مشروع قومي للعودة الطوعية
لم يبق من أزمة دارفور إلا المظهر الإنساني المتطاول المتمثل في معسكرات النازحين، وقليل وضئيل من جيوب صغيرة للتمرد لا تراها العين المجردة في أعلى قمم جبل مرة،
كما لم تمكث شاخصة إلا الحكايات المرويات والذكريات الأليمة عن أزمنة الحرب والتمرد، مع طي صفحات الماضي القريب، نرى الآن بعد أن تم استتباب الأمن ودحر التمرد والقضاء عليه وفرار بقية قواته ليعملوا مرتزقة في ليبيا مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر وفي دولة جنوب السودان، نرى اجتهاد الحكومة في معالجة الوجه الإنساني للأزمة والعمل الجاد لإعادة النازحين إلى مناطقهم ومواطنهم التي نزحوا منها أيام استعار الحرب، وغادروها فراراً من القتل وجنون الاقتتال.
> وبالنظر إلى الجهود التي تبذلها حكومات الولايات الخمس طيلة السنوات الماضية في محاولات مضنية لم تنقطع لإعادة النازحين إلى مناطقهم ودمجهم في الحياة من جديد بعد سنوات عاشوها في معسكرات مذلة ومهينة للكرامة الإنسانية تقذف لهم المنظمات الأجنبية بفتات الإغاثات وبعض المساعدات الإنسانية، فإن العودة الطوعية لنازحي دارفور يجب أن تكون مشروعاً قومياً تشمّر فيه الحكومة الاتحادية سواعدها لدعم الحكومات الولائية، وتنطلق منظمات المجتمع المدني والجمعيات الطوعية الوطنية في أكبر قوس قزح من الأنشطة ضمن مشروع وطني خلاق لتعمير مناطق العودة، والمساهمة في إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، وتقديم كل ما يلزم للنازحين لبدء حياة جديدة في مناطقهم وتطبيع حياتهم وإعادتها كما كانت، وبدء مسيرة الإنتاج والاعتماد على الذات.
> في تجربة ولاية جنوب دارفور التي توجد بها أكبر معسكرات النزوح وأهمها وتستوعب أعداداً مهولة من النازحين القادمين من مناطق الولاية ومن الولايات الأخرى، لا بد من ملاحظة أن عملية العودة الطوعية لا تقل في أهميتها وضرورتها عن عملية حفظ الأمن ومقاتلة التمرد، فإن كان القتال هو الجهاد الأصغر فقد تفرغت الحكومة اليوم إلى الجهاد الأكبر، ونتيجة للوجود في أطول فترات النزوح عمراً في العالم كما تقول المنظمات الأجنبية، حيث لا يوجد في تجارب العالم معسكر للنزوح امتد لثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً متواصلة، نتيجة لهذا حدثت تحولات اجتماعية وثقافية ونفسية حادة لدى النازحين وتغيرت مفاهيمهم للحياة نفسها، مما مثل تحدياً كبيراً أمامهم ومعضلة تعيق العودة، ويتطلب هذا جهداً لا يقل عند جهد الحرب في إقناعهم بالأوبة وترتيب أوضاعهم من جديد.
> ففي جنوب دارفور التي نأخذها كمثال، كان للاستقرار الأمني وجمع السلاح من أيدي المواطنين وحصره فقط في أيدي القوات النظامية التابعة للدولة وتحقق الكثير من المصالحات القبلية وعودة الحياة إلى طبيعتها بفعل الترابط الاجتماعي القوي لمجتمع الولاية، ثم تناقص الخدمات والإمدادات الغذائية في المعسكرات بسبب خروج منظمات أجنبية كثيرة من البلاد بعد إقرارها بتحسن الأوضاع في دارفور وانتهاء الحرب، كان لكل هذه العوامل مجتمعة أثر ودور بارز في زيادة وتقوية قناعات النازحين بالعودة الطوعية دون إكراه أو إجبار.
> وخلال عام وأربعة أشهر منذ 2017م حتى أبريل 2018م، عادت إلى مناطقها ما يزيد عن (45) ألف أسرة من معسكرات (كلمة، كاس، ميرشنج، السلام، عطاش، دريج، بليل، دمة، قريضة، كتيلة، السريف، عد الفرسان، منواشي، معسكرات شمال دارفور، سكلي، قرى جبل مرة) بالإضافة إلى لاجئين في معسكرات لجوء في إفريقيا الوسطى، وكل هؤلاء عادوا بطوعهم بعد توصلهم إلى قناعات مؤداها ومفادها أن الأخطار التي كانوا يخافون منها وتحول دون عودتهم قد تلاشت كما الدخان.
> وتنتظم الآن الولاية حركة دؤوبة للعودة، مقابل خروج نهائي للمنظمات الأجنبية من المعسكرات وخروج بعثة اليوناميد وقواتها وحصر وجودها في منطقة (قولو) بجبل مرة، وتواجه العودة الطوعية تحديات جسام لا بد من تضافر جهد الحكومة الاتحادية مع الحكومة الولائية لمواجهتها، فالنازحون مازال بعضهم يتخوف من عدم وجود مؤسسات تعليمية (مدارس) في قرى العودة الطوعية والمناطق الأصلية خاصة المدارس الثانوية لأبنائهم الذين ولدوا وترعرعوا في المعسكرات، ثم خدمات المياه والخدمات الصحية، مع ضرورة توفر احتياجات أخرى لازمة في المرحلة الأولى للعودة، مثل المواد الغذائية والإيوائية والخدمات المختلفة من صحة ومياه وتعليم.
> الفكرة التي ننادي بها هنا ومن هذه الصحيفة، أن تطلق رئاسة الجمهورية وقيادة البلاد مشروعاً قومياً ضخماً مثل مشروع جمع السلاح يسمى (مشروع العودة الطوعية) يستنفر الجهد الرسمي والشعبي ويعلي من قيم التكافل والنفير وثقافته وسط المجتمع السوداني، لإعادة جميع النازحين إلى مناطقهم وقراهم، ومساعدتهم في إعادة دورة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها، وتصفية الوجه الإنساني لأزمة دارفور الذي كان يستغل سياسياً من قبل الحركات المتمردة والدوائر الغربية.. فهل تبتدر رئاسة الجمهورية هذا المشروع الكبير؟
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة