتى لا تتكرر مثل هذه المأساة ..
قال لي الأخ القانوني أشرف خليل المحامي وهو صحافي أيضاً وكان معنا في المطار « أن الطفل ذي العشر سنوات الذي أعيد هو الآخر وفقد والديه هناك، سيكون له شأن ..» لا أدري من أين جاء باستنتاجه وتوقعاته، لكن هذا الطفل وما عاشه من ظروف وأحداث جسام والموت، رأى القتل والذبح ثم فقد الأبوين .. كان متماسكاً حاد النظرات مرفوع الرأس يمشي واثقاً وكل ما لديه في الدنيا حقيبة صغيرة علقها على كتفه وأهل استقبلوه ولا يدري بعدها كيف هي الحياة وما الذي سيعانيه ويكابده .. يا الله كم هي مأساة ..!!!!

الصادق الرزيقي
صحيفة الجريدة