رأي ومقالات

في مواجهة كتائب النحل الغازي !

أشدّ ما كان يواجهنا في الغابات المدارية التي تزخر بأشجار السافانا الغنية من الطلح الأبيض والأحمر والسنط الشوكي والتبلدي والجميز والسيال والهشاب والهبِيل هجمات النحل البري التي تختلف عن مثيلاتها الصغيرة، فلا تكاد تخلو شقوق شجرة كبيرة من خلية نحل تفرز العسل الأبيض أو الأحمر ، ومن روائع الخلايا في محمية الدندر في السودان أنك لستَ بحاجة إلى قطع الخلية لاستخراج العسل فما عليك إلا أن تضغط بقوة عليها ليخرج العسل سائلا عذبا مائعا في إناء تضعه أسفله كما يفعل سكان المحمية الخبراء.

أول إصابة لي كانت مع دخولي البوابة الرسمية للمحمية حيث حذرني حراس المحمية في السنيط من الاقتراب من الجهة اليسرى للبوابة حيث تعيش خلية كبيرة، ولكن الفضول دفعني هناك لأنظر من بعيد فانقضّ عليّ النحل ولدغني بقوة في فروة رأسي وفي ساعدي وفي خدي الأيمن، ولم أشعر هذه المرة بألم مُمِضّ فظيع كما كنتُ أشعر به من قبل، وكأن جسدي قد اعتاد على القرصات في مواضع أخرى، ولكن الألم بقي لأيام في رأسي، وعندما ذهبت لأغسل يدي في حمام قريب، وجدتُ أن النحل يسكن البئر الذي يُستخرَج منه ماء الغسيل، ويعشش في المواسير بأعداد هائلة فلقيتُ هناك نصيباً آخر من اللدغ .

عندما وصلنا إلى جبل مقَنو حيث تسكن قبيلة القُمُز المجهولة قريباً من الحدود مع إثيوبيا ، كان الوضع أسوأ بكثير فالماء قليل عزيز هناك، والخلايا أشبه بممالك عملاقة تسيطر على الجبل، حتى إن قرود الطلح الصغيرة تخشاها إذا ثارت فتصرخ جارية زاعقة .

هذا النحل يتحسس جداً من أي رائحة، ويهاجمك إذا اقتربتَ منها المسافة الآمنة عادةً بسبب هذه الرائحة سواء كانت رائحة عطر أو عرق أو مطرّيات البشرة ، ولكن العجيب أنه شديد الجاذبية للماء، ويكون هذا النحل هادئاً غير هجومي بعيداً عن خلاياه باحثاً عن الماء، لذلك اعتدنا عليه إذا وقع علينا عندما نتوضأ أو نغسل أيدينا أو نعدّ طعامنا أو نغسل أوانينا، والغريب أنه يظل يشرب ولا يترك مكانه حتى يفنى الماء، ولذلك تجد أعداداً كبيرة منه تموت غارقة في تجمعات الماء الصغيرة حتى إن كانت في قعر قصعة صغيرة، ويكون هذا النحل غذاء شهيا للنمل الأسود الشحبوط الذي ينشغل عن قرْصنا بوجباته الكثيرة .

وأغلب الناس هناك لا يتوضؤون بالماء بسبب هذا النحل إضافة إلى قلته، فيستعيضون عن الوضوء بالتيمم بالتراب، وهذه من المسائل الفقهية النادرة التي لم أجد أحداً من الفقهاء قد دوّنها، فقد يتحول هذا النحل إلى موت سريع إذا تغيّر مزاجه الهادئ وقرّر أن يعدّك عدوّاً.

د. أسامة الأشقر