الصادق الرزيقي

بين رمال الصحراء


يتضح من العملية الأمنية الكبيرة والناجحة غير المسبوقة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني بتحرير المختطفين الخمسة (ضابط وأربعة ضباط صف) من الجيش المصري، تم اختطافهم قبل (18 يوماً) عند مثلث الحدود السودانية المصرية الليبية المشتركة من قبل إحدى المجموعات المتفلتة الناشطة في الجنوب الليبي، يتضح من هذه العملية الأمنية أن أدوار السودان الإقليمية تتجاوز الدور السياسي التوفيقي إلى أدوار أكثر عمقاً، تعزز من حقيقة أن السودان عنصر فعال في كيمياء المنطقة، وقوة لا يُستهان بها في تحقيق الأمن والاستقرار وصناعة السلام بالإقليم، كما تؤكد المعرفة الدقيقة بدول الجوار وما يجري فيها، وتتوافر لأجهزتنا معلومات ومعطيات لا تتوفر لغيرها تمتلك بها التأثير وسرعة التواصل والتحرك لإنجاز مهمات تبدو شبه مستحيلة.

> قبل ما يقارب ثلاثة أسابيع كانت قوة تتبع لقوات حرس الحدود المصرية، توجد في منطقة المثلث الحدودي السوداني الليبي المصري، حيث تمتد الحدود في أراضي السودان عند جبل العوينات تقابلها من الشمال الشرقي حدود مصر ومن الشمال الغربي حدود ليبيا، وهناك في هذه المنطقة الصحراوية القاحلة، استطاعت جماعة من المسلحين المتفلتين الليبيين الموجودين على طول الجنوب والجنوب الشرقي الليبي في عمق الصحراء الكبرى، أن تختطف هذه القوة العسكرية المصرية التي كانت تقوم بعمليات استطلاع في مثلث الحدود، وتعرف هذه المنطقة بوعورة السيوف والكثبان الرملية العالية والجبال الصخرية والوديان التي تمتد غرباً إلى جنوب ليبيا الذي يعيش حالة اللادولة، كما توجد ممرات في هذه المناطق للعصابات التي تعمل في تهريب البشر الاتجار بهم، ونسبة لطول الحدود واتساع نطاق الصحراء الكبرى، تجد أربع دول (السودان، مصر، ليبيا وتشاد) صعوبة في مراقبة هذه الحدود المشتركة الطويلة والأراضي الشاسعة غير المأهولة بالسكان ولا توجد فيها حياة إلا الطرق للعابرين، والسودان يعد تقريباً هو الدولة الوحيدة التي توجد لديها قوات تنتشر على طول الحدود مع ليبيا، حيث ينتشر الجيش السوداني بكثافة هناك بعد قرار إغلاق الحدود مع ليبيا قبل سنوات.

> بعد أن اختطفت المجموعة المتفلتة القادمة من جنوب ليبيا القوة العسكرية المصرية، سلكت المسالك الصحراوية الأشد قساوة ووعورة ووصلت إلى منطقة جبلية (جبال كالنجا) في عمق صحراء الجنوب الليبي، وهي جبال يصعب لطبوغرافيتها الصلدة اختراقها والوصول إلى من يحتمي بها، واستطاعت هذه المجموعة المتفلتة الوصول بالمختطفين إلى هناك وجرت اتصالات بينهم وبين الطرف المصري، وتمت المطالبة بفدية نظير إطلاق سراحهم، وحاولت السلطات المصرية عبر أطراف ليبية في شرق وجنوب ليبيا تأمين عملية الإفراج عن المختطفين من قواتها المسلحة ولم تسفر عن نتيجة.
> وطلبت الحكومة المصرية عبر المخابرات العامة والمخابرات الحربية، من جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني المساعدة في البحث عن المختطفين وتحريرهم، وجاء الطلب لثقة الجانب المصري في كفاءة وخبرة وإلمام ومعرفة المخابرات السودانية بكل ما يدور في الحدود المشتركة للدول الأربع ودول جوار ليبيا، وتوفرها على معلومات استخبارية ومتابعات دقيقة للأوضاع الأمنية في الداخل الليبي، وهي خبرة تراكمية من زمن بعيد قبل حدوث ما هو جارٍ الآن في ليبيا، فمنذ عهد القذافي كانت للسودان قنصلية في مدينة الكفرة تتابع ما يجري في الحدود المشتركة ونشاط حركات التمرد السودانية، وغيرها من الأنشطة الإجرامية لعصابات التهريب والاتجار بالبشر.

> وتمكنت المخابرات السودانية بمصادرها ومعلوماتها الوافية الدقيقة، من تحديد الأماكن التي يعتقد وجود المختطفين فيها والجهة التي قامت بالاختطاف، وتم الإعداد لعملية أمنية معقدة اقتضت وجود فرق للتتبع وجمع المعلومات وعناصر قوات الأمن الخاصة على الحدود داخل الأراضي السودانية، مع تنسيق فني وتقني متقدم ومتابعة من قيادة الجهاز بالخرطوم، وبعد التأكد بواسطة الاتصالات والتقصي تم تنفيذ العملية الأمنية وكانت خاتمتها في منطقة بعيدة جداً من الحدود المصرية، بالقرب من مثلث الحدود السودانية الليبية التشادية، عندما تمت مداهمة الخاطفين بعد عملية عالية الكفاءة، وتم تحرير كل المختطفين الخمسة دون أن يصابوا بأذى، حيث تم نقلهم من هناك يوم الجمعة الماضية ومنها نقلوا إلى دنقلا، ثم حملتهم الطائرة إلى الخرطوم، واخضعوا لفحوصات طبية بمستشفى الأمل للاطمئنان إلى صحتهم، ثم سلموا للجانب المصري وغادروا للقاهرة.

وتؤكد هذه العملية كفاءة جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي يعد واحداً من أقوى أجهزة المخابرات في المنطقة، وقد شهد له الأعداء قبل الأصدقاء، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للقارات، وأدواره التي يقوم بها من أجل الاستقرار وتحقيق السلام، وهو أمر يجب أن نفتخر ونعتز به.

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة