الفن الجسدي عند النُّوبة.. التجسيد الجمالي والوظيفي
إنَّ أغلب دارسي الفنون التقليديَّة – من المنظور العام – ينطلقون في مناهجهم الدِّراسيَّة التحليليَّة في سبيل دراسة هذه الفنون القبليَّة لأي مجتمع من المجتمعات من منظور المنهج الوظيفي. إذ تشير هذه الدِّراسات إلى أنَّ الفن الابتدائي أو الأولي – لئلا نقول البدائي، وذلك لما تحمله هذه الكلمة من استحقار واستخفاف – ينطلق من استطلاع منفصل، وليس من أجل استجابة إبداعيَّة لحظيَّة، ثمَّ إنًّه لم يُبتكر لينتج أوهاماً ترفيهيَّة كما يمكن أن يعتقد بعض النَّاس أو ما قد يبدو لهم. ومن أشكال هذا الفن الابتدائي الوشم على الجسم، أي الفن الجسدي عند النُّوبة مثلاً. إذاً، فإنَّ هذا الفن الابتدائي هو أداة عمليَّة للعمليَّة الهامة في سيرورة الحياة اليوميَّة التي يحياها الإنسان في الرقعة الجغرافيَّة والإطار التأريخي الذي عاش، ويظل يعيش فيه، مع بعض الاختلافات والتحديثات التي قد تطرأ عليه بين الفينة وأخرى، وذلك بتغيُّر الزَّمان، وتبدُّل أحوال النَّاس بفضل العلم والتَّعليم والهجرة والتمازج مع الثقافات الأخرى سواء أكان في الحيز المكاني المجاور، أو من قبل الوافدين الجدد، أو الآيبين الذين عادوا إلى ديارهم بعد أن قضوا ردحاً من الزَّمان خارج المنطقة. فالثقافة تتماهى مع نظريَّة النشوء كالإنسان. إذ إنِّها لتتوالد وتنمو وتتطوَّر، فتتدرَّج في علو متى ما واظب القائمون عليها على التتابع والاستمرار، وتنحط في الأفول في التخلِّي عن استعمالها أو استهلاكها.
مهما يكن من شيء، ففي بعض الأحايين يعطي هذا الفن الابتدائي الجسم قوة خارقة، حتى يمسي شريكاً في عمليَّة المِزاج مع الآخر الذي قد يكون صنوه أو المختلف عنه تماماً بشيء أو بآخر. ومع ذلك، فإنَّ هذا الفن لتجدنَّه يحل محل الأشياء الواقعيَّة، أو الحيوان أو الإنسان، وبذلك يأخذ وظائفهم في إدارة كل أنماط الخدمات، التي تقوم بها هذه الأشياء المذكورة إيَّاها، حتى ولو كان هذا الإحلال رمزيَّاً في شيء من الرمزيَّة شديد. ولعلَّه كذلك – أو لعلَّ من الممكن – أنَّه يضفي هذا النوع من الفن التقليدي نفوذاً سحريَّاً على الأشياء الماديَّة والمخلوقات الأخرى، بما فيها الإنسان الآخر. ومن هنا ندرك الإدراك كله أنَّ المهم في الأمر هنا ليس الوجود المادِّي لهذا الفن التقليدي الذي يبدو على الجسم كالوشم أو غيره، ولكن تأثيراته النفسيَّة والاجتماعيَّة أو الثقافيَّة على حامله أو غيره سواء أكان من أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه أو أي مجتمع ثقافي آخر.
فعلى سبيل المثال – لا حصريَّاً – إنَّ رسم صورة الحيوان على الجسد كرمزيَّة لهذا الفن التقليدي الابتدائي الإبداعي لا يقتصر فقط على عرض ملامح الحيوان من أطراف وأعضاء، أو الأشكال والنماذج الهندسيَّة المقطوعة بصورة جليَّة لتبرز أنماطها ووظائفها، وأهميَّة العلائق التبادليَّة بينها بشكل دقيق في أكثر ما تكون الدقة فحسب، بل إنَّه قد يستخدم هذه الوسائل الصوريَّة للتعبير عن السِّمات الجسديَّة كالوحشيَّة والحميميَّة عند الحيوان ذاته، ثمَّ إنَّ التفاصيل الواقعيَّة قد يشوِّش أكثر من أن يوضِّح هذه السِّمات ذات الصلة بالموضوع. ومع ذلك، يمكن أن تكون وظيفة هذا النمط من الفن التقليدي إبراز مظاهر الجمال والزِّينة. إذ أنَّ الفن الذي يُنتَج من أجل التَّعبير الجمالي – أو لنقل الذي يكون مدفوعاً بعوامل جماليَّة بحتة – نجده ذا نماذج متكرِّرة. وهذا المنحى هو ما ذهبت إليه الدِّراسات الأثنوجرافيَّة، والتي اعتبرت هذا النوع من الفن عملاً استثنائيَّاً. فلا سبيل إلى الشك في أنَّ الفن الصُّوري في المجتمع القبلي محكوم بعوامل وظيفيَّة، علاوة على العوائق الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي تجد سبيلها إلى هذا النمط من الفن.
الوشم عند بعض المجتمعات النُّوبويَّة
يُعرف الوشم عند الغرب بكلمة (Tattoo)، وهو نمط من أنماط التعبير الجسدي عن شيء ما، حيث يُوضع تصميم محدَّد عن طريق إدخال الحبر أو الصبغة، حتى يمسي مستديماً أو يبقى مؤقتاً في السَّطح العلوي للجلد، وذلك لإحداث تغيير لوني. إذ يمكن تقسيم صنوف الوشم إلى ثلاثة أنواع: تجميلي خالصاً ودون معنى محدَّد؛ ورمزي بمعنى محدَّد، أي ذلك الذي يعني شيئاً كثيراً لصاحبه؛ ثمَّ صوري وهو النمط الذي يبرز صورة شخص أو شيئاً ما. وينظر إلى صاحب الوشم عند أهل الغرب بشيء من الاستحقار المبطن على أنَّه إنسان غير حضاري؛ وفي المائة عام الماضية ارتبط الوشم عندهم بالبحَّارة والعمال والمجرمين. أما في القرن العشرين فقد بات الوشم في العالم الغربي مقبولاً إلى حدٍ ما، وأخذ يرتاده أو يقبل عليه أناس من جميع الفئات والمستويات في المجتمع الغربي.
وقد أقدم النازيُّون على عمل وشم دائم على اليهود لتمييزهم عن غيرهم من السكَّان الألمان، وكان هذا الوشم عبارة عن نجمة داؤود، ورقم المحتجز اليهودي الذي كان يتم وضعه على ذراعه أو ذراعها. بيد أنَّ الأسلوب الذي فيه تم الوشم على اليهود على هذا النحو قد فقدت كل معاني الجمال والمنهاج الثقافي، وذلك لأنَّه تمَّ من قبل سلطة ديكتاتوريَّة فاشيَّة عنصريَّة حاولت التخلُّص العرقي والدِّيني منهم، وذلك بتجريمهم وتحميلهم كل مشكلات ألمانيا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
أما في منطقة جبال النُّوبة فإنَّ أكثر المجتمعات الإثنيَّة التي نالت دراسة علميَّة في هذا المجال، والذي يجسِّد الفن التقليدي في طبيعته الجماليَّة والثقافيَّة، هي مجموعة الكاو-نيارو في الجنوب-الشرقي لإقليم جبال النُّوبة. إذ بنى الدكتور جيميس فارس دراسته عن شعب الكاو-نيارو على تحليل بعض التصميمات التَّعبيريَّة لهؤلاء النُّوبة في ذلكم االقبيل، وذلك على ما يحتوي هذا النَّمط من البحث على العمق والتركيبَّة المعقَّدة للعمليات التقاربيَّة، والتي تشمل – فيما تشمل – إنتاج وتماهي الظاهرة الفنيَّة، وبرغم من كل ذلك كان الغرض الأساس في دراسته هو النَّظر إلى القيمة الجماليَّة لهذا الفن كما كان هذا هو الدافع الرئيس، وكانت دراسة المحتوى، الذي في سبيله تمَّ إنتاج هذا الفن، ذات أهميَّة بالغة، وذلك لعدة أسباب. إذ – بالطبع – كان الأمر مهماً لفحص العناصر التي ألهمت أهل القبيل في سبيل القيام بهذه التصميمات، والمادة التي اسخدمت في ابتكار وإبداع هذا الفن، واللوائح أو القوانين الاجتماعيَّة التي تحكم هذا التقليد – أي من ذا الذي يقوم بعمليَّة هذا التجميل وكيف ومتى ولِمَ؟ ففي المجموعات الإثنيَّة التي فيها نجد أنَّ الثقافة والمجتمع متماثلان، وفيها تكون الشعائر والفنون ومجالات البنية الفوقيَّة غير نفور من المادة الأساس، يتوقَّع الشخص أن تكون هناك ثمة إيضاحات في المجالات الفكريَّة الخاصة. فلعلَّ المادة الأساس لشعب النُّوبة في الجنوب-الشرقي تعتمد في أكثر ما يكون الاعتماد على الاحتفاء بالجسم القوي الصحي، وهو ترميز لشروط الإنتاج، والجهد الجهيد الذي يُبذل في هذا المنحى الثقافي لا يتعارض مع البناء الاجتماعي. أما الجزء الثاني من الوجهة التي نحت إليها دراسة الدكتور فارس فقد ركَّز على تحليل التقليد نفسه في المحتوى والشكل لتوضيح المنطق وبرهان الاتِّساق أو التماسك البنيوي في استظهار الفن الشخصي.(1)
ومثلما هي الحال في المجتمعات الإفريقيَّة الأخرى نجد أنَّ الفن الجسدي – أيَّاً ما كان – كانت تتم ممارسته والإقبال عليه بشيء من الكثافة شديد، ولكن قد تلاشى استخدامها في بعض القبائل أو قل الإقدام عليها بسبب المؤثرات الثقافيَّة التي جاءت إلى المنطقة عن طريق العولمة، وبسبب الاحتكاك بالشُّعوب الأخرى. وكم كان مسعى الحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم في تلكم الحملة القسريَّة هو التَّعريب والأسلمة، ومحو هُويَّة النُّوبة الثقافيَّة والاجتماعيَّة، وذلك لأنَّ هذه العادات والتقاليد – حسب زعمهم – تتعارض مع أهدافهم السِّياسيَّة وذوقهم المتزمِّت.
غير أنَّ من أشهر الممارسات الرِّياضيَّة التنافسيَّة التي تتجلَّى فيها المسوح اللونيَّة على أجساد المصارعين مستخدمين الرَّماد أو الحجر الجيري نجد رياضة المصارعة في جبال النُّوبة.(2) والمصارعة تعبير للتنافس القبلي الرِّياضي الذي فيه يتحدّى المصارع منافسه في القبيل الآخر، وإنَّ الفكرة لا تقبع في إعاقة الخصم بقدر ما هي محاولة المحاورة والمناورة حتى يستطيع في نهاية الأمر إلقاء خصمه على الأرض، ومن ثمَّ يبرهن فوز قبيله، عزَّة له ولكافة أفراد القبيل، مما يعزِّز الفخر والاعتداد بالنَّفس، وبالطبع نيل رضا القبيل، والفوز في هذه الحال يجلب غرام الفتيات والتغنِّي به، وهذه الفتيات اللائي يرقصن تجدهن متزيِّنات بالخرز ذي الألوان المختلفة، ومتمسِّحات بالدهن، حتى يلمعن في الضياء الباهر.
ففي جبال النُّوبة إنَّك واجدٌ المصارعين يتمسَّحون بالرَّماد أو الحجر الجيري لخلق ألوان مؤقتة، وذلك لتخويف الخصم، وكنوع من الحرب النفسيَّة ليدخل في قلبه الرُّعب، حتى يتمكن من غلبه واصطراعه في نهاية الأمر. وفي هذه الحال يُعتبر الرَّماد مادة مقدَّسة، وأنَّ القوَّة عند الرِّجال من النُّوبة من الأشياء المرغوبة، وتُوضع هذه القوَّة والمناورة معاً موضع الاعتبار والاختبار في منافسات المصارعة في جميع قبائل الجبال، أو المبارزة بالعصي عند قبيل كورنقو، أو السوار كما كانت تتم عند قبيل كاو-نيارو في أقصى الجنوب-الشرقي من منطقة جبال النُّوبة، أو المبارزة بالسياط، حيث تُمارس هذه المنافسات كجزء لا يتجزأ من طقوس أعياد الحصاد، أو بلوغ سن الرشد عند الصبيان عند الانتقال من مرحلة الطفولة إلى الرجولة وممارسة شعائر سبر الختان.
وسبر الختان هو سبر التأهيل والانتقال الاجتماعي الذي يمر به الفرد إلى مرحلة الرُّجولة أو الفحولة، كما أسلفنا الذكر. “والواقع أنَّ الفرد لا يعتبر في أمان إلا إذا ما تمَّت مراسم ضمَّه إلى الفئة العُمريَّة التي ينتمي إليها (أي مراسم تعميده طبقيَّاً)، وذلك لأنَّ أهله يخافون (القوى) الشريرة التي قد تسيطر عليه ككائن حي وهم يبتغون الوقاية ضدها، ولذلك يسبر المولود الجديد كي لا تعترضه الأمراض والبلايا.”(3)
ومع ذلك، لم يكن هناك تنصيب أو ختان للفتيات عند قبيل أورونقي (تيمين)، ولكن حدث ختانهن أخيراً، وكذلك في بعض المجتمعات النُّوبويَّة التي تأثَّرت بالثقافة الوافدة. وحين يحين موعد زواج الفتاة عند أورونقي يتم خرق منخرها الأيسر، وكذلك الشفة السفلى لتزيينها بالخاتم وقضيب زجاجي صغير يُوضع في الشفة، على التوالي. علاوة على ذلك، تتعرَّض الفتاة إلى الفصد على ذراعيها وثدييها وظهرها وبطنها بطريقة معيَّنة، وكذلك يتم نزع اثنين من القواطع السفلى.(4) وما أن تتم عمليَّة الفصاد حتى يتم سحق حجر الزنك ومزج المسحوق بالزَّيت ووضعه في شكل عجينة تُسمَّى بلغة أورونقي “طُونطار” على الجروح، لكي تساعد على البرء. ثمَّ إن النِّساء في الماضي كذلك كن يخرقن مهوى القُرط، ويضعن عليها حلق من نحاس، وكل ذلك في سبيل الزينة.(5)
وفي قبيل أورونقي أيضاً يتم وشم الرَّجل الفارس الذي استطاع أن يقتل حيواناً مفترساً كاسراً كالأسد أو الفهد أو الثعبان، الذي يُعتقد أنَّه من الجان. وفي مثل هذه الأحوال يتم وضع شريط يساوي طوله ربع المتر على ظهره أو كتفه حسب حجم الحيوان؛ فكل ما كان الحيوان كبيراً كالتيتل أو الأسد أو الفهد أو الفيل أو غيره تتم عمليَّة التفصيد – الذي يكون على شكل شريط رأسي – على الظهر؛ وكل شريط يعادل صيداً واحداً اصطاده هذا الرَّجل البطل. أما في حال الحيوانات الصغيرة في الحجم فيقتصر التفصيد على الكتف، وهذا الوشم عند فرسان قبيل أورونقي، الذي يدلُّ على البسالة كما ذكرنا سلفاً، يتم وضعه بواسطة أخصائيي القرية على أحد ذراعيه أو كلتا الذراعين، أو صدره حسب حجم المهمَّة المنجزة. فكلما كثرت تصميمات الوشم وزاد جمالها، زها بها الشَّباب، وتضاعفت فرص اجتذاب النِّساء. إذ تأخذ العمليَّة برمتها، وما تتخلَّلها من طقوس اجتماعيَّة، شهراً كاملاً. والرَّجل الذي يقوم بعمليَّة الفصاد هو شخص متخصِّص في إجراء مثل هذه العمليات، حيث يستخدم آلة حادة شبيهة بالموس للقطع، وتُسمَّى بلغة القبيل “كلا”، أو “كِلا”، وبعدئذٍ يتلقَّى نصيبه في ذلكم العمل في شكل ذرة أو غيرها. أما عند قبيل كرونقو فإنَّ الفتاة لتتزيَّن بقطب خشبي صغير الحجم على منخرها ليحتفظ المنخر بالفتحة، وفي أيام الاحتفالات تضع الزمام الثمين المصنوع من العاج على أنفها، وكذلك في شفتها السفلى، وتزين أذنيها من أعلى إلى أسفل بأقراط صغيرة ملتصقة على.(6)
أما في قبيل دميك فيتم تجميل الفتاة عن طريق عمليَّة تُسمَّى “دق الشلوفة أو الشفاه (نينو بلغة القبيل)، وقد دخلت هذه العادة المنطقة في الآونة الأخيرة لإبراز جمال الفتاة لأنَّها تزيدها سحراً وجاذبيَّة. وتتم هذه العمليَّة بربط مجموعة من شوك الهجليج أو الطَّلح الليِّنة (النَّضرة) ومن ثمَّ تُدق الشفة. هذه العادة لم تكن معروفة قبل دخول قبائل مناطق غرب السُّودان، وبخاصة من دارفور والدَّاجو إلى القرية. أيَّاً كان الأمر، فليست هناك احتفالات تُذكر ولا يُدعى أحد لحضور هذه العمليَّات باستثناء أولئك الذين يرغبون في رؤيتها. وقد جرى العرف أن يُقدَّم لأولئك الذين يقومون بالعمليَّة كميَّة كبيرة من القطن “اندوارا” (بلغة دميك) لتنظيف الجرح من الدَّم بسرعة، مع تجنُّب رؤية هذا الدَّم للاعتقاد بأنَّ رؤية الدَّم الأحمر قد تصيب التي تجري العمليَّة بالعمى “توسوك” (بلغة دميك)، و”آسو” عند التلشاويين (كارنجا). وكذلك أثناء أداء العمليَّة تُوضع على الجرح ورق شجر الهجليج، أو الطَّلح الأخضر المطحون. إذ يُعتقد أنَّ عصير الورق المدقوق يعمل كمطهِّر، ويكسب الشفة اللون الأسود الداكن أو الأسود المائل إلى الأزرق.”(7)
ومثلما هي الحال في مناطق جبال النُّوبة الأخرى، يقوم نوبة مساكين قصار بتزيين أجسادهم بالوشم، الذي هو بمثابة التعبير عن القيم الجماليَّة عند نساء هذا القبيل من النُّوبة، حيث يستخدم القبيل في هذه العمليَّة التجميليَّة الشوك حيناً، أو آلة حدباء قد تكون شريحة من حجر حيناً آخر، أو جزء من زجاج مكسور حيناً ثالثاً. وبرغم من أنَّ أي شخص نوبوي بإمكانه أن يقوم بهذه العمليَّة إلا أنَّ لها أخصائيين وسط مساكين قصار، وتتمثَّل حوافز عملهم في الهدايا والهبات في شكل زيت السمسم أو الدَّواجن. غير أنَّ لهذه العمليَّة بعض المخاطر، حيث أنَّ الوشم قد يشوِّه الأذنين إذا تمَّ بصورة غير متقنة، وتتورَّم الجروح على الجلد في بعض الأحايين. وتُقبل الفتاة على عمليَّة إجراء الفصاد على جسدها عندما تأتيها العادة الشهريَّة لأول مرة، ويتم كذلك وضع التصميمات الوشميَّة على النهود، وتختلف الزخرفة ومواضعها حسب الذوق الفني والحالة الاجتماعيَّة للمرأة؛ إذ يتم عمل الوشم على بطن الفتاة حينما تحمل للوهلة الأولى، وتتم إضافة تشكيلات جديدة في كل مرة تحمل فيها المرأة. وكل امرأة تترقَّب مولودها الأول تتعرَّض إلى شعيرة الوشم، الذي هو عبارة عن نماذج مكوَّنة من ثمانٍ إلى عشر أجنحة، ويحتوي كل نموذج على ثلاثة خطوط. وينبغي أن يتم قطع 60 جرحاً، ويبلغ طول كل منه أربع بوصات في الجانبين الأيمن والأيسر من السرَّة، وما أن تبدأ المرأة في الإنجاب حتى تكاد لا ترى جزءً من جسدها خالياً من الوشم.(8) كما تتم عادة ذر الرَّماد على الجروح النَّازفة، وذلك لإنتاج خط وشمي أسود، ولخلق قمم جلديَّة أنيقة، وبخاصة إذا تمَّت العمليَّة بمهارة فائقة.
ومثلما للنِّساء من وشم، فإنَّ للرِّجال وشماً للزينة وكرمز للشجاعة والشهامة والمروءة؛ وحسبك دليلاً على ذلك هذا الوشم الذي قد تشاهده عند الرَّجال ليس في قبيلة مساكين قصار فحسب، بل عند مجتمعات كثيرة أخرى في جبال النُّوبة كما أبنا آنفاً. إذ أنَّ في قبيل مساكين نجد أنَّ الرِّجال يدخِّرون لأنفسهم نماذجاً رمزيَّة جميلة ومتكرِّرة لرسوم الحيوانات التي يتم رسمها على صدورهم، وعلى بعض الأجزاء الأخرى من الجسم. وقد ساعدت على استظهار هذه النَّماذج الفنيَّة حقيقة أنَّ النُّوبة كانوا في ذلك الرَّدح من الزمان يروحون ويئيبون عُراة، مما أثار السِّجال اللازب بين مفردة عارٍ أو عُريان (Nude)، التي تعني الصَّافي في الحس الكلاسيكي، ومعرِّي (Naked)، التي تعني المُفسِد أو المنحرف المائل، وقد يضيع الفرق بين اللفظتين عند الفئات الاجتماعيَّة التي لم يسعدها الحظ أن تنال تعليماً جيِّداً.
أيَّاً كان من أمر، فقد يزعم الكجور عند مساكين قصار أنَّ للوشم أغراضاً عمليَّة طبيَّة، وهي عادة قديمة وسط أجدادهم القدماء؛ إذ تعود إلى آلاف السنون، وتهدف إلى إكساب الجسم مناعة طبيعيَّة ضد العديد من الأمراض المعدية مثلما يقوم به التَّطعيم الوقائي الحديث. مهما يكن من شيء، فإنَّ هذه الجروح، التي تلتهب دائماً بُعيد تلوُّثها بالبكتريا تساعد على تقوية مقدرة الجسم على المقاومة ضد الأوبئة؛ إذ أنَّ لهذا التَّفسير الذي يحمله الكجور عند مساكين قصار قد يكون له عقلانيَّة طبيَّة. وبرغم من كل ما يصطحب عمليَّة الوشم من آلام، فإنَّ أهل مساكين قصار – وغيرهم من النُّوبة الآخرين – ينظرون بعيداً في الآفاق أثناء عمليَّة الوشم، وكأنَّ شيئاً لم يحدث أبداً. وفوق ذلك كله يتعرَّض الأطفال لهذه العمليَّة حين يبلغون من العمر ثمان إلى عشر سنوات. وكذلك يقوم أهالي مساكين قصار بقلع اثنين من القواطع من الفك الأسفل، وإنَّ لهم تفسيراً طبيَّاً لهذه العادة أيضاً؛ إذ يزعمون أنَّ خلال تعرُّض الشَّخص لداء الصَّرع يعض المريض أسنانه بشدَّة، ويساعد غياب القواطع في الفك الأسفل المستغيث على إعادة فتح فمه وإغاثته. ويعد الوشم أيضاً وقاية وعلاجاً ضد بعض الأمراض؛ فنجد الوشم الذي على مؤخِّرة العنق علاجاً للرعاف، أمَّا الذي على مقدِّمة الجَّبهة في خطوط صغيرة قد يكون للرعاف أو الحمى العائدة.(9)
وفي نافلة القول نستطيع أن نقول هنا إنَّ الوشم على الجسد من وجهة نظر عامة يُقصد به الجمال والزِّينة، وإنَّ أنواع الوشم لتضاف لأجساد البنين والبنات حسب تطوُّر أجسادهن فطريَّاً كما هي الحال عند بطون قبيل تيرا وغيرها؛ كما أنَّ الثبات عند التعرُّض لعمليَّة الوشم والاصطبار على الألم المصاحب لهذه العمليَّة الجراحيَّة التي تنزف دماً دلالة على عدم الخوف، بل هو مظهر من مظاهر إظهار الشِّجاعة، ثمَّ إنَّ الوشم يعد وقاية وعلاجاً ضد بعض الأمراض. ولعلَّ هذه هي تقاليد النُّوبة الموروثة، وإنَّ العجز في فهم العمليَّة التأريخيَّة لهذا الفن التليد، الذي هو ليس شكلاً من أشكال الزِّينة السلبيَّة، قد غيَّب الاحتفاء بروحانيَّة مادته في صورته الأزليَّة، وما أكثر ما نتمثَّل به هو المعنى الذي أشار إليه الشَّاعر القديم عندما قال:
تلك آثارنا تدلُّ علينا فأسألوا بعدنا عن الآثار!
مهما يكن من أمر، فقد تعرَّض بعض من هذه العادات والتقاليد أو جزء كبير منها إلى الاضمحلال أو الاختفاء والزوال تماماً، وذلك بسبب التقادم تارة، وآثار التَّعليم تارة أخرى، والهجرة أو النُّزوح بسبب الحرب الأهليَّة في المنطقة تارة ثالثة، ومحاربة السلطات الحكوميَّة لها تارة رابعة. وبما أنَّ لبعض هذه العمليَّات مضارها الجسدي الجسيم، حظرت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في التسعينيَّات من القرن المنصرم بعض الممارسات والتقاليد المستميتة كالمبارزة بالحراب والعصي والسوار، والإبقاء على ما ينفع النَّاس مثل المصارعة ونحوها من العادات والتقاليد التي لا تضر بحيواتهم في شيء من الضرر شديد. وكذلك أقدمت الحركة على تصحيح المسمَّيات القبيليَّة التي أطلقها العرب على القبائل النُّوبويَّة، وشجَّعت الحركة – فيما شجَّعت – على تبنِّي القبائل لأسمائها التي تعارف بها أهلها.
خلاصة
إنَّ شعب النُّوبة كغيره من الشُّعوب الإفريقيَّة الأصيلة الأخرى لجأ إلى ابتكار أساليب ماديّة ومعنويَّة-حسيَّة في حياته عبر القرون، وسرعان ما أخذت هذه الأساليب مناحياً وظيفيَّة كأسلوب دفاعي مثل الحماية ضد الاسترقاق حيناً، أو ترهيب الخصم في المصارعة التنافسيَّة حيناً آخر، أو للأغراض الجماليَّة حيناً ثالثاً. واهتمَّ دارسو الإناسة في مجتمعات النُّوبة، أو الرحَّالة الذين زاروا المنطقة، بالجانب الأثنوجرافي والمادة التَّصويريَّة أكثر من التوغل في الدوافع الثقافيَّة والنفسيَّة والطقوسيَّة التي دفعت هؤلاء المواطنين النُّوبة إلى الابتداع والتمسُّك بهذا الفن التقليدي في صورته الماديَّة والرمزيَّة، حتى جاء بعض أعمالهم آخذاً طابع التقمُّص العاطفي، وذلك قبل ظهور دراسة الدكتور فارس التحليليَّة.
فلعلَّ التحليل البنيوي للتقاليد الفنيَّة القبليَّة يختلف عمليَّاً حسب الوظيفة المرصودة لهذا الفن أو ذاك كما أبنا في شرحنا إيَّاه. وبما أنَّ هذا الفن قد يكون واضحاً حيناً، إلا أنَّه يمكن أن يكون غامضاً مبهماً كذلك لا يكاد يبين من أمره شيئاً حيناً آخر. ومن هنا يكون من الجلي أن نذكر ونفهم أنَّ لتقاليد الثقافيَّة – كالفن ونحوه – لا يمكن أن تنفصل من البناء الطبقي ووسائل الإنتاج في أي مجتمع ما؛ ومن هنا أيضاً يمكن أن ندرك أنَّ المجتمعات غير الطبقيَّة يمكنها أن تنتج تقاليداً تختلف في المحتوى الجمالي في أكثر ما يكون الاختلاف عما عند التقاليد الثقافيَّة التي نجدها في المجتمعات المؤسَّسة على الطبقة.
مهما يكن من أمر، فإنَّ مستقبل هذه التقاليد النُّوبويَّة محكوم بمدى التمسُّك بها، والمثابرة عليها، ووجود الأرض للممارسة فيها، ونقلها للأجيال كما يتم في المهرجان السَّنوي للشُّعوب الأصيلة في العاصمة القوميَّة، ووجوب تعميمها في المدن السُّودانيَّة المختلفة حتى تكون أشبه بمهرجان المواطنين من ذوي الأصول الكاريبيَّة التي تُعقد سنويَّاً في مدينة لندن والمدن البريطانيَّة الأخرى.
بقلم:الدكتور عمر مصطفى شركيان
سودان تربيون.