ما الذي يجعل فيسبوك يبقى “إلى الأبد”؟
بينما كنت في عامي الأول بجامعة إنديانا عام 2004، سمعت عن موقع جديد للشباب، إذ كنت حينها أتحدث مع أصدقائي عبر خدمة “إنستنت ماسينجر” لموقع أمريكا أون لاين، وأنا في غرفتي ببيت الطلبة في بداية فصل دراسي جديد.
“هل سمعت عن (فيسبوك)؟” هكذا قال لي اثنان من أصحابي، واقترحا علي الاشتراك فيه، شأني شأن بقية الشباب الجامعي.
واليوم في عام 2018، يجلس مؤسس ومدير فيسبوك، مارك زوكربيرغ، أمام الكونغرس الأمريكي محاولا إقناع أعضائه بأن شبكته الاجتماعية، التي بدأت كوسيلة للتواصل بين الطلاب، لا تشكل خطرا على استقرار الديمقراطية الغربية، ولا تستهين بالبيانات الشخصية لمستخدميها.
وخلال جلسة الاستماع التي جرت في إبريل/نيسان، اعترف زوكربيرغ بتقصير مؤسسته في منع استغلال الخدمة التي تقدمها من قبل مروجي أخبار كاذبة، وجهات أجنبية تسعى للتأثير على الانتخابات، فضلا عن تسريب البيانات. وجاء ذلك بعدما تبين في مارس/آذار أن شركة استشارات سياسية تدعى (كمبردج أناليتيكا) استغلت بيانات الملايين من مستخدمي فيسبوك دون موافقتهم، وهي الفضيحة التي هزت عرش فيسبوك، وجعلت مؤسسها يعيد النظر في تعاملات مؤسسته.
وخلال جولته الاعتذارية الأخيرة، واجه زوكربيرغ أسئلة أصعب أمام البرلمان الأوروبي، إذ تتجه أوروبا للعمل بقوانين جديدة تعد من بين الأكثر صرامة عالميا لحماية خصوصية البيانات.
وهكذا يتضح الفارق الكبير بين استخدامي مع زملاء الدراسة للموقع قبل 14 عاما، من قبيل طلب الصداقة والإعجاب بالصور، وما صار إليه فيسبوك الآن من تطور اجتماعي يثير الإعجاب والوجل في آن واحد، خاصة بالنسبة لي وأنا بين الآلاف الأول من مستخدمي الموقع.
فكيف تطور الموقع من شبكة جامعية إلى وقتنا هذا؟ ولماذا ازدهر بينما أخفق منافسون مثل (ماي-سبيس)؟ وما السبب في تمسك أعداد ضخمة من المستخدمين به رغم التغيرات المستمرة في شكله، ناهيك عن الفضائح التي لحقت به مؤخرا؟
أما السؤال الذي لا يبرح ذهني فهو: هل سيستمر فيسبوك بلا نهاية؟ وأخشى أن الإجابة ستكون بالإيجاب.
“ماي-سبيس” و”فريندستر”
يعزى الكثير من نجاح فيسبوك إلى لحاقه بركب الإنترنت بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب.
ويقول بيرني هوغان، الباحث البارز بمعهد أوكسفورد للإنترنت: “فشل فريندستر لسبب بسيط، وهو أن التوقيت لم يكن مناسبا. لابد أن يكون الناس مستعدين للاشتراك في موقع للتواصل الاجتماعي، كذلك لابد من الانتباه للكثير من التفاصيل المهمة الأخرى”.
والمقصود بتلك التفاصيل المهمة هي الجوانب التقنية التي أتاحت لفيسبوك مواصلة عمله يوميا والتي لم تتوافر في الأعوام الثلاثة الأولى من الألفية.
وبحلول عام 2004 زادت سرعة الإنترنت وأصبح تشفير المواقع أكثر تطورا. ومن ثم زالت العراقيل التقنية التي كانت تقف في طريق مواقع التواصل الاجتماعي الأولى، من قبيل “فرينستدر”، و”فريندز-ريونايتد”.
ورغم العراقيل التقنية، مهدت تلك المواقع الطريق أمام فيسبوك في وقت كان الناس لا يزالون يترددون في الكشف عن كثير من تفاصيل حياتهم على الإنترنت، ففي التسعينيات كانت هناك مخاوف من مجرد المشاركة بالاسم الأول على الإنترنت، أما الآن فقد وصلت المشاركة إلى حد الإفراط، بما في ذلك الصور الشخصية “سيلفي” ومن ثم دخلت مفردات جديدة إلى معاجم اللغة الإنجليزية.
ويقول تيم هوانغ، مسؤول المعايير الأخلاقية بمبادرة الذكاء الاصطناعي بمؤسسة “فيوتشر سوسايتي”، متحدثا عن “فريندستر” و”ماي-سبيس” إن هذين الموقعين “جعلا المجتمع يعتاد فكرة شبكات التواصل، فعادة ما يحاول الشخص مرة ثم مرة أخرى، بعدها يقبل على المنتج”.
ومع حلول عام 2005، أمكن لفيسبوك توظيف الكثير من المهندسين الموهوبين من وادي السليكون، ما ساعده على إرساء بنية للموقع دفعت به نحو نمو مطرد لقاعدة مستخدميه.
ويشير هوانغ إلى “مصادفة سعيدة” أخرى أسهمت في نجاح فيسبوك، وهي اتساع دائرة الهواتف المحمولة بشكلها الحالي، والتي انتشرت بتكلفة زهيدة في العديد من البلدان النامية، وباتت الوسيلة الوحيدة التي يتصل بها كثيرون بالإنترنت، وفيسبوك بالنسبة لهؤلاء بات مرادفا للإنترنت.
ويقول هوانغ: “أعطى الهاتف المحمول زخما هائلا للتواصل الاجتماعي، إذ أصبح التواصل في كل وقت وآن بمتناول اليد وصار المحمول منصة إخبارية وحوارية بالغة الأهمية لا قبل للحواسب باللحاق بها”.
فيسبوك “ذو الأرواح السبعة”
ومع انتشار الفيسبوك صار الحديث عن ضرورة انحساره بشكل ما في المستقبل القريب. وتكهنت دراسة عام 2014 أجرتها جامعة برينستون بأن فيسبوك قد يفقد “80 في المئة من قاعدة مستخدميه ما بين عامي 2015 و2017″، وكان هذا التكهن قبل أي بوادر لفضيحة كمبردج أناليتيكا التي أضرت كثيرا بسمعة الشركة، فكيف تأتى لفيسبوك أن يكون كقط ذي سبعة أرواح!
أولا أصبح فيسبوك جزءا لا يتجزأ من النسيج الرقمي للقرن الحادي والعشرين، ويدلل هوغان على ذلك بأن الدخول إلى مواقع وتطبيقات أخرى للإنترنت يتم عبر اسم المستخدم وكلمة السر الخاصة بفيسبوك.
ويقول هوغان: “أردت اليوم شراء تذاكر حفل موسيقي، وطُلب مني الدخول على فيسبوك أولا وتعين أن أتذكر اسم المستخدم وكلمة الدخول لحسابي على فيسبوك، الذي لم استخدمه منذ وقت طويل، وهكذا أصبح فيسبوك دلالة هوية رقمية في أحيان كثيرة”.
ويقول علماء نفسيون إن فيسبوك يلبي حاجات إنسانية أساسية تجعله أكثر رسوخا بمواجهة حملات التواصل الاجتماعي، مثل حملة “احذفوا فيسبوك”، المطالبة بحذف المستخدمين لحساباتهم، وبمواجهة المخاوف المتعلقة بالخصوصية.
وتقول كاتالينا توما، أستاذة علم التواصل بجامعة وسكنسن، إن المستخدمين يعودون مجددا إلى فيسبوك، فالمواقع مثله “تمس وترا إنسانيا يتعلق بالرغبة في التواصل مع آخرين”.
وهناك فوائد لهذا التواصل، “فالكثير من الدراسات أظهرت زيادة الرصيد الاجتماعي للأشخاص بزيادة استخدامهم لفيسبوك؛ ذاك الرصيد المستقى من مجرد التواصل مع آخرين، من قبيل الدعم المعنوي والاستشارة وطلب النصح”، كما تقول توما، معللة تمسك الناس بفيسبوك بل وزيادة استخدامه رغم ما تصفه بـ”اللمحات الانتقائية” المبالغ فيها التي تجعل حياة الآخرين تبدوا أكثر تألقا مقارنة بحياتنا، “فرغم شعورنا بالإحباط من تلك إلا أننا لا نستطيع العزوف”.
وبالنسبة للكثيرين تتفوق مزايا فيسبوك على عيوبه، إذ أنه يساعد في العثور على الأصدقاء الذين انقطعت الصلة بهم منذ أمد طويل ومطالعة إعلان وظيفة وتوسيع دائرة الأعمال.
وحتى بمواجهة فضيحة تصدرت عناوين الأخبار عالميا لم تتأثر قاعدة المستخدمين قياسا بذلك، ورغم أن تلك الفضيحة جاءت بعد عام كامل من التغطية الإعلامية السيئة لفيسبوك.
ويشير هوغان إلى العلاقة “العدو-الصديق” بين فيسبوك وبيانات المستخدم، فطالما كان الإنترنت بين راحة أيدينا عبر هواتفنا، ستظل مؤسسات مثل فيسبوك تتحكم في حياتنا.
ويقول هوغان إن شركات التواصل الاجتماعي “تسعى لاستغلال انتباهنا للتربح. وقد عبر زوكربيرغ عن ذلك صراحة أمام الكونغرس حينما سئل عن كيفية حصول فيسبوك على التمويل، فأوضح أن ذلك يأتي من خلال الإعلانات”.
نهاية فيسبوك؟
وبعد فضيحة كمبردج أناليتيكا، نشر زوكربيرغ اعتذارا للملايين من مستخدمي فيسبوك الذين استغلت بياناتهم واستمرت قافلة فيسبوك تسير قدما.
ويتوقع سكوت غالاوي، أستاذ التسويق بجامعة نيويورك ومؤلف كتاب “الأربعة الكبار” الذي يستعرض التأثير الهائل لقلة من شركات التكنولوجيا، أن تزيد أرباح فيسبوك.
ويقول: “حتى حينما يتحدث المستهلكون عن حنقهم مما حدث يعبرون عن ذلك على فيسبوك وإنستغرام. ومع قاعدة مكونة من 2,2 مليار مستخدم نشط شهريا لن تترك الجهات الإعلانية فيسبوك أبدا”.
ولكن الوضع قد يتغير إذا عزف المستخدمون الشباب عن الموقع، وبالتالي تركته الإعلانات، فالبعض يتكهن بخروج جماعي لجيل أوائل العشرينيات وما دونهم من فيسبوك مع إقبالهم على مواقع تحذف رسائلهم تلقائيا كموقع “سناب-تشات”، وليس المشاركة على الملأ على طريقة فيسبوك، حيث الآباء يطالعون فيسبوك ويطَّلعون على ما يكتبه أولادهم وما يُكتب لهم.
وقد تكهنت شركة “إي-ماركتر” البحثية في فبراير/شباط بانخفاض متسارع لمستخدمي فيسبوك الأصغر سنا، فقد ترك 2,8 مليون أمريكي في سن الخامسة والعشرين ودونها الموقع في العام الماضي، بينما يتوقع أن يتركه عدد أكبر في 2018.
ولكن يبدو أن الشريحة الأكبر سنا أكثر استقرارا، وكذلك المسنين. وقد تحدد حكومات العالم مصير فيسبوك في المستقبل مع استمرار تنامي نفوذه.
وتقول شيري تيركل، أستاذة الدراسات الاجتماعية للعلوم والتقنيات بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا: “لا أعتقد أن السؤال هو ما الذي قد ينهي فيسبوك، بل السؤال هو ما الذي سيجعل الناس يستخدمونه استخداما صحيحا. لقد كنا نعلم بالمخاطر وتجاهلنا ذلك، والآن لم يعد بإمكاننا غض الطرف عن مخاطر تسرب البيانات والأخبار الكاذبة”.
وتضيف: “هناك تحرك الآن من جانب المستهلكين يطالب باتخاذ معايير أفضل، فالناس يريدون التحكم في الطريقة التي يستخدم فيسبوك بياناتهم بها، وألا يشاركوا إلا بما يعرفون أنه عرضة للانتقال لجهات أخرى”.
وهناك مشكلة أخرى تتعلق باحتكار فيسبوك لسوق التواصل الاجتماعي. ويقول غالاوي إن “حجم فيسبوك الهائل وتوافر تمويله يجعله قادرا على شراء أي منافس أو إخراجه كلية من الساحة”، مشيرا إلى شراء فيسبوك لواتسآب وإنستغرام.
وحاليا يبدو فيسبوك متأصلا في حياتنا اليومية ولا مهرب منه. ويقول غالاوي: “الأرجح أن يبدأ الناس في التفكير في تحويل فيسبوك من شركة واحدة عملاقة إلى عدة شركات، ما قد يعود بفائدة أكثر على الأسواق والاقتصاد بتحفيز الإبداع وخلق وظائف جديدة”، مقارنة بطي صفحة فيسبوك، وكأنه لم يوجد يوما.
ويمكن أن يحدث ذلك بتضييق الحكومات للوائحها التنظيمية، وهو ما يحد من نفوذ فيسبوك، فنجاح فيسبوك في تلبية احتياجنا للتواصل لم يعفه من التدقيق الشديد كما شهدنا مؤخرا في أوروبا، نظرا لحجمه وانتشاره الهائل بين المستخدمين، واتساع دائرة تأثيره، مما جعل هناك حاجة لمن “يدافع عن الناس ويحمي مصالحهم”، حسبما يقول هوغان.
بي بي سي عربية