تحقيقات وتقارير

بين الإبقاء على الجمعية وتطبيق نظام المؤسسات الشحن والتفريغ بالموانئ.. مهنة في مهب الريح


رئيس الجمعية: لا يمكن السماح بعودة نظام المقاولين مرة أخرى
عمال شحن: المهنة لم تعد جاذبة والمستقبل ينذر بخطر حقيقي

عضو المجلس التشريعي: لم نستفد من الجمعية والشركات هي الحل

حينما وطأت قدماي مدينة بورتسودان، بحثت عن صديقي محمود سيدي البيجاوي القح الذي كان زميلي في إحدى كلات الشحن بالميناء الجنوبي، بداية هذه الألفية، في سوق ديم سواكن وجدته وكعادته يحتسي القهوة ويحمل في يده صحيفة، بعد أن ألقيت عليه التحية، وتجاذبنا أطراف الحديث في عدد من الموضوعات، قال لي ضاحكاً “تتذكر لما كنا بنزوغ من شغل العتالة لما يكون كتير” قلت له نعم، فواصل حديثه متحسرًا هذه المرة “حالياً بقينا نزوغ من عدم الشغل ونجي نقعد في القهاوي”، أدركت حجم الوجع الذي سكن دواخله مثل غيره من عشرات الآلاف من عمال الشحن والتفريغ الذين عصفت بهم الأوضاع الاقتصادية والتحديث، فتحولوا إلى رصيف البطالة، وفي ذات الوقت يبدو مصير جمعيتهم في مهب الريح مثل مهنتهم التي توارثوها، وباتت جزءاً من إرث ولاية كاملة.

واقع مزرٍ ومستقبل قاتم

طالبني صديقي محمود، أن أسجل جولة على الميناء الجنوبي والشمالي والمخازن حتى أقف على حقيقة تراجع العمل في مهنة العتالة ورأى أن أذهب بعد ذلك صوب القهاوي بديم عرب وسواكن وولع وغيرها من أسواق، حتى أقف على الواقع.

بالفعل عملت بنصيحته، ومن خلال تجوالي ولقاءاتي مع عدد من المشتغلين في مهنة العتالة في كلات الموانئ، أيقنت أن الواقع يبدو بائساً والمستقبل قاتماً، فالعمل تراجعت معدلاته إلى أدنى درجاته، ووصل إلى مستوى غير مسبوق.

حدثني عثمان المسؤول عن إحدى الكلات بقسم اللواري، عن أن فرصة كلته في العمل تأتي أحياناً بعد ثلاثة أشهر يظل طوال هذه الفترة عاطلاً عن العمل هو ومن معه، وذات الأمر أكده أدروب الذي يعمل بقسم الطن، ليس ذلك فحسب، فحتى الذين وجدتهم يعملون بقسم المخازن في همة ونشاط، كشفوا عن أن أزمة السيولة ألقت عليهم بظلالها السالبة.

وقطع أحمد الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، بأنهم ومنذ أكثر من شهرين لم يستلموا حتى الآن أجورهم. ورغم تبرم واستياء كل من تحدث حول الأزمة المالية وانعكاساتها عليهم، إلا أنهم أكدوا صعوبة توقفهم عن العمل. ويقول ضرار: “نعمل شنو غير نشتغل أفضل تكون عندنا قروش عند زول بدل من نكون مطلوبين”.

أزمة الأزمات

رغم المعاناة التي يتبكدها الآلاف من عمال الشحن والتفريغ وانخفاض مداخيلهم وتحول الكثير منهم إلى رصيف البطالة ودخولهم قائمة الفقراء على مسمع ومرأى من الحكومة، التي ظلت ومنذ بداية تحديث العمل في الميناء قبل عشرة أعوام وتضرر عمال الشحن بذلك، تكتفي بالصمت وعدم الاكتراث بهذه القنبلة الاجتماعية الموقوتة، إلا أن مشكلة جمعية الشحن والتفريغ خارج البواخر تظل هي الأكثر بروزاً وتحوز على اهتمام قطاع واسع من المواطنين بولاية البحر الأحمر، الذين ما زالوا في انتظار قرار حكومة الولاية المتعلق بحلها والاستعاضة عنها بنظام المؤسسات أو الإبقاء عليها لتواصل بذات نهجها الذي بدأته في العام 1964.

مد وجزر

وكان النصف الأول من هذا العام، قد شهد شداً وجذبًا كبيرين، حينما أصدر الوالي السابق علي أحمد حامد قراراً قضى بسحب صلاحيات الجمعية وتحويلها إلى المؤسسات التي تقرر أن تدير كل ما يتعلق بعمليات الشحن والتفريغ، غير أن مواجهات حادة وضعت الولاية على سطح صفيح ساخن، صحبت هذا القرار الذي وضع الولاية علي شفا الانفجار، وبعد أن كان العمل بالمؤسسات قاب قوسين أو أدنى من أن يتنزل على أرض الواقع، إلا أن رياح التغييرات التي قضت بذهاب عدد من الولاة أبعدت علي حامد من البحر الأحمر، ليتجمد قراره وفكرته ليستمر العمل بنظامه القديم، حيث تتولى الجمعية شؤون عمليات الشحن والتفريغ.

ورغم هدوء الأحوال إلا أن المؤيدين لفكرة المؤسسات شنوا هجوماً حادًا على والي الولاية الحالي الهادي محمد علي، واتهموه بالهروب من حسم هذا الملف الذي ما زال عالقاً لجهة أن قرار الوالي السابق، لم يتم إلغاؤه أو تنفيذه.

اتهامات متواصلة

المطالبون بتطبيق نظام المؤسسات يستندون على عدد من الأسباب التي يعضدون بها إيمانهم القاطع بضرورة التغيير وأهمية سحب صلاحيات الجمعية، فهؤلاء يؤكدون أن أصول وأموال الجمعية لم تخضع للمراجعة الحقيقية منذ أربعين عاماً، ويتهمون مجلس الإدارة بالتصرف في بعض الأصول دون الرجوع إلى الجمعية العمومية، وفي أكثر من مذكرة وضعوها على منضدة مسؤولين حكوميين من بينهم الوالي السابق، فقد طالب عمال معارضون لقيادة الجمعية الحالية بمراجعة حسابات أصول جمعية عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر، ووصفوا الطريقة التي تمت فيها مراجعة الحسابات في الجمعية العمومية بالمشوهة، موضحين أن المستشفى التابع للجمعية تم تغيير اسمه إلى مستشفى سارة الذي قالوا إنه لا يقدم خدمات صحية للعمال.

ويشتكى العمال في مذكراتهم المختلفة من عدم حصولهم على الخدمات الاجتماعية، بالرغم من أن استثمارات الجمعية تم تأسيسها باستقطاعات من مرتباتهم، وكان أصحاب هذه المذكرات من المطالبين بتطبيق نظام المؤسسات الذي كفل لهم الكثير من الحقوق، ومجدداً ناشدوا والي الولاية الحالي بضرورة حسم قرار الوالي السابق بتطبيقه أو إلغائه وعدم ترك الأمر معلقاً.

دفوعات وتوضيحات

في مكتبه بجمعية الشحن والتفريغ خارج البواخر بالبر الشرقي، وعلى بعد أقل من 200 متر من ساحل البحر الأحمر يضع رئيس الجمعية منذ تأسيسها في ستينيات القرن الماضي قائمة تحوي أسماء الشهداء الخمسة الذين سقطوا في ثورة العمال المطلبية في الثامن مارس من العام 1965 وبجانبها قائمة أخرى تحوي أسماء اثني عشر عاملاً أصيبوا بجراح في تلك الأحداث الشهيرة والتاريخية التي اندلعت بسبب رفض العمال نظام المقاولين والذي كان مدخلي للحديث مع رئيس جمعية عمال الشحن والتفريغ حامد محمد علي الذي استعرض جزءاً من تاريخ الجمعية ومجاهدات عمال الشحن خلال الحقب التاريخية. ويقول في حديث لـ(الصيحة)، إن تلك الثورة اندلعت بسبب رفض العمال نظام المقاولين والذي يعتقد أنه وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان لاحت عودته في الأفق، حينما أصدر الوالي السابق قراراً بتطبيق نظام المؤسسات، لافتاً إلى أنهم وطوال هذه العقود ظلوا يتبعون نهجاً إدارياً واضحاً ومؤسسياً جعل أكثر من عشرين ألف عامل على قناعة تامة بأهمية الجمعية.

عقبات ومشاكل

يعترف حامد محمد آدم، بأن مهنة الشحن والتفريغ واجهت الكثير من التحديات التي أثرت عليها سلباً أبرزها عمليات التحديث بالميناء، التي قضت بدخول الآليات لتتراجع الحاجة إلى الأيدي العاملة، وقال إن هذا الأمر جعلهم وفي ظل تراجع العمل إلى مستويات غير مألوفة يسعون إلى توفير كل ما يسهم في إعانة العاملين، وأبرز هذه الأفكار صندوق المساهمة الاجتماعي الذي يضم في عضويته الشركات وأصحاب العمل والموانئ والجمعية، ورغم أن رئاسة الجمهورية دفعت بهذه الفكرة، وأعلنت عن تبرعها بمبلغ كبير، إلا أنه لم يتم تطبيقه، وقال حامد إنهم أقاموا عدداً كبيراً من الورش لتصنيف العاملين بتوفير مهن للشباب في الموانئ والاستمرار في الشحن والتفريغ وتوفير معاش دائم لكبار السن ــ ولكن والحديث لحامد ــ فإن هذا الأمر أيضاً لم ير النور، ويلفت إلى أنهم لم يرفضون قرار الوالي السابق، ولكن طالبوا بتثبيت حقيقة أن عمل الشحن والتفريغ يتم وفقًا لقانون الأجور، وأنه إذا حدث احتكار من شأنه إلغاء هذا القانون، وقال إن أصحاب العمل والمخلصين يريدون العودة إلى للعمل بنظام العرض والطلب، وهو أمر مرفوض من جانب العمال والجمعية، هنالك لجنة للأجور بقيادة والي الولاية، تتكون من نقابة العاملين وأصحاب العمل وأعضاء محايدين، مهمتهم تحديد الأجور توافقياً، حيث تنعقد هذه اللجنة كل عامين لكنها لم تباشر عملها منذ فترة، ونحن نعمل بالأجور القديمة.

على رصيف البطالة

يعتقد كثيرون، أن مهنة الشحن والتفريغ وبعيدًا عن قرار والي الولاية السابق، لم تعد جاذبة، مثلما كانت في الماضي، وفي هذا الاتجاه يذهب عضو الجمعية سيدي أونور محمد، الذي يلفت إلى أن معدلات العمل في الأقسام المختلفة “اليوميات، اللواري، المخازن وغيرها” تراجع عما كان عليه. ويكشف في حديث لـ(الصيحة) عن أن مجموعة عمال الشحن الواحدة “الكلة” تنتظر دورها في العمل لفترة طويلة أحياناً تمتد لأشهر، ويعتبر أزمة السيولة النقدية من المشاكل المزعجة للعمال، لعدم إمكانية حصولهم على أجورهم في توقيتها.

ويري أونور أن الإبقاء على الجمعية يعد مطلباً ملحاً من العاملين لجهة أن النظام الذي تعمل به مهضوم ومفهوم وفوق ذلك يقفل الباب أمام عودة المقاولين الذين يهضمون حقوق العمال.

تغيير مطلوب

وبذات القدر، يوجد من يطالب بتطبيق نظام المؤسسات الذي اقترحه والي الولاية السابق علي أحمد حامد، من هؤلاء عضو الجمعية وتشريعي الولاية محمد محمد نور الشهير بمحمدوية، الذي يلفت في حديث لـ(الصيحة) إلي أنه ليس من المنطق أن تظل الجمعية تعمل وفقاً لنظام واحد منذ ستينيات القرن الماضي. ويرى أن هذا الأمر لا يستقيم عقلاً ولا منطقاً، ويؤكد على أن الأوان قد أزف لتغيير النظام السائد في الجمعية والاستعاضة عنه بنظام الشركات التي يؤكد أنها المخرج الوحيد من أزمات مهنة الشحن والتفريغ، قاطعًا بأن عمال الشحن ظلوا يواجهون معاناة حقيقية، ولا يجد من يعجز عنهم من العمل حقوقاً وتأمينًا، ويضيف: للأسف حتى الشباب يمضون على ذات طريق الآباء ويحدق بهم الخطر، لأن الجمعية تدار بذات النهج، لأن المبالغ التي يتم استقطاعها من الشركات لا تذهب إلى مصلحة العامل الذي لا يحظى بالتأمين والعلاج والمعاش.

تطبيق وضرورة

ويرى محمدوية، أن الشركات تعتبر الحل الأمثل الذي يجب أن يتم تطبيقه، لأنه يكفل للعمال الحصول على حقوقهم كاملة أثناء وبعد الخدمة، على عكس الواقع الحالي.

ويبدي محمدوية حيرته من ادعاء الجمعية امتلاكها خمسة وأربعين مليون جنيه، ورغم ذلك تعجز عن توفير الحد الأدنى من الحقوق لمنسوبيها، ويؤكد أن علي حامد هو الوالي الوحيد الذي فهم جيداً مشاكل عمال الشحن، وعمل بكل جدية لإيجاد حل لها لرفع الظلم عنهم، ويقول إن الجمعية ظلت تهيمن عليها شخصيات محددة لأكثر من خمسين عامًا. ويرى أن الشركات تسهم في حفظ حقوق العمال، بالإضافة إلى ظهور قيادات شابة يمكنها أن تسهم بفكرها المتجدد والمواكب في تطوير المهنة، نافياً أن تتسبب الشركات في تشريد العاملين.

الشركات والتطور

وأضاف محمدوية: الذين يزعمون أن الشركات ستفتح الباب لعودة المقاولين يمارسون خداعاً واضحاً ويريدون الحفاظ على مكاسبهم ومناصبهم، الجمعية ليست كتاباً مقدساً حتى نتمسك بها، والعالم كله يمضي في تطور نحو الأفضل، إلا نحن الذين نرفض ذلك، ونريد أن نظل أسرى للبؤس والفقر والتخلف، هل يعقل أن يظل شخص واحد يدير الجمعية لأكثر من ستين عامًا، وإلى متى يظل هذا الواضع قائماً، لا أعتقد أن الجمعية حققت فوائد لعمال الشحن بل تعتبر السبب المباشر في افقارهم ومرضهم.

وقال محمدوية، إنهم لن يتوقفوا من المطالبة بتطبيق نظام الشركات، لأنها المخرج الوحيد الذي يسهم في تأمين حياة كريمة لعمال الشحن والتفريغ، مطالبًا والي الولاية بضرورة امتلاك الجرأة وحسم ملف جمعية الشحن والتفريغ بإلغاء قرار الوالي السابق أو الإبقاء عليه.

عمق الأزمة

ويعود رئيس جمعية الشحن والتفريغ، حامد محمد آدم ويشير إلى أن الأزمة باتت عميقة، وأن هذه المهنة باتت تواجه أخطاراً حقيقية بداعي المتغيرات الاقتصادية، ضاربًا المثل بعدم حصول الكلات على فرصة العمل إلا بعد مضي أشهر، ويرى أن هذا دليلاً واضحاً على انخفاض العمل إلى مستويات متدنية، بالإضافة إلى ذلك، فإن حامد ينوه إلى أن أزمة السيولة انعكست عليهم سلباً لعدم إيفاء الجهات التي تجمعهم بها تعاقدات من توفير الأموال النقدية نظير العمل الذي يؤدونه، وقال إن العمال لم يصرفوا استحقاقاتهم منذ أكثر من شهرين، موضحاً أن أوضاع العمال باتت معقدة، وأن هذا الواقع يحتم جلوس كافة الأطراف للنظر حول مهنة الشحن والتفريغ لوضع حلول لها، ولا يرى حامد في إنشاء شركات ومؤسسات حلاً نهائياً.

واقع ومتغيرات

رغم انحصار الخلاف في الوقت الراهن على بقاء الجمعية أو ذهابها، إلا أن جولتنا في بورتسودان أوضحت لنا أن الأمر أكبر من هذه القضية بكثير، نعم لكل طرف دفوعاته ومنطلقاته، وربما ترى التيارات المختلفة أن استمرار الجمعية أو تنفيذ قرارات الشركات يعد حلاً للمشكلة، ولكن في تقديرنا أن مهنة الشحن والتفريغ تبدو في طريقها للاندثار وإذا لم تتحسب الدولة لهذه القنبلة الموقوتة، فإن الآثار مستقبلاً ستكون كارثية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بالبحر الأحمر.

بورتسودان: صديق رمضان
صحيفة الصيحة.