مقالات متنوعة

البيان العملي من الدكتور غازي


أثار موقف الدكتور غازي صلاح الدين وحزبه (الإصلاح الآن) في الأيام الماضية ردود فعل متنوعة، حيث ورد حزب الدكتور غازي في صدر قائمة لعدد من الجهات التي تؤيد المظاهرات وذلك في عدد من البيانات، هذه القائمة تضم أحزاباً وحركات ومجموعات، ويكفي أن بينها (الجبهة الثورية) !! ثم ختم ذلك بالمؤتمر الصحافي الذي كان فيه مشاركة من عدد من الأحزاب والفرق قائمتها طويلة، هي قائمة متنوعة الأفكار والمعتقدات والاتجاهات والمنابع والميول، وهي متنوعة (الأجندة) و(الطموح) والبرامج)، ومع اختلافنا مع الدكتور غازي في عدد من الأمور المعروفة والمعلومة، إلا أن هذا الأمر احتاج وقفة، أعود فيها لبعض ما نشرته سابقاً في مقالين نشرا بهذا العمود، إذ كان المقالان في مناقشة الطرح (النظري) الذي طرحه الدكتور غازي، ثم كان بيانه (العملي) في موقفه وموقف حزبه في هذه الأحداث. حيث إنه أخبر سابقاً وطبّق حالياً بأن اختلاف الهوية والفكر والعقيدة (الأيدلوجيا) لا يؤثر في قليل أو كثير مع من يجتمع معهم ويضمهم حزبه !!!
فأعود بالإخوة القراء إلى ما كتبته تعليقاً على بعض الفقرات التي وردت في لقاء بصحيفة المجهر قبل عدة سنوات :
* الظرف التقليدي لتأسيس الكيانات والتنظيمات السياسية في السودان ينحصر في مساري الطائفة او الايدلوجيا، فهل ستسلكون ذات المناهج القديمة أم أنكم تخططون للسير في مسار جديد، خاصة في ظل التطورات المجتمعية والمعرفية؟
فأجاب الدكتور غازي بقوله : (نحن لا نؤمن بالايدلوجيات وهي مقيدة جداً، وهي مشوهة للواقع كما يقال، لان الانسان يفسر الواقع حسب رؤيته هو، ويضطر الى تشويه الواقع حتى يتوافق مع الايدلوجيا التي ينطلق منها، وهذا شيء معروف. فضلاً عن هذا فإن كلمة الايدلوجيا تعني ان الانسان متخدنق في موقف لا يستطيع ان يتخلص منه ولا يستطيع الفكاك منه. نحن لدينا خبرة سياسية واسعة ولدينا أفكاراً مرنة للتعامل مع اطروحات الساحة، قدمانها وسنقدم هذه الافكار ونرجو ان يكون في ما سنفعله جديداً يؤدي الى نجاح هذه التجربة، برغم ان احتمالات الفشل واردة أصلاً في أي مشروع. لكن نحن نعي مقومات النجاح اكثر مما نهتم بأسباب الفشل، وسنحاول تطويع مقومات النجاح حتى نقدم تجربة مفيدة للشعب السوداني وللتجربة السياسية السودانية).
وكلام الدكتور غازي في إجابته للسؤال أعلاه ألغى بها ثوابت الدين التي يحكم بها على التصرفات وعلى العقائد وعلى المواقف والسياسات .. وما عبّر عنه بلفظ (التخندق) هو قدح في ثوابت الشريعة التي يجب على المسلم أن يحتكم إليها ، وأن (ينقاد) لها .. فإن الله تعالى قال : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) .. وهو بدلاً عن ثوابت الشريعة يشير إلى (البدائل) التي يطرحها وهي ما عبر عنها بقوله (نحن لدينا خبرة سياسية واسعة) وقوله (ولدينا أفكاراً مرنة) .. كما أنه يريد جمع (تيارات) متعددة ومتنوعة .. ومتباينة .. وجهات تختلف في عقائدها .. فيا ترى ما الذي سيقدمه هذا الخليط ؟! فإن كان دكتور غازي يحكي فشلهم في الحركة الإسلامية من تحقيق النجاح وهم جسم واحد بين أفراده اختلاف في العقائد والتوجهات حسب ما هو في منهجية الحركة .. فكيف سيتحقق النجاح مع تعدد (العقائد والأفكار) وتعدد (الأجسام) وهو ما يدعو إليه الدكتور غازي في حزبه الجديد؟!!
*وقال الدكتور غازي مؤكداً دعوته لجمع (خليط) من الأحزاب والاتجاهات في حزب واحد : (الإجابات عن هوية الحزب تصدر من داخله وعبر جدل مستفيض يمثل عملية تخلق وبناء. لذلك لم يصدر يحمل اسماً ولا شكلاً مسبقاً، فقط ما نتطلع إليه هو كيان يسع السودانيين جميعاً ويعبر عن قيمهم ومصالحهم.
لذلك فالكيان ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺼﺒﻮ ﺇﻟﻴﻪ، وﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﺍﻣﺘﺪﺍﺩﺍً ﻟﻠﻤﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﻻ ﻟﻸﺣﺰﺍﺏ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺔ ﻭﻻ ﻟﻤﻨﺒﺮ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ ﻭﻻ ﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺿﺔ ﺍﻟﺜﻮﺭﻳﺔ ﻭﻻ ﻟﺪﻋﺎﺓ ﺍﻹﺻﻼﺡ ﺑﺎﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ، ﻫﻮ ﻳﺴﻊ ﻫﺆﻻﺀ ﺟﻤﻴﻌﺎً ﻭﻳﺴﻌﻰ ﻟﺒﻨﺎﺀ ﺩﻭﻟﺔ ﻋﺎﺩﻟﺔ ﻻ ﺗﻤﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺃﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻭﻣﺠﺘﻤﻊ ﺣﺮ ﻻ ﻳﻜﺒﻠﻪ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ) .
*ويقول الدكتور غازي : (دعوتنا نقدمها للسودانيين للاشتراك في تخليق حزبنا القادم وصياغة فكرته وحتى اختيار اسمه ونحن نعتز بالاستجابات الواسعة التي وجدناها من النشطاء ومجموعات المثقفين , ورؤيتنا للحزب الجديد تراعي أن لا يستغل شعار الشريعة الإسلامية لتحقيق مكاسب دنيوية لأن هذا يعد أسوأ استغلال للدين، فالمطلب الجوهري للشريعة هو تحقيق العدل).
أقول في التعليق والرد على ما ذكره الدكتور غازي أعلاه حيث كان في السابق (التنظير) والذي أتبعه في الأيام الماضية (التطبيق) العملي :
إن على الدكتور غازي أن يدرك ويعلم أن المطلب الأعظم والجوهري للشريعة وللإسلام ولكل الرسالات ولكل الأنبياء ولكل الكتب السماوية هو عبادة الله وحده لا شريك له .. وترك عبادة من سواه .. هذه هي الغاية التي خلق الله لأجلها الجن والإنس وخلق الحاكم والمحكوم وجميع المخلوقين ومنهم د.غازي أن يعبدوا الله وحده لا شريك له .. وأوجدهم لتحقيق العبودية التي تكون في طاعتهم له وتعظيمهم أمره ونهيه .. ولا أظن أني بحاجة لأورد نصوصاً من القرآن الكريم والسنة النبوية تدل على هذه الحقيقة التي هي من أعظم الحقائق التي يجب إدراكها والعمل بها .. ولو تدبّر الدكتور غازي هذه الحقيقة ونظر في حاله وحال حزبه الذي يدعو إليه لعلم أن الإصلاح (الحقيقي) في أقصى المشرق .. وما يدعو إليه من (هجر) النظر في أمر العقائد .. والتزهيد في العمل بالثوابت الذي وصفه بــ (التخندق) في أقصى المغرب ..
آمل من الدكتور أن يتأمل ما يلي :
إن الله تعالى قد خلق هذا الإنسان واستخلفه في الأرض وأمره بأن يسير على صراطه المستقيم ، وقد بين الله تعالى أن من يمكنهم في الأرض يجب عليهم القيام بعبادته سبحانه بالمعنى العام للعبادة التي تتضمن جوانب الدين كله كالعقيدة وأصول الإيمان وأركان الإسلام ، وأحكامه وتشريعاته قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
كما حث الله تعالى من يمكنهم في حكم الناس القيام بمهمتهم التي ذكر منها : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ).
قال العلامة السعدي في تفسير هذه الآية : “ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف أن من (ادعى) أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } أي: ملكناهم إياها ، وجعلناهم المتسلطين عليها ، من غير منازع ينازعهم ، ولا معارض، { أَقَامُوا الصَّلاةَ } في أوقاتها ، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات. { وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم خصوصاً ، وعلى رعيتهم عموماً ، آتوها أهلها ، الذين هم أهلها، { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعاً وعقلاً من حقوق الله، وحقوق الآدميين، { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } كل منكر شرعاً وعقلاً معروف قبحه ، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم ، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعاً، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك ، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به.
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } أي: جميع الأمور، ترجع إلى الله، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى، فمن سلطه الله على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومن تسلط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصل له ملك مؤقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشئومة، وعاقبته مذمومة”.انتهى.
إذا تدبرنا الكتاب والسنة لوجدنا المقصد من خلق الخليقة وبعث الرسل هو هذه الغاية (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) هذه هي الغاية التي يجب على د.غازي وغيره من خلق الله أن يجتهدوا لبلوغها والعمل بها … وليست الغاية هي الإصلاح السياسي الذي يتباكى عليه الدكتور .. وليس هو ما جاء في قول الدكتور :
*( إن الملمح والمطلب الرئيسي في الحكم بحسب الشريعة هو اقامة العدل وأنا اخرج قاعد فقهية في هذا واقول حيثما كان عدل فثم شرع الله).
إن الغاية العظمى للحكم ليست العدالة وإنما إقامة شرع الله تعالى وتحكيمه بمعناه الشامل المعروف (عقيدة ، عبادة ، سلوك ، أخلاق ، اقتصاد ، سياسة شرعية ..الخ) والذي منه الحكم بالعدل ، إن المطلب الرئيس هو التوحيد لله رب العبيد .. ونفي الشريك عنه ، وتجريد الاتباع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الالتزام بالدين كله عقيدة وعبادة وسلوكاً ..

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة