مفاوضات أديس أبابا وفشل آلية “أمبيكي” المعلن
منذ اتفاق: 28 /يونيو/ 2011م، المعروف اصطلاحاً باتفاق “نافع / عقار” بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، الذي كان بمثابة إعلان مبادئ للحل السياسي والترتيبات الأمنية والعسكرية، ولكن الاتفاق تم إلغاؤه بضغوط القوى الداخلية المستفيدة سياسياً ووظيفياً وامتيازات من استمرار الصراع وديمومية الحرب لم تحقق أربع عشرة جولة تفاوض معلنة وعشرات اللقاءات التي جرت بين الطرفين في دهاليز الصمت وبين الجدران الصماء أية تقدم على صعيد تقارب المواقف المتباينة إزاء القضايا المطروحة.. وأسباب تباعد المسافات بين الحكومة وفرقائها من متمردي الجيش الشعبي تعود لأسباب متصلة بطبيعة الدور الذي يلعبه الوسطاء في التوفيق بين الطرفين ولأسباب نفسية وقطيعة وجدانية.. وغياب إرادة الحل.. خاصة بعد أن أصبحت قضية السلام (مقصلة) القيادات الحكومية التي تجرؤ على اتخاذ قرارات بشأنها.. وقبل أن يجلس أي من قيادات الحكومة في مقعد كبير المفاوضين يتأمل في التاريخ القريب والبعيد، وكيف لفظت الحكومة كبير المفاوضين د.”علي الحاج محمد” إلى برلين البعيدة وتركته لاجئاً سياسياً هناك يتسقط أخبار بلاده من أبواق الإعلام.. ود.”غازي صلاح الدين” الأكثر تشدداً وأصولية في مواقفه، وبعد أن حقق اختراقاً محدوداً في الجدار العازل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ووقع على وثيقة (ناكرو).. جاء “علي عثمان محمد طه” نائب الأمين العام للحركة الإسلامية.. وأكثر القيادات الإسلامية إخلاصاً للرئيس “البشير” وأكثرهم قرباً من الشيخ “الترابي” وأعمقهم إيماناً بضرورة تحالف المؤسسة العسكرية والنخبة الإسلامية.. وبفضل رؤيته الثاقبة.. وصبره وثقته في نفسه جفف الدم من أرض الجنوب وحقق استقراراً وفتح أبواب الأمل لوحدة طوعية قبل أن يخذله الرفاق.. ويتربص به التلاميذ، ويلفظونه بعيداً عن الحزب والدولة ويتركونه يتأمل في (العيش الملأ القندول) كما يقول “المحبوب عبد السلام” في تأملات العشرية الأولى من حكم الإنقاذ.. ولأن الثورات تأكل فلذات كبدها.. صعد د.”نافع علي نافع” الذي أمسك بتلابيب الجهاز التنفيذي بعد إقصاء “علي عثمان” وإبعاده بغير بصيرة ولا تدبر.. ووقع د.”نافع علي نافع” على اتفاق 28 /يونيو الذي كان بمثابة بارقة أمل لإنقاذ السودان من العودة لجحيم الحرب..
ولكن الاتفاق (أجهض) ومعه بدأت رحلة د.”نافع” نحو التقهقر وفقدان النفوذ.. ولأن “نافع” كان مبدئياً منحى باسمه وبسمعته وانتصر لرؤية التنظيم الذي عارض الاتفاق، ومن غرائب وعجائب السياسة أن “نافع” داخل المكتب القيادي عن الاتفاق الذي وقعه مع “مالك عقار” وانحنى للعاصفة التي قادها “الطيب مصطفى” وآخرون من دونه تحسبهم جماعة وقلوبهم شتى لتغرق البلاد في لجة حرب استنزاف وضعتها في الحالة الراهنة من اقتصاد مريض ودولة تسير على حافة هاوية سحيقة.. وهذا التاريخ جعل المفاوضين الذين جاءوا من بعد “نافع” و”علي عثمان” يتأملون في المشهد جيداً و(يحسبون) موضع أقدامهم قبل السير في حقل الألغام القاتل.. كان كبير المفاوضين يجلس في فندق (سون بلو) وعينه على الخرطوم.. هو الأكثر حرصاً على انقضاض جولة المفاوضات دون خسائر شخصية وفوبيا الإقصاء وفقدان الوظيفة والامتيازات تسيطر على قادة وفد التفاوض، أما أعضاء الوفد الحكومي وخاصة من أهل المنطقتين فهم أحرص على إرضاء من بيده قلم التوقيع على قرارات التعيين في الوظائف أكثر من حرصه على إرضاء شعبه وأهله.. وفي إحدى جولات التفاوض تمرد اثنان من أبناء جبال النوبة على الفريق المفاوض ورفضوا تبريرات تعليق جولة المفاوضات والأسباب التي أدت لانهيارها.. وكان ثمن ذلك إبعادهم الاثنين معاً.. ومن تلك الجولة أصبح العميد “محمد مركزو كوكو” مزارعاً مقيماً في مدينة الدلنج، والعميد “الشفيع الفكي علي” يأكل من ألواح الثلج الذي ينتجه مصنع صغير بأطراف أم درمان القصية.. أما الحركة الشعبية من جهتها فقد ظلت تمني نفسها بقسمة ترث فيها الحركة الشعبية الأم.
وتتنازع الحركة الشعبية.. وتيارات من القوميين النوبة إلى اليسار الهارب من لظى الحزب الشيوعي.. وإذا كان القوميون الجنوبيون قد أحاطوا بالفريق “سلفا كير ميارديت” في سنوات الفترة الانتقالية ونسجوا خيوطاً من الشك وزرعوا المسافة بينه ومكونات الحركة الشعبية، مما عرف بأولاد “قرنق” دعاة السودان الجديد بشروطهم والوحدة برؤيتهم وفصل القوميين الجنوبيين وذهب إلى سبيله، فالقوميون النوبة أحاطوا بالقائد “عبد العزيز آدم الحلو”.. رفعوا شعارات مثل جبال النوبة للنوبة وشجعهم القوميون النوبة في المؤتمر الوطني الذين خدعوا قياداته بأن انفصال “الحلو” عن الشماليين الشيوعيين “عرمان” و”وليد حامد” وبقية الهاربين من الحزب العجوز من شأن ذلك تسريع خطى السلام وإن السقف المرتفع الذي طالب به “عبد العزيز الحلو” (حق تقرير المصير) سينجلي عنه في أول جولة تفاوض قادمة.. ولن تمد الحركة الشعبية أرجلها بعد غروب شمس “عرمان” و”عقار” لقضايا مثل قسمة السلطة والثروة على صعيد المركز.. ولن تطالب بترتيبات أمنية أو فترة انتقالية.. ولكن سرعان ما تكشف ما وراء الأكمة.. وذلك ما نعود إليه في سياق قراءة صراع الرؤى بين ثلاثة اتجاهات.
{ الآلية الأفريقية حائرة!!
بعض الذين يظنون السوء بالآلية الأفريقية برئاسة “ثامبو أمبيكي” رئيس جنوب أفريقيا السابق، والجنرال “عبد السلام أبو بكر” رئيس جمهورية نيجيريا السابق.. ورئيس رواندا السابق وبعض السفراء المتقاعدين بأن هذه الآلية اتخذت من القضية السودانية (وظيفة) (تعتاش منها) كما يقول أهل لبنان، والآلية الأفريقية تحصل على التمويل نظير جهودها في إحلال السلام من الاتحاد الأفريقي وشركاء (الإيقاد) والممولين من دول الترويكا الأوروبية.. وأقحمت القضية أبواب مجلس الأمن الذي يتلقى سنوياً تقريراً من رئيس الآلية الأفريقية حول جهود التسوية.. وينال أجراً من الشركاء.. وتمويلاً لعقد الجلسات ويشمل الاستضافة في فنادق إثيوبيا المستفيدة هي الأخرى اقتصادياً من أزمات السودان.. ومن حين لآخر يتوافد الفرقاء إلى العاصمة شديدة البرودة.. في فصل الشتاء وتفيض الفنادق بالسودانيين من الشتات شعراء وأدباء ووزراء سابقين ومثقفين، يأتي بهم “ياسر عرمان” أيام كان له صيت ونجومية.. وكلمة.. وتصبح ساحة التفاوض مسرحاً عبثياً.. لمن لا صلة لهم بقضايا المنطقتين.. “عالم عباس” يغرد بقصائده.. و”فضيلي جماع” غاضب على الواقع و”كمال الجزولي” ما بين الحزب العجوز وصديقه “عرمان” الذي يملك قدرة فائقة وبراعة في (تعكير) صفو أهل الحكم بأحاديثه التي تخرج للفضاء وهي تناقض مواقفه في طاولة التفاوض.
إزاء ذلك المشهد ظلت الآلية الأفريقية تنتهج منهجاً عقيماً.. ولن يفضي لاتفاق ولو تطاولت المفاوضات لسنوات عشر بعد عشرين عشرين.. وأكثر ما تحرص عليه الآلية عند نهاية كل عام أن (تلملم) أطراف النزاع لمدة يومين أو ثلاثة في فندق (ردسون بلو) في أديس أبابا، ويطوف “أمبيكي” بعض البلدان التي يعتقد أنها ذات صلة بقضية الحرب في السودان.. و(يدبج) الدبلوماسي “عايدول” تقريراً لمجلس الأمن يعبر من خلال مجلس الأمن والسلم الأفريقي ويحصل “أمبيكي” على تفويض لمدة عام ثم يذهب إلى سبيله، والقضية السودانية تتفاعل سلباً رغم توقف الحرب عملياً، إلا أن مضاعفات النزاع تنخر في جسد السودان كدولة، وتباعد بين أبناء الوطن.. والآلية الأفريقية تطلب من أطراف النزاع كتابة مواقفهم حيال ما تطرحه الآلية.. مثلاً وقف إطلاق النار أو توصيل المساعدات الإنسانية، ويقدم كل طرف ورقته متضمنة مواقفه المعلنة ويتشدد كل طرف.. وتجمع الآلية الأوراق منذ كان معلماً في المرحلة الثانوية يمتحن طلابه في مادة أدبية.. وتعكف الآلية في مقاربة المواقف على الورق.. وتقدم رؤيتها هي حول ما اتفق عليه وما اختلف حوله.. وتطلب من كل طرف تسجيل ملاحظاته حول النقاط التي اعتبرتها الآلية متفقاً عليها والمختلف حولها.. يكتب المتفق عليه بالقلم الأخضر والمختلف عليه بالقلم الأحمر.. ويطلب من كل فريق تقديم ورقة أخيرة.. حول موقفه من القضايا التي أدرجت كل كجدول أعمال تتباعد الموافق وتعلن الآلية الأفريقية بعد ثلاثة أيام أو أسبوع عدد أيام التفاوض تحددها سقوفات التمويل إذا دفعت دول الترويكا نفقات المفاوضات لأسبوع.. تمتد المفاوضات أما إذا كانت الاعتمادات المالية لثلاثة أيام، فالسيد “أمبيكي” لا يملك إلا رفع الجلسات وإصدار بيان عن تعليق المفاوضات، ويترك لوفدي الحكومة والحركة الشعبية (يلعنان) بعضهما البعض.. ويتهم كل طرف الآخر بعدم الجدية ويتوعدون بعضهم مع قليل من العنف اللفظي.. ويعود الوفد الحكومي للخرطوم (أباطوا والنجم) وتغادر قيادات الحركات لأركان الدنيا الأربعة.. بعضهم يتوجه لنيروبي وآخر إلى جوبا.. وثالث للقاهرة ورابع إلى أسمرا وخامس لكمبالا.. وسادس لأستراليا البعيدة.. بوجوههم الناعمة.. وملابسهم الأنيقة.. بينما أهل القضية في جبال النوبة يطحنهم البؤس.
{ صراع الرؤى
الاختلاف بين الحكومة وفرقائها من الحركة الشعبية لتحرير السودان عميق جداً، وتتسع هوته كل يوم بتغذية مرارات الصراع السياسي والحرب لعوامل التباغض والتجافي.. والحركة الشعبية منقسمة إلى جناح ولكل جناح رؤيته لحل النزاع، ولكن تبدأ بموقف الحكومة الذي يعتبر توصيات الحوار الوطني تمثل وصفة علاجية لشفاء السودان من أمراض الصراع.. وقد حسمت التوصيات قضايا الهوية ونظام الحكم ووضعت أساسا لنظام رئاسي تعددي.. وترفض الحكومة الدخول في اتفاقيات مع الحركات المسلحة تناقض جوهر تلك التوصيات أي مقررات الحوار الوطني.. أما الحركة الشعبية الجناح الذي يقوده “مالك عقار” فهو يطالب بنظام حكم ذاتي لإقليمي جبال النوبة والنيل الأزرق في إطار سودان موحد ولا يطالب بحكم ذاتي في كل السودان، ومد هذا التنظيم (أرجله) على مقاس (لحافه) ولكن التنظيم الآخر الذي يقوده “عبد العزيز آدم الحلو” وهو الأطول باعاً في القتال والأكثر استمالة إلى المقاتلين من العسكريين وضباط وجنود، يطالب بحق تقرير المصير للمنطقتين في حال رفض المؤتمر الوطني لعلمانية الدولة، وإعادة هيكلتها واحتفاظ الحركة الشعبية بجيشها لمدة عشرين عاماً وعلى الأقل عشر سنوات، وفي ظل رفض ذلك يتم فصل المنطقتين من بقية السودان.. وإذا كان الجنوب في مرحلة ما كان يدعم مثل هذه التوجهات وللجنوبيين اليد الطولى في انقسام الحركة الشعبية واحتضان “الحلو” ولفظ “مالك عقار” كأن الجنوب الآن مع التسوية التي تحافظ على وحدة السودان.
{ أين مبادرة “سلفاكير”؟
عندما وقعت الفصائل الجنوبية على اتفاقية السلام تسارعت خطة التطبيع بين الخرطوم وجوبا.. وتعهد “توت قلواك” مستشار “سلفاكير ميارديت” برد الرئيس الجنوب سوداني تحية لـ”البشير” تليق بضابط مظلات التقى قائده!! ودعا “سلفا كير” أطراف الحركة الشعبية إلى مدينة جوبا لإقناعهم بالتسوية وتوحيد الحركة الشعبية مرة أخرى، وقد فشلت مبادرة توحيد الحركة، ولم تفشل مبادرة تحقيق السلام حتى الآن، إلا أن هناك تقاطعات عميقة بين رؤية حكومة الجنوب لكيفية حل النزاع ورؤية الآلية الأفريقية رفيعة المستوى بقيادة “ثامبو أمبيكي”.. ولم تشكل حكومة الجنوب حضوراً في مفاوضات أديس أبابا التي اتخذت منحى (كلي) محاولة إحياء اتفاق خارطة الطريق مرة أخرى قبل اجتماعات الدوحة المرتقبة لحل النزاع الدارفوري.. فهل يعود “سلفا كير” ويجدد اتصالاته ويجمع قادة التمرد مع الحكومة في مفاوضات مباشرة بجوبا ويترك لآلية “أمبيكي” شرف توقيع الفرقاء على الاتفاق النهائي أمامها، وهل يسمح لـ”سلفا كير” القيام بهذا الدور من قبل شركاء (الإيقاد) والممولين الأوروبيين المتربصين بـ”سلفاكير” و”البشير” معاً.
صحيفة المجهر السياسي.