الصادق الرزيقي

مسجد الأصحاب .. من أين أتيت أيها العُماني العابد


(أ)
كانت السماء غائمة ملبدة بسحب داكنة وعاصفة سوداء يجن جنونها والأفق الشرقي غارق في شحوب وضباب، كانت السفن الشراعية الخشبية القديمة في ذلك العهد قبل ألف عام ويزيد تمخر عباب بحر عمان، تهتز من الريح الغضوب تتلاطمها الأمواج العاتية، وكأن البحر ثم المحيط العريض، يشهدان مخاضاً هائلاً يولد فيه تاريخ عتيق، وصاحب ذلك الوجه العربي بملامحه اللطيفة وبريق عينيه المغامر، يتلو آيات من القرآن الكريم وصوته الجهير يعلو بالدعاء الواثق، وماء البحر يتطاير حوله داخل السفينة كلما هاج الموج وماج.

يممت السفينة وجهتها نحو الشرق، كانت الرحلات المنتظمة من مرفأ (صحار)في عمان القديمة تنطلق من قبل عام 879م في القرن الثاني للهجرة النبوية، وصلاً لطريق بحري قديم هو (طريق البخور) الموازي لطريق الحرير البري، نحو الصين وبلادها البعيدة عند ساحلها الشرقي، وكانت أسر ملكية صينية تحكم في منطقة الجنوب الشرقي للصين الحالية، كجزء من الحضارة القديمة التي نشأت في تلك البلدان ومدت تواصلها مع هذا الجزء من العالم، حيث كانت الحضارة الإسلامية في أوج رفعتها وتوهجها، وكانت قد بلغت في ذاك الأوان قمة مجدها، وسيطرت على الممرات المائية العالمية والبحار في العالم القديم، وفرضت هيمنتها وسلطانها، وهزمت الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، ودان لها البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر عمان والمحيط الهندي، لكنها لم تذهب شرقاً، فأواصر التجارة عبر البحار من قديم العهد وسحيقه مع أقصى الشرق كانت موصولة وسالكة وآمنة.

(ب)
بعد مسيرة ما يقارب الشهرين ما بين البحار والمحيط الهندي الحالي والمحيط الهادي، وسط عوالم بعيدة وشعوب قصية وبلدان وشواطئ وخلجان، دخلت سفينة التاجر العماني والرحالة المسلم (أبو عبيدة بن عبد الله بن القاسم العماني) في بحر الصيني الجنوبي الحالي، وسارت السفينة بمحاذاة الساحل في المضيق بين الصين وجزيرة تايوان، وكان الساحل الشرقي للصين يومئذٍ يموج بحركة تجارة نشطة وأساطيل بحرية لحركة التجارة والجيوش للممالك العتيقة التي كانت تحكم تلك الديار النائية عن وسط العالم، ولم يكن خط الملاحة الذي سارت عليه السفن ومنها سفينة التاجر والرحالة أبو عبيدة العماني يعرف في التاريخ السحيق ذاك إلا باسم (خط الملاحة العربي) منذ عهد أسرة الملك (هان) في بدايات الألفية الأولى حتى عهد سون شين زون الذي في عهده رست السفينة المحملة باللبان والبخور والعطور العربية والتوابل والحديد والخيرات القادمة من بلاد العرب.. رست السفينة في مقصدها وهو ميناء مدينة (تشيوانتشو).. كان الميناء يضج بالتجار الصينيين في انتظار البضائع والسلع، وكان الأمراء وأسرة الإمبراطور يقفون في مقدمة مستقبلي السفن ومنها السفينة العربية العملاقة والتاجر العربي الذي سبقت سيرته وشهرته وتجارته إلى البلاط الإمبراطوري، واستقبل كتاجر ومبعوث من حاكم عمان الذي يتبع للخلافة الإسلامية.. مشى أبو عبيدة بن عبد الله على البساط الإمبراطوري، وحوله أتباعه يحملون الهدايا للإمبراطور، بينما بدأت السفينة الضخمة تفرغ حمولتها وسط فرح أهل المدينة والطبقة الغنية من أهلها الذين كانوا يستخدمون البخور واللبان كميزة للثراء في ذلك الزمان.

(ت)
على أشرف مكان في المدينة، بعد أن طاف (أبو عبيدة بن عبد الله) أرجاء المدينة المختلفة وهو في ضيافة الأسرة الإمبراطورية، وقع بصره عليه ورنا ببصره طويلاً مع الشمس في زوالها نحو الغرب، قرر شراء قطعة أرض تتوسط المدينة، تحلق حوله ملاك الأرض وأتباع السلطة الإمبراطورية ورهط من البحارة العرب والتجار الذين قدموا ومعه ومن كان قد وصل قبله، ودفع من النقود الذهبية التي أخرجها من جراب جلدي مزين بخيوط مزركشة، وقال: (هنا نشيد مسجدنا ليكون أول مسجد في بلاد الصين البعيدة).. وكانت تلك لحظة كثيفة الضياء والنور العرفاني البهي حين ولد مسجد (الأصحاب العابدين) في منطقة (تشينغجينغ) بمدينة (تشيوانتشو)، وهو أول وأقدم مسجد في شرق العالم، وأول مئذنة تقابل الشمس في بزوغها كل يوم من جهة الشرق.

بدأت أعمال البناء للمسجد في عام 1009م، ومن الحجر البركاني والجرانيت، بدأ المسلمون العرب والمسلمون الصينيون من الذين اعتنقوا الإسلام، وعرفوا أخلاق المسلمين وثقافتهم وقيمهم الحضارية عبر التواصل عبر طريق الحرير البري والبحري، وهما ينطلقان من مدينتهم التي سماها العرب (مدينة الزيتون)، بدأوا في بناء المسجد على الطراز المعماري الأموي الدمشقي السائد في ذلك الوقت، وأكمل بناء المسجد في عهد الإمبراطور جنزونغ أسرة سونغ الشمالية، وبرزت بوابته الضخمة التي تشبه بوابات دمشق التاريخية القديمة، وعلى مساحة (2250) متراً مربعاً يقع المسجد وفناؤه العريض، وممراته ومداخله، وتميزت أعمدة البناء بضخامتها وصلابتها فهي من أفضل الهياكل الصخرية الصينية، وطليت جدرانه بمواد ظل بعضها باقياً حتى اليوم، درجات المنبر من الحجارة والجرانيت، بينما البهو الخارجي واماكن الوضوء الحجرية مازالت باقية، وهناك نصب رسومات وأدعية آيات قرآنية يحتضنها المتحف الحالي للمسجد والملحق به تعبر عن عظمة أولئك الرجال من المسلمين، حيث نقشوا آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية وتاريخ المسلمين الأوائل الذين وصلوا الصين ونشروا الإسلام، وتعتبر الحجارة والنقوش كنزاً تاريخياً إسلامياً عريقاً وعتيقاً وشامخاً وباقياً على مر الأيام.

(ث)
عندما تم تشييد هذا المسجد وهو الأول في الصين، بنيت حوله مساكن ومضيفات لاستقبال التجار والدعاة المسلمين القادمين من بلاد العالم الإسلامي، ثم تحلق سوق المدينة حوله وانتقل من مكانه القديم، لأن حركة التجارة والأسواق كانت عامرة بالعرب والمسلمين، وكانت الإمبراطورية الصينية الحاكمة آنذاك على صلة وثيقة ببلدانهم، ولم تمض سنوات قليلة حتى صار المسجد محور الحياة، ثم ازدهرت الدعوة الإسلامية وزاد عدد المسلمين من الصينيين، كما تزايد عدد الوافدين من العرب المسلمين، وقد زاره في وقت لاحق بعد بنائه ــ أي المسجد ــ الرحالة العربي المسلم الشهير( ابن بطوطة) في أطول رحلة له في التاريخ من مدينته( طنجة) بالمغرب ليصل الى شاطئ الصين الشرقي، وعاش عامين كاملين في مدينة (تشيوانتشيو) وهو من نقل أن اسمها العربي هو (مدينة الزيتون)، وذكر عنها في كتابه (تحفة النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار):

(لما قطعنا البحر، كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون، وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهنود، ولكنه اسم أُطلق عليها. وهي مدينة عظيمة كبيرة تُصنع بها ثياب الكمخا والأطلس، وتعرف بالنسبة إليها. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا أو هو أعظمها وهي مركز صناعة السفن).

(ج)
بعد ألف عام وسبع سنوات، وقفت قبل أيام في خواتيم يونيو 2918م، عند هذا المسجد الزاهر الذي من أسمائه أيضاً
(المسجد الأزهر) وهو مسجد الأصحاب، وفيه وجدت الرسوم والنقوش والحفريات القديمة وشواهد القبور لعظماء المسلمين وتاريخ المسجد العتيق، وملامح من الفسيفساء العربية والأنماط الإسلامية في البناء والنقش، وحول المنبر الكثير من المنمنمات العربية والأبسطة ولوحات القماش وصور الكعبة الشريفة المطبوعة على لوحات وسجاد مطرز، كذلك يتحدث إليك المسؤولون عن المسجد عن رسوخ التقاليد والثقافة الإسلامية في هذا المكان الطاهر الذي يعج بالسياح والزوار، وهو الآن من الآثار التاريخية البارزة في جمهورية الصين، وضمه مجلس الدولة في عهد الزعيم ماو تسي تونغ ضمن القائمة الأولى للآثار الثقافية المحمية.

وبنى السلطان قابوس بن سعيد سلطان سلطنة عمان في عام 2009م بعد زيارة سابقة قام بها للصين وللمدينة، بجوار المسجد القديم، قاعة ضخمة ومسجداً لصلاة الجمعة أكبر حجماً وأوسع فناءً وصحناً، وصار البناء الجديد معلماً مكملاً للمسجد العتيق، تخليداً لذكرى الرحالة والتاجر العماني أبو عبيدة بن عبد الله بن قاسم أول من أسس مسجداً في الصين، وفتح طريق التجارة والتبادلات بين المنطقة العربية والصين، وجسد بقيمه وأخلاقه قيم الحضارة الإسلامية، ومعروف في التاريخ أن الإمبراطور الصيني (سون شين زون) أطلق عليه (جنرال الأخلاق الحميدة والطيبة)، ومنذ ذلك التاريخ لا يوجد في هذه المدينة إلا الذبح الحلال، فإذا طلبت طعاماً حلالاً يقولون لك: (من فجر التاريخ وتقديراً للعرب والمسلمين ولكثافة وجودهم، لا تتم عمليات الذبح إلا بالطريقة الإسلامية.. فكُل هنيئاً مرئياً).

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة