رأي ومقالات

الاقتصاد أسقط الرئيس جعفر نميريّ


عند تحليل أسباب سقوط الرئيس جعفر نميريّ بعد ستة عشر عاماً من الحكم في أبريل 1985م، ساد رأى عام بأن الأمريكان هم الذين أسقطوه لإعلانه قوانين الشريعة في سبتمبر 1983م.

الرئيس نميري نفسه كان يرى ويعتقد جازماً أن أمريكا هي التي أسقطته لذلك السبب. بعض المسئولين الكبار في نظام الرئيس نميري، مثل مسئول جهاز المخابرات اللواء علي عبد الرحمن نميري كان يرى أن سقوط الرئيس نميري، بأسباب أميركية، جاء نتيجة رعاية الرئيس نميري لبرنامج التكامل السوداني مع مصر. لأن الدول الغربية في نظر السيد / علي نميري لن تقبل بقيام دولة متحدة تلتحم فيها إمكانات السودان و مصر.

بعض المحللين السياسيين السودانيين كان يرى أن سقوط الرئيس نميري، جاء نتيجة قراره بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، مما أجهض قيام مشروع دولة جنوب السودان، الذي وضعت هياكله اتفاقية أديس أبابا في مارس 1972م.

كلّ تلك التحليلات السياسية أسقطت دور الاقتصاد في إسقاط الرئيس نميري عن الحكم. لم يشر أي من تلك التحليلات إلى أن الأداء الاقتصادي للرئيس نميري كان السبب الأوّل في انهياره. عند الرجوع إلى المرحلة التي سبقت سقوط الرئيس جعفر نميري، إلى فترة أكتوبر 1981م، أي قبل ثلاثة أعوام ونصف من انهيار نظامه، يتضح أن الاقتصاد كان سبب سقوط الرئيس نميري. حيث وصل الأداء الاقتصادي للرئيس نميري إلى أدنى درجاته في نهاية 1981م، عند انهيار ما كان يسمَّى بمشاريع التنمية، وانخفاض دخل القطن (المحصول النقدي الأوَّل) إلى 50% من قيمته المعتادة في السنين السابقة، وإعلان السعودية رفضها ضمان السودان، وكانت من قبل الضامن الرئيس.

الأداء السيئ للاقتصاد (المايوي) انعكس على الجيش الذي كان عدده يبلغ (60) ألف جندي، وكان يعاني من ضعف السلاح الجوي وسلاح المدفعية الذي كان يتكوَّن من (18) نوعاً من الأسلحة غير المنسجمة. في نهاية 1981م أعلنت أمريكا أن الرئيس نميري إذا لم يتمكن من السيطرة على الاقتصاد، فسيقفز أحد إلى السلطة. أي بدأت واشنطن تتحدث عن سقوط النميري وعن خليفة له. لكن برغم ذلك، دعم الرئيس ريغان الرئيس جعفر نميري، لأن ليس له خيار غير ذلك.أي أن أمريكا منذ نهاية 1981م، عندما وصل الأداء الاقتصادي للرئيس نميري إلى الحضيض، أصبحت تدعم الرئيس نميري بامتعاض، أصبح فيما بعد امتعاضاً ممتزجاً بالشك، خاصة عندما توافد إلى الخرطوم عدد كبير من مراسلي وكالات الأنباء والصحافة ومحطات التلفزة الأمريكية والغربية، بعد تغطيتهم أحداث اغتيال ومراسم دفن الرئيس السادات.

جاء ذلك العدد الكبير من مراسلي الصحافة الأمريكية للخرطوم توطئة للسفر إلى (جبهات القتال الدامية) على الحدود السودانية – الليبية، بحسب الدعاية (المايوية). كان ذلك مأزقاً سياسياً وأخلاقياً وفضيحة سياسية، فلم يستطع الرئيس نميري مقابلتهم. فأوفد إليهم الفريق عبدالماجد حامد خليل.

تلك المبالغات التي روَّج لها الرئيس نميري عن أزمة السودان في حدوده الغربية مع ليبيا، أسقطت النميري في نظر واشنطن وأثارت شكوكها فيه كحليف يمكن الاطمئنان إليه، كما أثارت شكهَّا في جدواه. أصبح الرئيس نميري في نظر واشنطن يبالغ في وصف ما يجري على حدود السودان الغربية، أي الأزمة السودانية – الليبية، كي يبتز مساعداتها المالية والعسكرية. وقد واظبت أمريكا في دعمها الاقتصادي للرئيس نميري إلى نهاية عام 1983م، حيث توقف الدعم عند إعلان الشريعة.

كانت (المساعدات) و (الهبات) الأمريكية هي (الأوكسجين) الذي حفظ نظام النميري من السقوط.الوضع الاقتصادي السوداني يفيد أن نظام الرئيس نميري سقط أو مات سريرياً منذ أكتوبر 1981م، لكن (خيمة الأوكسجين) الأمريكية أي (المساعدات) و (الهبات) أبقته على قيد الحياة إلى نهاية 1983م حيث تخلَّت عنه، ليلفظ أنفاسه في أبريل 1985م بعد عام ونصف فقط. وصول طواقم مراسلي الصحافة الأمريكية والغربية, أسقط ورقة التوت عن نظام الرئيس نميري.

حيث لم يكن مع الفريق عبدالماجد أي إثبات بنوع وحجم الخسائر التي يسببها القصف اليومي للطيران الليبي!. وبينما كانت أسئلة المراسلين تمّ تصميمها على أساس تصورهم لحرب ضخمة حقيقية، لم يكن لدي الفريق عبد الماجد قصاصة ورق تبيِّن أرقام القتلى والجرحي!. هنا لم يجد الرئيس نميري بدّاً من الاستمرار في مسلسل (حرب واسعة النطاق بين السودان وليبيا) فأعلن قراره باستدعاءالعسكريين السابقين للعودة إلى الخدمة، بأمل أن يقنع المراسلين الأجانب بخطورة الموقف!. عندئذٍ استيقنت واشنطن أن النقطة الجوهرية في تحليل أزمة نظام الرئيس نميري، هي أنها لا ينبغي النظر إليها باعتبارها صراع دول كبرى تستخدم واجهات محلية، حيث يدعم السوڤييت ليبيا وتدعم أمريكا السودان. أي أن أزمة نظام الحكم في السودان, ليست في (حرب سودانية – ليبية طاحنة على حدوده الغربية)، بل أزمة نظام فشل في إدارة الاقتصاد، وأن فشله الداخلي وصراعه من أجل البقاء دفعه إلى البحث (الانتهازي) عن حليف خارجي يتعلقّ بأستاره.

هكذا سقط الرئيس نميري أمريكياً منذ نهاية 1981م. الاقتصاد كان وراء سقوط الرئيس نميري، الذي لم تسقطه الانقلابات العسكرية والمظاهرات وإضراب النقابات والمليشيات المسلحة القادمة من الخارج. ذلك درس لكلّ نظام سياسي سوداني، بأن نجاحه في البقاء على كرسى الحكم، لا يكون فقط بإحباط المخططات العسكرية والأمنية التي تستهدفه. إذ أن ذلك النوع من النجاح لا يمنحه (حصانة) من السقوط، إذا ما ساء الأداء الاقتصادي. الاقتصاد هو الذي يضمن بقاء أنظمة الحكم، أو يتسبَّب في سقوطها.

بقلم : عبدالمحمود الكرنكي.
صحيفة الانتباهه.