ضربني وبكى..!!
القصة ليست المسلسل المصري، هي أكبر من ذلك، فالنخب المصرية، عالم صناعة الدراما والتأليف المسرحي والسينمائي والدرامي المصري على مر التاريخ الحديث، وكبار المثقفين والنقاد والكتاب ظلوا يعملون جميعاً على تنميط صورة الشخصية السودانية
على أنها وضيعة وهامشية ويقدمونها في الصور المعروفة التي ظلت راسخة في السينما والدراما التي تنتجها القاهرة، فالسوداني إما بواب أو عامل نظافة أو يعيش على ناصية خالية الذكر من الحياة، وهو مصدر التنكيت والسخرية الدائم في الأفلام والمسلسلات.
> ولم تحاول القاهرة في يوم من الأيام أن تكتشف السودان، وظلت نخبها تزدري ما هو جنوبها، متعالية بنظرة متخلفة وباهتة من الاستعلاء الأجوف، وحتى المصريين الذين عملوا في السودان أستاذة في جامعة القاهرة فرع الخرطوم أو دبلوماسيين أو معلمين في المدارس الثانوية والمعاهد العلمية في سنوات سابقة، لم يسع إلا القليل منهم إلى إنصاف السودان وإعطاء شهادة صادقة عنه، وظلت الصورة المنمطة على حالها، تترافق معها قناعات غير صحيحة لدى السياسة المصرية بأن السودان الضعيف المهترئ الممزق بالحروب هو أفضل أنموذج مطلوب للقاهرة حتى تستمر في تتبيعه لها واستغلال فائض مياهه والإبقاء على حصص مياه النيل كما هي ومنعه من استغلال حتى حصته، ثم الأهم جعله مربوطاً بتوجهات القاهرة الرسمية.
> ظلت الصورة هكذا لدى النخب المثقفة والطبقة السياسية المصرية حتى عام 1989م عندما جاءت الإنقاذ، وشعرت مصر لأول مرة بأن في الخرطوم نظاماً مختلفاً يخالفها في التوجهات والمواقف ومستقل بقراره، واكتشفت فجأة أن في السودان عقولاً ورجالاً وأفكاراً سياسية لا تدور في الفلك القديم، وسعت العقلية السياسية المصرية إلى ابتداع صورة جديدة للعمل على تنميطها أيضاً مثل صورة البواب والعامل البسيط والرجل الطيب بالمفهوم المصري أو بالأحرى المستغفل، وتلقفت القاهرة الرسمية أولاً دعاوى باطلة وكاذبة في بداية عقد التسعينيات تتعلق بتوجهات السلطة الجديدة في الخرطوم، ثم تباعدت الخطى في حرب الخليج عقب غزو العراق الكويت، فسعت القاهرة إلى تشويه الموقف السوداني وقيادة حملات إعلامية شرسة ضده، تودداً للدول الخليجية آنذاك وتزلفاً لواشنطون التي تولت يومها تكوين التحالف الدولي ضد عراق صدام حسين.
> وعندما تمت فبركة قصة محاولة اغتيال حسني مبارك، تم للنظام المصري آنذلك ما يريد، ففتح أبواقه السياسية والإعلامية ضد السودان بأنه موطن ومصدر الإرهاب وأنه الخطر الحقيقي على الأمن والسلم الدوليين، وكلنا نعلم ونعرف ونتذكر ما كان يكتب ويقال عن السودان في وسائل الإعلام المصري ودمغ السودان بالإرهاب، وكانت التقارير التي تمد بها القاهرة واشنطون وتتحدث عن السودان ورعايته الإرهاب هي التي ساهمت في فترة من الفترات في إقناع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون بوضع السودان ظلماً وبهتاناً في قائمة الدول الراعية للإرهاب، واستمر ذلك حتى ضاقت المخابرات المركزية الأمريكية في فترة من الفترات بالتقارير الاستخبارية المصرية المفبركة ضد السودان، وتم تنبيه الجانب المصري إلى أن الـ (CIA) تعلم وتعرف عن السودان كل شيء، وتعرف أين الحقيقة من التضليل ..؟
> واستمر هذا السيل الجارف من التشويه والتشويش على صورة السودان كدولة، وصنعت الآلة الإعلامية المصرية منذ ذلك الوقت حتى اليوم صورة جديدة للسودان تحذِّر من خطره على الأمن القومي المصري ومن علاقات متوهمة بالجماعات الإرهابية المصرية، والغريب أن القاهرة الرسمية هي أول من يعرف هذه الحقيقة أنه لا يوجد إرهابي مصري واحد في السودان، ولا يمكن للجماعات المصرية أن تنطلق من الأراضي السودانية، وعندما تم الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي وأُجهضت الديمقراطية الوليدة في مصر، تحول الإعلام الانقلابي إلى حملاته المسعورة متهماً السودان بإيواء عناصر جماعة الإخوان المسلمين المصرية، واتضح أن كل التقارير كانت مزيفة ومعلوماتها مفبركة وكذوبة، وتعامل السودان بحكمة مع الحكومة المصرية، وتم تنسيق على مستوى عالٍ في مستويات تفاوض وتشاور مختلفة بين الأجهزة الأمنية السودانية والمصرية للتحقق من وجود أية عناصر تهدد أمن مصر في السودان .. ومازال هذا التنسيق موجوداً ..
> لكن مع كل هذا تظل العقلية المصرية في كل مستوياتها السياسية والثقافية والإبداعية تفكر بطريقة واحدة معاكسة للحقيقة، فمسلسل (أبو عمرو المصري) هو نتاج لهذه العقلية، وأنتجته شركات الإنتاج الإعلامي والقنوات التي تتبع للمخابرات العامة، واطلعت عليه هيئة الرقابة التي تتبع للمجلس الأعلى للإعلام برئاسة مكرم محمد أحمد، وتم الاحتجاج عليه منذ البداية عندما علمت به الجهات المختصة السودانية، لكنه لم يوقف من الطرف المصري ولا حتى تم اعتذار عنه، ومصر تعودت على الاعتذار لدول أخرى كثيرة، ولعله بات واضحاً من مراحل إعداد المسلسل وعدم إيقافه وتمرير الرقابة المصرية له، أن هناك رضاءً كاملاً عنه، بل تُرك ليكون إحدى وسائل تنميط السودان في صورة جديدة هي رعاية الإرهاب وإيوائه.. بينما العكس تماماً هو الصحيح، فمصر هي التي تأوي وتدعم الجماعات الإرهابية السودانية في أراضيها والحركات المسلحة وكل صنوف المعارضة السودانية، بل دعمتها بالسلاح والمال والعتاد الحربي وشجعتها في عملياتها الحربية خاصة المتحركات المعارضة التي دخلت الأراضي السودانية من ليبيا وجنوب السودان في مايو من العام الفائت.. رمتني بدائها وانسلت!!
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة