تحقيقات وتقارير

ضحايا التحرش.. كسر (التابو) (2-2)

(التحرش) بلا شك ظاهرة موجودة في جميع المجتمعات وبنسب متفاوتة، لا تخرج وقائعه كثيراً للعلن، لتخوف الضحية من الفضيحة؛ أو العقاب الأسري. ومجتمعنا تحديداً لم يتحرَّر بالكامل لفتح هذا (التابو)؛ الذي يُعتبر من المحرمات وخطاً أحمر؛ حتى إن كانت تُجرِّمه القوانين والشرائع السماوية، فعيبٌ على الفتاة التحدَّث عنه؛ دون الأخذ بعين الاعتبار أنها ضحية.. قلة من الضحايا يخرجن لمحاربة وقاحة المُتحرِّشين؛ وفضح سلوكهم الحيواني، في ظلِّ الوصمة الاجتماعية التي تقع باللائمة على الفتاة وأسرتها. أما الرجل فليس عليه حرج؛ لذا تجد الضحايا يتخوفن من كشف هذه الحوادث؛ ويفضلن – خجلاً وخوفاً – الصمت فيقع الضرر النفسي على الفتاة، في ظل عدم انتشار ثقافة الصحة النفسية في مجتمعنا، لتُعاني الضحية الآلام النفسية لوحدها سنوات طويلة.
(السوداني) تفتح هذا الملف الشائك، وترصد العديد من قصص التحرُّش – من القريب والغريب – تعرضن لها الفتيات؛ يحكين عن واقعهن المأساوي؛ ومعانتهن النفسية حيال أضرار التحرُّش، وعدم الثقة في النفس.. كما تورد (السوداني) شجاعة بطلة هذا التحقيق (قبس عمر)، وهي فتاة تربت على عدم الركون للابتزاز والتحرش، وتعرف كيف تأخذ حقها بقوة، وتدافع عن شرفها؛ حتى تصبح حكايتها مثالاً يُحتذى به، في أن تقول الفتاة (لا) بالصوت العالي أمام التحرُّش.

بالأمس استعرضنا قصة “قبس” مع المتحرش بالسوق المركزي الخرطوم، وكيف أنها صارعت المُتحرِّش، ووقفت أمام سلبية البعض الذين لم يتفاعلوا مع سلوك المُتحرِّش، وكيف أنها وجدت الدعم من أُسرتها وأصدقائها ومن شباب حي الصحافة، حتى لقي المُتحرِّش جزاءه وتم حبسه وجلده بأمر المحكمة.
اليوم نبدأ التحقيق، بالحكاية الثانية لقبس مع التحرُّش، وهذه المرة من قِبَلِ أُستاذها بالجامعة، وكيف أنه ضرب بأخلاقيات المهنة وشرفها عرض الحائط.
تقول قبس: “غابت أستاذة الرياضيات في عامي الأول بالجامعة عن التدريس لظرف خاص، واستلم مكانها أستاذ (…) لتدريس المادة بدلاً عنها، لاحظت أنه يراقبني بنظراته كثيراً أثناء المُحاضرة، ولم أعتقد حينها أن لديه أي نوايا غير حسنة. وفي امتحان المادة كان ضمن المُراقبين، وكان يقف بجواري؛ الشيء الذي أربكني في وشتَّتَ تركيزي في حل الامتحان، وقال لي: عقب الامتحان، احضري لي في مكتبي. فاستغربت؛ ماذا يريد مني؟! فتوجَّستُ حينها، وجالت بخاطري سيناريوهات عديدة؛ وحوادث سابقة حدثت لبعض الفتيات في الجامعات من قِبَلِ تحرُّش بعض الأساتذة. وعقب الامتحان وقفتُ مع زميلاتي أمام باب القاعة نُراجع أسئلة الامتحان، فقال لي أمام الجميع: (يا قبس، حتجيبي F في الامتحان ده)، فاتصلت بوالدتي وأخبرتُها بالأمر، وقرَّرتُ أن لا أذهب إليه في مكتبه”. وتضيف: “في الامتحان التالي، لم يكن هذا الأستاذ ضمن طاقم المراقبة، وفي نصف الجلسة فُتِحَ باب القاعة؛ وإذا بذات الأستاذ يدخل القاعة، ومن دون الفتيات قدم إليّ؛ وهمس في أذني: (أنا مش قلت ليك تعالي لي في المكتب، ليه ما جيتيني؟)، فقلت له: إني لا أعلم مكان مكتبك، فقال لي: إنه يقع في الطابق الثاني للكلية. خرجت من الامتحان أبكي، واتصلتُ بوالدتي، وقلتُ لها: سأذهب له؛ حتى أحسم هذا الموضوع”.

ذهبت قبس إلى مكتب الأستاذ، وجميع الاحتمالات تدور في رأسها، وبدأ الأستاذ يسألها عن الامتحانات وكيفية أدائها لها، وفجأة قال لها: “أنا أستاذ رياضيات، ولا أُحب الاحتمالات، ويبدو أنك غير جاهزة لي”. فردَّت عليه: إذا أنت لا تحب الاحتمالات (فأنا ما بحب الكلام البي فوق، انتَ عاوز شنو بالضبط؟)، بكل بجاحة رد عليها: (يعني أنا بقول لك تعالي لي والمكتب فاضي، يعني عاوز أعمل شنو؟ يعني حاشرح لك المادة مثلاً؟)، فقالت له: (يعني انت ناديتني عشان كده، شكلك غلطت في العنوان، وأنا ما زي البنات الفي راسك، وأقول لك حاجة: يا أنا يا انت في الجامعة دي).
قبس حينها لم تكن لديها أية خطة للتعامل مع هذا الموضوع الخطير، ولا تعرف كيف ستتصرف في مشكلتها هذه. وقالت: “تذكرت أحد أساتذتنا الأفاضل بالجامعة كان دفعة هذا الأستاذ المُتحرِّش، وحكيتُ له القصة، فذهب وواجه المُتحرِّش بالأمر، فأنكر الأخير الموضوع جملة وتفصيلاً، وقال له: واجهني بها. وحينها كان يعتقد المُتحرِّش أني سأخجل ولن أُواجهه، لكن واجهته وحكيت القصة أمام زميله، فصُدِمَ بالأمر، وقال إني فهمت الموضوع خطأ. فقلت لهما: (انتو الاتنين أولاد، لو في راجل قال هذا الكلام لفتاة، هل في معنى تاني غير التحرُّش للكلام ده؟)، حينها بدأ يتأسف ويعتذر، ووعد بأنه لن يكرر فعلته”.
في العام التالي، وجدت قبس أنها قد رسبت في مادة ضمن قسم ذات الأستاذ، بل رسبت مرة أُخرى في امتحان الملحق، وأعادت السنة الدراسية بأكملها؛ ولم تشك أن للأستاذ يداً في هذا الأمر. لاحقاً علمت أن ذات الأستاذ هو من صحَّح المادة، وأيضاً في سنة الإعادة رسبت في ذات المادة، تقول قبس: “أنجدتني العناية الإلهية، حيث صادف وقت تصحيح الامتحان، دخول الأستاذ المُتحرِّش في إجازة شهر العسل، فنجحت”. ومضت في القول: “في السنة الثالثة للجامعة، قال المتحرش لصديقاتي مرات عديدة (قولوا لقبس إنها حتشيل ورقها من الجامعة دي، خلاص)، وهو يعني أني سيتم فصلي من الجامعة. ولاحظتُ أيضا بعد انتهاء المحاضرات العديد من الفتيات يخرجن من مكتب المُتحرِّش والدموع على خدودهن، لا حول لهن ولا قوة؛ ولا يستطعن مواجهته، فقررت أن أتصدَّى له، وليحدث ما يحدث”.

قبس تقدمت بشكوى لنائب العميد، حكت فيه القصة من الألف إلى الياء، وقال لها إنها ليست أول شكوى تصل في هذا الأستاذ. بعدها بدأ الأستاذ بمضايقة قبس في المحاضرات، وقال في إحدها: (انتو بتشتكوني مش كده، كويس أمشوا اشتكوا تاني، نشوف آخرتها معاكم). بعدها نصح قبس أحدُ أقربائها بأن تتقدم بشكوى إلى الحرس الجامعي. فذهبت قبس وتقدمت بشكوى رسمية للعقيد بالحرس الجامعي، وتم تشكيل مجلس تحقيق من بعض أساتذة الجامعة، وطُلب من قبس أن تأتي بالشهود على التحرُّشات، وأتت قبس بشاهدة.
وتقدمت أيضاً طالبة أُخرى بشكوى رسمية ضد ذات الأستاذ، وأرفقت محادثات (واتساب) كان يبعثها الأستاذ للطالبة. واتصل أستاذ كبير بلجنة التحقيق بأهل قبس وقدَّم اعتذاراً عن ما بدر من المُتحرِّش، وقال لهم إن الإجراءات القانونية على وشك الانتهاء، وتم إيقاف بحث المُتحرِّش في رسالة الدكتوراه. وعند بداية العام الدراسي الأخير تمَّ فصل الأستاذ من الجامعة.

خداع النفس

تأكد الطبيبة النفسية والأستاذة الجامعية د.ناهد محمد الحسن؛ أن المُتحرِّش ليس لديه شعور بالذنب من جرَّاء فعلته، وأوضحت أن لديه قدرة على خداع نفسه والفصل بين الأخلاق وبين ما يفعله عبر ميكانزمات نفسية دفاعية يقدم فيها (التبرير) لفعلته. وقدمت د.ناهد مثالاً للمتحرش؛ وهو النجم الهوليودي الشهير هارفي وينستون؛ فقد نشرت “الواشنطن بوست” تقرير في ١٦ أكتوبر 2017، حين قال هارفي بأنه ينتمي لجيل الستينيات والسبعينيات حيث كانت قوانين السلوك المقبولة في أماكن العمل مختلفة، ما سمته “الواشنطن بوست” بالدفاع المُختل.
وكشفت د.ناهد أن المُتحرِّش يستخدم أحياناً مصطلحات تخفيفية لسلوكه، مثلاً كما فعل بيل كوسبي (الممثل والموسيقي والكوميديان المعروف) حين قال (كان لدينا موعد). وأشارت إلى نقطة جوهرية؛ وهي أن المُتحرِّشين يقللون من تأثير الإساءة على ضحاياهم، أو يلقون اللوم عليهن في طريقة لبسهن أو زمن تواجدهن خارج المنزل. وقالت إن الدراسات أظهرت أن التحرشات الجنسية تحدث بصورة أكبر في أماكن العمل التي كانت مخصصة فقط للرجال في السابق، مما يدلل على أن التحرُّش يحدث في بيئة ذكورية تقبل وتُبارك العنف الموجه نحو النساء.

آمنة

(آمنة) منظمة شبابية تطوعية تهدف لتمكين حقوق المرأة ومكافحة العنف والتحرُّش ضد المرأة وإحداث تغيير جذري في محورية تعامل المجتمع مع هذه المواضيع، والعمل لتوفير الدعم المعنوي وإرساء قواعد حوار مجتمعي سليم، والسعي لفتح مغاليق الذهن وتوسيع نطاق الفكر.
تقول الناشطة الشبابية وعضو المنظمة منيرة ياسين: “آمنة اسم سوداني أصيل يرمز لكل نساء السودان، آمنة هي الأمن والحرية، تخطي الحواجز وكسر المألوف، ولكي تحظي كل امرأة سودانية بحقوقها الكاملة، ودحر العنف بكل صورة سواء كان جسدياً أو لفظياً، ومجابهة آثاره بطرق فعالة وهي من أهم أهداف آمنة”.
وفتحت (آمنة) باب التقديم للإناث والذكور وتكوين فريق للعمل معاً لمكافحة العنف. وتمكنت (آمنة) من توفير اختصاصيين للمساعدة من كافة النواحي (قانونية، طبية، نفسية، اجتماعية)، ووفرت فرص عمل للضحايا، إذ إن العمل من أنجح الوسائل لتمكين قوة المرأة ومجابهة آثار العنف.
منيرة قامت مؤخراً باستخدام موقع صراحة، كمساحة للتعبير وسرد التجارب مع العنف بصورة تُخفي هوية الضحايا، وقد شاركت نسب كبيرة في إيصال تجاربها المؤلمة.

سلبية أمهات

إحدى الضحايا كشفت عن تجربتها الأليمة مع التحرُّش، وقالت: “لم أعرف أني تعرضت لعنف، إلا بعد أن كبرت. وما أذكره، أنه كان يقيم معنا بمنزلنا أحد أقاربي، وكانت أمي تخرج من المنزل وتتركني معه، وأنا حينها طفلة في السنة الثالثة أساس، وكان يتحرَّش بي. أيضاً عندما كنا نذهب لمنزل جدي كان يفعل معي نفس الأشياء في الصالون.. أكثر شيء كسرني وما زال عالقاً بذهني، هو ردة فعل أمي عندما اكتشفت الأمر؛ ففي إحدى المرات عادت من السوق ووجدت قريبنا يتحرَّش بي، فوقفت في باب الصالة و(حمَّرت لي) ولم تفعل له أي شيء، وعاقبتني، وأدخلتني الحمام، وقالت لي اغسلي يديك، ولم أعرف لماذا؟ وباتت تُعاملني بقسوة وجفوة، وعندما سألتها: لما تفعلين ذلك؟ قالت لي: (للموقف الزبالة اللقيتك فيهو)، على الرغم من أنني كنتُ طفلة.
وتحكي فتاة أخرى: “عندما كان عمري حوالي 7 سنوات، بدأ أهلي يمنعونني من الاختلاط بالأولاد في المجتمع المحيط. أحد أقربائي كان مراهقاً، وكلما يختلي بي؛ كان يتحرَّش بي، وحينما تشاهده أمي وهو يحملني على صدره، يتظاهر بأنه يلعب معي، وكانت أُمي تناديني وتضربني بشدة في أغلب المرَّات، ولا تُعطيني فرصة لأحكي لها ما حدث، وأنه يحملني بالقوة، وأني كُنتُ أُقاومه وأضربه، وأنه يفعل بي أشياء تُضايقني، ولم أكن أعرف معناها، أو لماذا يعمل هو ذلك؟.. إلى الآن أُحس بالقهر، ولا أدري ماذا أعمل؟ فهذه التجربة السيئة ما زالت تؤثر على حياتي، وأُعاني منها”.

وفي نفس سياق القصتين أعلاه، تحكي فتاة ثالثة عن تجربتها وتقول: “في إحدى السنوات، جاءت خالتي من البلد بصحبة ابنها، وتركته في منزلنا ليقيم معنا لأنه ممتحن شهادة سودانية. وبدأ يتحرَّش بي، ويلمسني بطريقة غريبة، وكنت واعية للموضوع، ودائماً أحاول أن أتفاداه، وهو يحملني بالقوة، ويعمل فيها أنه يمازحني. والدتي شاهدته يتحرَّش بي في إحدى المرات، فتركني عندما شاهد والدتي، وقامت بضربي بشدة في ذلك اليوم بأي شيء يصادفها بـ(يدها، حزام، مفراكة)، ومنعتني من الخروج من المنزل، وقرَّرت أن تُعاقبني كذلك بأن أقوم بكل أعمال المنزل، لأني قليلة أدب وسأجلب لها وللأسرة العار والسمعة الفارغة. وابن خالتي لم يسأله أحد، وكلما مررتُ بجوارها قالت لي: (يا قليلة الأدب، خسارة تربيتي فيك يا سفيهة). ووقتها كان عمري 10 سنوات”.

تقول إحدى الفتيات: “عندما دخلت السنة الثالثة ثانوي، ذهبت للعيش مع جدتي في منزلها، وكان ناس خالي يقيمون في ذات (الحوش)، وكان لدي غرفة وحدي. عندما كنت أنام في الظهيرة؛ كنت أصحو على شيء يلمسني، ولكن لا أجد شيئاً، بعدها اكتشفت أنه ابن خالي؛ ودفعتي في ذات الوقت. وفي مرَّة كن نذاكر معاً، وفجأة قام بخلع بنطاله، وأنا عملت أني غير مركزة، وقلت له إني زهجت، وكفاية مذاكرة”.

فتاة جامعية، تعرَّضت في السابق لمواقف تحرُّش كثيرة، تقول: “أذكرها جميعاً جيداً، لكن الحمد لله لم تترك هذه المواقف ترسُّبات، بل زادتني قوة وجرأة أكثر، عندما لاحظت أنه لن أجد من يدافع عني غير نفسي، أصبحت أواجه المُتحرِّش فوراً، ولا أُحس بالخجل أو لا ذنب نهائي. أول مرَّة حدث لي تحرُّش كان عمري 6 سنوات، من أحد أصدقاء أبي، وكان يأتي لنا بالمنزل كثيراً، ويتظاهر باللعب معي، ويعمل لي حركات لا أدري ما هو الغرض منه، لكن كنت أعرف أنه يجب أن لا يلمسني أحدٌ في الأماكن الحساسة. صديق أبي كرَّر معي هذه الأفعال كثيراً، وأنا لم أُخبر أحداً، ولم يُلحظ أيُّ شخصٍ ما يحدث معي، وأنا أصبحت لا أخرج من غرفتي عندما يأتي إلى المنزل”.

وتضيف: “الموقف الثاني كان مع زوج خالتي، وهذا أسوأ إنسان أقابله في حياتي، هو أمام الناس شخصية محترمة جداً، نسميه الأستاذ، ويحظى بتقدير كبير، لأنه جيد أمام الناس. وكان ينتهز أيَّ فرصة ليختلي بي فيها، ويلمسني بطريقة بشعة، ويقول لي تعليقات عن جسمي وشكلي، على الرغم من أني كنتُ صغيرة جداً؛ وليس فيَّ أي شيء مُغْرٍ، وحاول تقبيلي كثيراً، وعندما رحلنا من منزل العائلة كان يأتي عندما تكون أمي غير موجودة، ويعمل لي ذات الحركات، ويعتقد أني لا أفهم شيئاً. فقرَّرت أن أواجه، وقلت له: لماذا تعمل معي هذه الحركات؟ فقال لي: (عادي جداً أنا زي أبوك، أو خالك)، فقلت له: هذا الموضوع ليس عادياً، وأنا عارفة معناه، وإذا لم تتركني، سأُخبر خالتي. ولم يقرب بعدها مني”.

وتواصل: “الموقف الثالث، مع ابن خالتي الكبير، وكان يتحرَّش بي يومياً، لا أستطيع أن أشرح ماذا كان يفعل معي، فقد كان يتجاوز كل الحدود. أهلي عندما لاحظوا له، لم يفعلوا شيئاً سوى أن قالوا لي (ألبسي كويس، وحاولي تتفادي القعاد معاه في مكان واحد). استطعتُ التخلص منه عبر تهديده بالسكين، ففي إحدى المرَّات كنت وحدي بالمطبخ، وقام بالتحرُّش بي، فحملتُ السكين، وبعدها ابتعد عني تماماً”.
(من زمان أنا مخنوقة، ولا أعرف لمن أحكي أزمتي. لن أحكي عن مواقف التحرُّش العادية التي تحدث لي باستمرار في الشارع أو المواصلات)، هكذا تحكي شابة عن أزمتها في الحياة، واضافت: “في الماضي أرسلني أبي لشراء شيء من الدكان، وكان وقتها عمري 5 سنوات، البائع خدعني بقطعة حلوى، وأدخلني إلى الدكان، لا أذكر ماذا حدث بالتحديد؟ وهل حدث شيء أم لا؟ فقط أذكر أني عندما رجعت للمنزل أخبرتُ والدتي. المشكلة أن والدتي دائما تُذكِّرني بالواقعة إلى وقت قريب، وتقول لي (انتي قعدتي ليهو)، وهي تعتقد أني كنتُ أُريد هذا الأمر، وأني (كعبة)”.

مباركة المجتمع

ترى د.ناهد أن الرجال في مجتمعاتنا يتربون على مساحات حرية أكبر من النساء، وهذا يخلق معضلة كبيرة. وتقول: “يصير الأمر، وتُبارك مجتمعاتنا غرائزهم، ولا تُلزمهم بأيِّ تربية لضبط دوافعهم الجنسية والعدوانية، كما لا يصدر في حقهم العقاب الاجتماعي قبل القانوني اللازم في حالات السلوك الجنسي غير المسؤول، فمجتمعاتنا مثلاً لا تُحاسب الرجل الزاني والمرأة الزانية كما يفعل الدين الإسلامي مثلا بالمساواة في العقاب. فالرجل الذي لديه علاقات جنسية متعددة هو (فحل)، والمرأة التي تُدان بالزنا في مجتمعاتنا هي (عاهرة)”.
وتحكي فتاة أخرى عن آلامها: “لا أعلم من أين أبدأ؟ لأن قصتي مع التحرُّش طويلة، حتى وصلت مرحلة أصبحت أحسُّ فيها بـ(القرف) من نفسي، وأصبح بداخلي جرحٌ، وكلما أتت سيرة التحرُّش؛ أحسُّ بالألم. هل أبدأ ببائع الدكان؟ أم بقريبي؟ أم بقريبي الثاني؟ أم بابن الجيران؟ أمأ بجيران خالتي؟ أم بالرجل في الشارع؟… إلخ، للأسف أُحس بأني سلعة تباع وتُشترى، رخيصة، ولا أدري لماذا؟ أكيد أهلي هم السبب الرئيسي في ذلك، لأنهم لم يحسسوني بالأمان، حتى أحكي لهم ماذا يحدث لي، وصرت أسأل نفسي: لماذا لم أصد هؤلاء، على الرغم من أني كنت صغيرة؟ الآن أُحسُّ بأني مصابة بـ(نفسيات)”.

تحرشات بالمسجد والخلوة

القصة التالية للأسف كانت بالمسجد! تحكي إحدى الفتيات: “عندما كنت في الأساس، وصلت الجرأة بالشيخ الذي يُدرِّسنا القرآن أن يتحرَّش بي في المسجد. فوقف لي من خلفي، وأحسست (بحاجة ما تمام)، وبدأ يحتك بي، وفوراً خرجت ورجعت إلى المنزل، ولم أذهب إلى الخلوة مرة أخرى. والموقف الثاني وأنا في الفصل السابع، أيضاً دخلتُ الخلوة وكان الأستاذ يتعمد الاحتكاك بي، فصددتُّه ولم أرجع للمسجد من يومها”.

الإعدام لإمام مسجد
أمس الأول قضت محكمة الطفل بالقضارف برئاسة القاضي عمر عوض إدريس، بالإعدام شنقاً حتى الموت على شيخ خلوة وإمام مسجد، عقب إدانته باغتصاب تلامذته بالخلوة الملحقة بالمسجد في شهر أبريل الماضي أثناء العطلة الصيفية.
وقالت المحكمة في حيثيات قرارها، إن الاتهام تقدم بقضية متكاملة تقود إلى اتجاه واحد هو إدانة المتهم دون سواه حيث قام الاتهام بتعضيد بينة الطفل المجني عليه وبيانات أخرى تتمثل في الوقائع المتشابهة بجانب التقارير الطبية من الطبيب الشرعي المرفقة للمجني عليه مما قاد المحكمة للاطمئنان التام للبينات التي تقدم بها الاتهام.

المحاربة

وأكدت د.ناهد على ضرورة محاربة التحرُّش الجنسي بقوانين رادعة، في أماكن العمل والدراسة والمحاكم. وقالت: “لحدوث أي اعتداء يتطلّب مُعتدٍ وضحية، ومكان يحدث فيه الاعتداء، وأحياناً شهود. لذلك على واضعي السياسات تبني إشراك المراقبين في الدفاع عن الضحايا وإدانتهم بالتواطؤ في حالة الصمت وعدم التبليغ أو الشهادة في حال كانوا غير قادرين على التدخل”.
كما شددت على أن تُصمَّم مكاتب العمل والتدريس بالمعايير العالمية، التي تجعل الزجاج الشفاف يتيح الجالسين في الخارج مراقبة ما يحدث في الداخل.
عددٌ من الدول العالمية والإفريقية، ضمن المنهج التعليمي، قامت بتدريس الفتيات والفتية؛ كيفية الدفاع عن أنفسهم ومحاربة التحرُّش، وعدم الخجل من البوح لما حدث لهم. (السوداني) طرحت هذه الجزئية على طاولة د.ناهد، فقالت: “يجب تعليمهم مهارات الدفاع عن أنفسهم assertive techniques يتعلمون فيها الحفاظ على المسافة الشخصية؛ وأن يُفرِّقوا منذ الطفولة بين اللمسة البريئة وغير البريئة، وكيف يواجهون المتنمرين والمعتدين، وأن يقولوا (لا)”.

صدِّقوا أطفالكم

الباحثة الاجتماعية سارة السباعي كتبت عن هذا الموضوع وخطورته على الأطفال عبر حسابها على “تويتر وفيسبوك”، ووجهت نصائحها في المرتبة الأولى للآباء والأمهات بخصوص الانتهاكات الجسدية التي يتعرَّض لها الأطفال. وترى أن الأطفال غالباً ما يخافون البوح بما يجري لأنهم ربما يُتهمون بالكذب لأن أهاليهم يثقون ثقة مطلقة في أصدقائهم وأقاربهم ربما لا يثقونها في أبنائهم.

لدى السباعي قائمة بنصائح مهمة للأهالي أهم ما ورد فيها: “صدِّقوا أطفالكم، لا تُجبروا أطفالكم على قبول العناق والاقتراب، ضرورة الذهاب لاختصاصيين في حال حدوث تحرُّش، الحذر من الأقارب والأصدقاء ليس عيباً، رجال الدين ليسوا دائماً محل ثقة، التحرش ليس مقتصراً على الرجال فقط فهناك نساء يقمن بالاعتداء الجنسي على الأطفال”.

تحقيق: عطاف محمد مختار

صحيفة السوداني.

لقراءة التحقيق السابق ضحايا التحرش.. كسر (التابو) (1-2)