رأي ومقالات

مأزق الاقتصاد السياسي لـ”التمكين” الفساد: الحصاد المر لاختطاف “الطبقة المتمكنة” للاقتصاد السوداني


الرئيس البشير وضع نفسه أمام تحدٍّ كبير وهو يخرج إلى العلن متصدراً المسؤولية في قيادة الحملة المفتوحة على الفساد المستشري ، ومثلما هي مسؤوليته الشخصية بحكم المنصب، فهي ليست حرب البشير بل مسؤولية كل مواطن، يريد استرداد أموال البلاد المنهوبة وأن يضع سهمه في طريق التغيير

مهما يذهب إليه المتشككون أو المتوجسون أو الحادبون حيال ما أطلقه الرئيس البشير من تعهدّاته في محاربة الفساد، فلا يمكن بأي حال اعتبار هذا الموقف حدثاً عابراً أو شأناً يمكن التقليل من أهميته وخطورته في رسم مستقبل الأوضاع في السودان

صحيح أن الممارسات الكارثية على الاقتصاد الوطني المذكورة لا تعدو أن تكون نتيجة، وليست سبباً في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجلّت في انهيار سعر صرف الجنيه، ولا تحيط بالأسباب الأخرى في تردي الاقتصاد الوطني مما بات معروفاً في علم الكافة

النظام المصرفي الذي يطلق على نفسه صفة “إسلامي”، كان هو أحد أهم بؤر التمكين التي احتكرت لوجوه “الطبقة المتمكنة” وحتى عامتها، وما علم الناس لها مساهمة جادة في التنمية ولا البناء، بل ظلّت مرتعاً للامتيازات والمكاسب والتمويلات لأصحاب الحظوة

تعيّن علي أن أنتظر خمسة أشهر حتى أستأنف سلسلة حلقات بعنوان “مأزق الاقتصاد السياسي للتمكين”، في شأن الحصاد الاقتصادي المرّ للطبقة المتمكّنة في العهد الإنقاذي، ففي الحلقة الثالثة من هذه السلسلة التي نشرت في العدد رقم 646 في صحيقة إيلاف بتاريخ 22 نوفمبر 2017، بعد أيام قليلة من انفجار الخميس الأسود الذي شهد فيه الجنيه السوداني انهياراً غير مسبوق، كان عنوان ذلك المقال يرمز إلى تحديد المسؤولين عن تلك الجريمة يقول “السقوط الحر .. فتّش عن أفاعيل الطبقة المتمكنة”.

(1)

وورد في خاتمة المقال ما يلي نصاً ” تحققت أسوأ المخاوف، ومع ذلك، لم يتغير شيء، فلا تزال الطبقة الحاكمة مع كل الذي حدث تصر على دفن رؤوسها في الرمال، وهو ما يعني أنه ما لم يتم تفكيك “الطبقة المتمكنة” فلن ينعم السودان بأي استقرار لا سياسي ولا اقتصادي، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالسيناريو الذي تقوده إليه هذه الحالة المستعصية من الإنكار والتستر على المتلاعبين الحقيقيين بمقدرات الدولة السودانية”. وانتهيت إلى وعد بالكتابة “ونواصل بإذن الله في حلقات قادمة: كيف تشكّلت “الطبقة المتمكّنة” وكيف استطاعت اختطاف الاقتصاد الوطني”.

(2)

شكراً للسيد رئيس الجمهورية، فخطابه أمام المجلس الوطني بالأمس الذي دشنّ حرباً مفتوحة على الفساد، يمكنني اليوم من معاودة الكتابة في هذه السلسلة فيما وعده به بعد انقطاع طال، ذلك أن ما ساقه من حقائق، سيكفيني مؤونة إهدار الكثير من الوقت لإثبات ما هو معلوم بالضرورة في ثبوت استشراء فساد “الطبقة المتمكنة”، وقد ظل عصياً على التصديق الرسمي به بسبب حالة الإنكار المتطاولة النافية لوجوده من الأصل، وهو ما أسهم في المزيد من تغلغله وتفاقم أضراره حتى تجاوز بمصائبه المجتمع ومقدرات البلد، ليمسك بخناق السلطة الحاكمة ذاتها ويكاد يودي بأسباب بقائها.

(3)

أقرّ أنني لم أكن أتوقع أبداً أن أحيا حتى أسمع وأرى وأقرأ ما أعلنه الرئيس البشير بالأمس، صحيح لم تكن هذه المرة الأولى التي يشير فيها إلى بعض ما أدلى به بالأمس، ولكن هذه هي المرة الأولى بلا شك التي يعلن فيها موقفاً واضحاً لا لبس فيه وبأشد العبارات بشأن الفساد، الكارثة الوطنية الأخطر، ليس في تصريح عابر بل في خطاب الحكومة في فاتحة أعمال دورة جديدة للمجلس الوطني.

(4)

ومهما يذهب إليه المتشككون أو المتوجسون أو الحادبون حيال ما أطلقه الرئيس البشير من تعهدّاته في محاربة الفساد، فلا يمكن بأي حال اعتبار هذا الموقف حدثاً عابراً أو شأناً يمكن التقليل من أهميته وخطورته في رسم مستقبل الأوضاع في السودان في كل الأحوال سواء انتهت إلى تحقيق ما أعلنه البشير من أهداف، أو لم يحدث ذلك وتعثر لهذا السبب أو ذاك، فقد خرج المارد من القمقم، ولا يمكن إعادته بأي حال، ولذلك لا مجال إلا التعامل بكل جدية في دعم هذا المسار ودفعه لبلوغ غاياته، فالوقوف عند محطة التساؤلات وتفتيش النيّات لن تخدم أبداً قضية الذين طالما ظلوا يطالبون بمكافحة الفساد في جذوره، كما لن تخدم مطالب التغيير في سيرورته الذي يجب أن يحدث طور منه أنى وجد له سبيلاً لذلك، فما لا يدرك كله لا يترك جلّه.

(5)

إذاً ما هي أهمية ما جاء في خطاب الرئيس؟، لن أذهب هنا في اتجاه التحليل وإبداء الرأي عن قصور التشخيص أو اقتصاره بشأن المأزق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي تواجهه البلاد جراء عوامل متراكمة، ولكن المسألة الأكثر أهمية في سياق هذا المقال النتيجة الجوهرية التي وصل إليها بإثبات وجود رابط وثيق بين تفاقم الأزمات الاقتصادية وبين ما سمّاها “شبكات فساد مترابطة” استهدفت تخريب الاقتصاد الوطني واتهمها بوضوح “بسرقة أموال الشعب”، وذهب إلى وصفهم بأنهم “يتحكمون في كل شيء ولهم امتدادات في الجهاز المصرفي” يقومون “بمضاربات جشعة في تجارة العملة، وتهريب الذهب، والسلع التموينية، والاستيلاء على حصائل الصادر.

(6)

صحيح أن هذه الممارسات الكارثية على الاقتصاد الوطني المذكورة لا تعدو أن تكون نتيجة، وليست سبباً في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجلّت في انهيار سعر صرف الجنيه، ولا تحيط بالأسباب الأخرى في تردي الاقتصاد الوطني مما بات معروفاً في علم الكافة، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الممارسات الخطيرة أسهمت بلا شك في مفاقمة تلك الأسباب الجذرية ذات الطبيعة الاقتصادية، وبالطبع مصحوبة بتأثير الحاضن السياسي، لقد أدت هذه الانتهاكات الجسيمة إلى مراكمة الآثار الضخمة لسوء الإدارة الاقتصادية إلى درجة مخيفة بسبب “سرقة أموال الشعب” في تعبير صائب لتوصيف هذه الحالة، وهو ما يعني أن المشكلة لم تكن تتعلق بأداء الاقتصاد فحسب، بل بعملية نهب واسعة ومنظمة وبصورة مؤسسية، بل كذلك محمية، لمقدرات الشعب السوداني وموارده، وهي عملية أخذت وقتاً طويلاً تراكمت فيه ثروات هذه الطبقة المتمكّنة أو “شبكات الفساد المترابطة”.

(7)

حسناً من هم أبطال “شبكات الفساد المترابطة” هذه، والتي وصفها ذات يوم أحدهم بأنها طبقة “تضامن الفساد”، في الحقيقة ليست هي سوى ثمرة “الطبقة المتمكّنة” التي أنتجتها سياسة التمكين في العهد الإنقاذي، التي استولت فيها الحركة الإسلامية ليس على السلطة فحسب، بل ذهبت أبعد من ذلك حين تمكّنت من الاستيلاء على مؤسسات الدولة السودانية، لتفرغها من بعدها الوطني المنفتح على السودانيين جميعاً لتجعلها حكراً على منسوبي الحركة من أهل الولاء وتزيد إليها من شايعهم. وكان الاقتصاد الوطني صاحب النصيب الأكبر في الذهب ضحية للطبقة المتمكنة التي اختطفته وأدارته لمراكمة مصالحها بصورة فاضحة إلى حد لا تحتاج فيه أصلاً إلى إقامة دليل، وقد أبت الدنانير إلا أن تطل برأسها تقف شاهدةً في بلد مفتوح لا يخفى فيه شيء.

(8)

كان هذا فارقاً جوهرياً بين الانقلابين اللذين سبقا، وانقلاب الحركة الإسلامية، فقد حافظ النظامان العسكريان الأوليان على غالب أجهزة ومؤسسات الدولة إلا في حالات استثنائية، فيما تمت في الحالة الأخيرة عملية تفريغ واستبدال شبه كامل، لم تكن سياسة التمكين هذه إلا الحاضنة التي ولدت فيها “دولة الحركة” التي عملت على تسخير كل مقدرات الدولة للحفاظ على السلطة بأي ثمن، وفي هذا المناخ تم تخليق البيئة التحتية للفساد، الوجه الآخر أو المولود الشرعي للتمكين، حيث توفرت كل المسوغات لتمدد الفساد، وحيث لا مساءلة، ولا حساب ولا عقاب.

(9)

وليس فيما أوردناه آنفاً تهويماً ولا مزاعم بلا دليل، أو مجرد ادعاءات بلا أساس، ذلك أن الحملة التي ابتدرها الرئيس البشير على الفساد لا تدور في سوح المعارضة، أو في فضاء بعيد، بل تدور بالكامل داخل مؤسسات البيت الإنقاذي، وللمفارقة لا تكاد تسلم منها حتى تلك التي كانت محسوبة في عداد “عش الدبابير”، التي كان من بداخلها آمن مطمئن إلى أنه بعيد من مظنة أية شبهات أو في وارد أن تمتد إليه يد الحساب يوماً ما، فعاثوا في البلاد طولاً وعرضاً في فساد وإفساد منظم غير مسبوق.

(10)

ولعل الساحة الأكثر حضوراً في هذا المشهد التي تدور في رحاها الهجمة على الفساد هي النظام المصرفي، وما أدراك ما النظام المصرفي، الذي كان يُظن به أنه أيقونة التمكين وآية المشروع الحركي الإسلامي بتجربة “المصرفية الإسلامية” التي طالما تم التغني بها في مقام البديل الأكثر نزاهة وطهراً وتحقيقاً لمنظومة القيم التي نهضت الحركة الإسلامية تدعو إليها، ولعله من سوء الطالع لـ”دعاة المشروع الحضاري”، أن جوهرة هذا التاج كانت هي النموذج الأكثر بروزاً في كشف ذروة الفساد الذي انتظم “الطبقة المتمكنة” حتى باضت وأفرخت هذه الممارسات المشبوهة والسرقات في رابعة النهار لمقدرات غمار الناس الذين يتضورون جوعى، وتهصرهم المسغبة فيما يتنعم كبراء الطبقة المتمكنة بفوائض موارد البلاد، فما اغتنى غني بغير حق إلا بحق فقير مغلوب على أمره.

(11)

لم تكن انتقاداتنا المتواترات لبنك السودان المركزي من فراغ، بل كان أس كل بلاء وهو المنوط به مراقبة الجهاز المصرفي وحماية الاقتصاد الوطني، وقد كشفنا في مقالات سابقة دوره في تسريع وتيرة انهيار الجنيه السوداني المنوط به الحفاظ عليه، وها هو الرئيس البشير يعلنها بصراحة أن مراجعة أوضاع الجهاز المصرفي سيكون على رأسها “بنك السودان المركزي الذي سوف تتخذ فيه إصلاحات هيكيلة بعضها تنظيمي والبعض الآخر بتّار” ويكفي استخدام وصف “بتّار” عن الخوض في أية تفصيل كاشفة لحجم الفساد الذي ضرب حتى “حاميها”.

(12)

لقد كان النظام المصرفي الذي يطلق على نفسه صفة “إسلامي”، هو أحد أهم بؤر التمكين التي احتكرت لوجوه “الطبقة المتمكنة” وحتى عامتها، وما علم الناس لها مساهمة جادة في التنمية ولا البناء، بل ظلّت مرتعاً للامتيازات والمكاسب والتمويلات لأصحاب الحظوة، وكان الظن أن الأمر يقف عند هذا الحد، وها هي الحقائق تتكشف أنها شكّلت أسوأ مراتع للفساد تحت ظلال “الشعار الإسلامي” المنتهك قدسيته.

(13)

في الواقع أن اقتصار الحديث عن الفساد، أو بالأحرى التركيز عليه في دوائر النظام المصرفي اقتضته حقيقة أنه شكل الأداة الأساسية والقناة المسهّلة لعملية النهب المنظم الذي تورطت فيه “شبكات الفساد المترابطة”، وهي حقاً كذلك، وقد أفلح التعبير الذي استخدمه الرئيس البشير في خطابه في وصفها بدقة، وهو ما يعني أنها تتجاوز مجرد تجاوزات فردية هنا أو هناك، بل هي نتاج عمل لصوصي منظّم ومحمي من داخل مؤسسات السلطة، ومن المؤكد أنه ليس مجرد وصف بلاغي، بل حصيلة معلومات وتحقيقات وتحريات، وهذا يعني بالضرورة أن جرائم شبكة الفساد هذه ليست محصورة في النظام المصرفي وإن كانت الأوضح حضوراً فيها بحكم الحاجة الماسة لخدماته، بل هي أوسع انتشاراً وأبعد مدى، وتكاد تحيط بالكثير من مؤسسات الدولة في مجالاتها المختلفة، وفي دوائر متصلة ببعض المؤسسات العامة وكذلك الشركات الخاصة والعامة.

(14)

ولعل هذا تحديداً ما حدا بالرئيس البشير ليتعهد أمام المجلس الوطني، وقد اقتضى الحال تدخله المباشر بعد أن بلغ السيل الزُبى قائلاً “وإنها لحرب على الفساد في كل مكامنه ومخابئه، وهي حرب في بدايتها ولن تقف حتى تحقق أغراضها حتى “نسترد أموال الشعب المنهوبة، ولن يفلت أحد من العقاب”.

ولا شك أن الرئيس البشير وضع نفسه أمام تحدٍّ كبير وهو يخرج إلى العلن متصدراً المسؤولية في قيادة هذه الحملة المفتوحة السقف والممتدة الأجل على الفساد المستشري الذي نهب خيرات البلاد وحقوق المواطنين وأقعد بها، ومثلما هي مسؤوليته الشخصية بحكم المنصب، فهي ليست حرب البشير بل مسؤولية كل مواطن، يريد استرداد أموال البلاد المنهوبة وأن يضع سهمه في طريق التغيير، أن يقف إلى صف هذه الحملة التي يجب ألا يقف الناس متفرجين عليها والاكتفاء بإثارة تساؤلات حول جديتها، بل يجب أن يلعبوا دوراً إيجابياً في المزيد من الضغوط حتى لا تجد شبكات الفساد سبيلاً للإفلات بفعل السلبية والبحث عن أجوبة، فالمشهد واضح أن الحرب ضد الفساد هذه المرة دخلت عش الدبابير الذي كان يحصن نفسه بالسلطة، ولا يعقل أن يغامر الرئيس بسمعة النظام لمجرد المناورة، على السودانيين جميعاً أن يجعلوها حرباً حقيقية في طريق التغيير

ونواصل بإذن الله.

بقلم:د. خالد التيجاني النور
صحيفة الصيحة.


‫3 تعليقات

  1. رب ضارة نافعة
    هل سمعتم أو رأيتم فاسد شيوعي .بعثي.أمه.اتحادي.مستقل .سوداني عادي
    إذن من هم الفاسدون هم ما يسمي بالإسلامين والمؤلفه قلوبهم من أتباع المؤتمر الوطنى
    وهؤلاء هم حماه البشير ليس حبا فيه بل لأنه حاميهم ومن يوفر لهم المظلة
    إذن القضاء عليهم سيكشف البشير ويجعله من غير حمايه وهنا سيتم الاستفراد به من انتهازي آخر فيجعله قربانا بتسليمه للجنائيه ويجلس علي رقابنا 30 عاما أخري الي ان تدور عليه الدائره وهكذا دواليك

  2. الكل، اي كل سوداني في انتظار الغد بعد خطاب الرئيس عن الفساد ، اعتقد فرصة سانحة الناس تغتنمها والفساد استشري في معظم مرافق الدولة بالرغم من انك حصرت الفساد في البنك المركزي فقط ولم تتطرق للمرافق الاخري . الحرب علي الفساد مفروض تكون في سرية تامة حتي لا يتمكن المفسد من الهروب وعلي العموم فرصة لكل مواطن ان يبلغ عن أي فاسد ليس بالشبهة بل بالدليل أو علي أسوأ الفروض من أين لك هذا .

  3. شعب إحير الما بحتار ولا متعود إحتار كل شي قدامه ظاهر بائن
    يا ناس إنتو جادين مصدقين الكلام دا
    فسادشنو البحاربه البشير
    كم كلف عرس بت أخوه بس وجاب قروش قدر دي من وين
    مافي داعي لتكرار الكلام مع السلامة