حُسبت على الحزب عبارات قيادات الوطني.. حصاد الألسن
(لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك)، حكمة تاريخية مأثورة لا يبدو أن العديد من قيادات الوطني استصحبتها في ثنايا الانفعال وممارستها للعنف اللفظي في توقيت يعد الأصعب على البلاد التي تكتنفها احتجاجات وتظاهرات، يزيد من وتيرتها ما يتم تفسيره استفزازا كتصريح د.الفاتح عز الدين أمس الأول (بعد أسبوع الراجل يرفع راسه) لتبدأ مواجهات من نوع آخر لا تراعي خصوصية أو مقدسا.
أطراف المواجهة.. تقييم الموقف
المعركة الإعلامية التي دارت رحاها في الأيام الماضية بين الحكومة والمؤتمر الوطني من جهة، وقوى المعارضة التي تتزعم الاحتجاجات والتظاهرات الأخيرة بقيادة (تجمع المهنيين السودانيين) بحلفائه في قوى الإجماع ونداء السودان فضلا عن الحركات المسلحة مناوي وجبريل وعقار والناشطين، شهدت العديد من العنف اللفظي بحسب التوصيفات.
أقوال وعبارات لا تغيب بين احتدام المواجهات، ولكنها تتحول في كثير من الأحيان لمنصات جديدة بعد أن تخرج عن سياقاتها ومضامينها، لتبدو عبارات جارحة ومستفزة، عارية دون تعليب، لتكون وقود جديداً لاستمرار الأزمات أو توسعة المواجهات. استخدامات يقول كثير من الخبراء إنها تأتي غالباً في خضم الصراع السياسي، لتأزيم مواقف الخصوم وتصفية عناصره الفاعلة عبر الاغتيال السياسي والمعنوي. فيما يرى آخرون أن بعض السياسيين يفتقدون المقدرة التعبيرية الكافية في تعاطيهم مع الأزمات ويلحقون بأنفسهم ومكوناتهم خسائر سياسية كبيرة، ليدور التساؤل حول الخطاب الإعلامي للحكومة والمعارضة على خلفية الاحتجاجات الأخيرة ووقعها على نفسية المتلقين سواء كانت مصوبة بدقة أو أفرغت من مضمونها ومدى تأثيرها على الأحداث سلبا وإيجابا؟!
خطاب الحكومة
الحكومة في شقها الرسمي لا الحزبي، وصف خطابها بالمتوازن، وحرص منسوبوها على عدم الانجرار وراء حملات التضخيم أو التقليل من الاحتجاجات ومن يقفون خلفها.
الحرص الحكومي ودقته تترجم في إصرارها على التحدث بلسان واحد دون تناقض فيما يتعلق بمعالجة الأسباب التي دفعت المواطنين للتعبير عن غضبهم منذ 19 ديسمبر 2018م احتجاجاً على انعدام السيولة المالية والخبز والمشتقات النفطية، مؤكدة على لسان رئيس الوزراء معتز موسى أنها تعمل على معالجة هذه المشكلات ومعالجة أخرى جرى تضمينها في موازنة العام المقبل. أما الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير الإعلام والاتصالات بشارة جمعة أرو، ظل يتحدث عن أهمية الإجماع والحوار الوطني وإنفاذ مخرجاته ودعوة الحركات المسلحة للسلام. وانخرط الوزير في حوار مباشر مع ناشطين شباب بمواقع التواصل الاجتماعي بعنوان (نتحاور بس).
خبراء إعلاميون يرون أن الحكومة تدرك حقيقة عدم إمكانية إخفاء أي أزمة أو مشكلة في ظل الانفتاح الإعلامي، بجانب أنها تُدرك أن التخفي خلف الأزمات سيعمق من المشكلات التي تواجهها، ويعتقدون أن الحكومة بهذا الإدراك تمكنت من إدارة إعلامية رسمية مميزة بتطبيق أفضل القواعد من حيث الإقرار بالأزمة والتخطيط الجيد لإدارتها ومخاطبة الناس بإجابات مناسبة ومعقولة –باعتقادهم- حول ما يتصل بمعالجتها لأزمة النقود والخبز والوقود.
خطاب الوطني
على صعيد المؤتمر الوطني، جاء حديث مسؤوله السياسي والتنظيمي الأول د.فيصل حسن إبراهيم، منذ اندلاع التظاهرات محدود، واستخدم تصريحات يرى كثيرٌ من المراقبين أنها كانت منضبطة وتتركز على معالجة أزمات الخبز وشح السيولة ومقدرة الوطني وشركائه على تجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة. ويذهب الخبير الإعلامي محمد هاشم في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن الوطني ظهر بتخطيط هادئ لعملية إعلامية حاول من خلالها الإفلات من شباك المعارضة واستفزازها، وأضاف: تجلَّى ذلك أول أيام التظاهرات بظهور ألسنة نظيفة تحاشت استخدام عبارات مستفزة ومعممة.
حديث هاشم يبدو أكثر وضوحاً بملاحظة (السوداني) ابتعاد قيادات بارزة بالمؤتمر الوطني عن الإدلاء بأي تصريحات، بل إن كثيرا منهم نأى بنفسه تاركاً المجال لمؤسسات الحزب الرسمية لإدارة الأزمة. فشخصية مثل د.نافع علي نافع ظلت تتصدر مثل هذه المواجهات وعرف عنه إطلاقه تعبيرات مستفزة أو مثيرة، بيد أنه لدى ظهوره خلال فترة الاحتجاجات فضل استخدام لغة هادئة عبر تصريحات محدودة ودقيقة أدلى بها من موقعه كنائب برلماني حاول من خلالها الفصل بين مطالب المواطنين بتوفير الخدمات وبين الأجندة السياسية، وقال: (الرسالة وصلت).
أمور الحزب الحاكم لا يبدو أنها سارت كما تشتهي نفس مخططات مؤسسات الحزب، فظهر بشكل غير متوقع عضو المكتب القيادي للوطني والنائب الأول السابق لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه بخطاب وصفه المراقبون بـ(شديد اللهجة) وغير معهود في الرجل، ليدلي في حديث ببرنامج تلفزيوني بعبارة (كتائب الظل) التي وجدت انتشارا واسعا على وسائط التواصل الاجتماعي مصحوبة بتأويلات واتهامات عديدة للرجل، وعدَّ ناشطون حديثه رسالة تهديد للمتظاهرين.
الظهور الثاني الذي اعتبره كثيرون مربكا لحسابات مخططي الحزب الحاكم كان لرئيس قطاع الفكر والثقافة بالوطني د.الفاتح عز الدين لدى مخاطبته أبناء وقيادات دارفور لمناصرة رئيس الجمهورية الخميس الماضي، مستخدما عبارة (أي زول بحمل سلاح بنقطع رأسه وبعد أسبوع الراجل يرفع رأسه) لتكون وقودا جديدا في معركة الاستقطاب التي تدور بين الوطني والمعارضة، فيما فسر ناشطون عبارة أخرى أدلى بها نائب الرئيس السابق حسبو محمد عبد الرحمن (ما بنسلمها بالساهل) باعتبارها رسائل استفزاز لما يسمى بقوى التغيير.
خطاب المعارضة
بالنظر للخطاب الإعلامي للمعارضة، ممثلة في تجمع المهنيين وقوى الإجماع الوطني ونداء السودان، يبدو أنه شهد تحولات وتكتيكات سريعة خاصة عقب تصدرها للمشهد بوضوح بعد احتجاجات عطبرة. فالمعارضة باعتقاد المراقبين تعتبر العمل الإعلامي معركتها الرئيسية التي تستطيع بها إرباك خطوات الحكومة في الداخل والخارج. وطبقا لمتابعات (السوداني)، فإنها ما تزال تعمل على معالجة الأخطاء التي وقع فيها إعلامها من خلال الشائعات والأكاذيب وتضخيم أعداد الضحايا، فضلا عن ضبطها لقيادتها وهو ما تترجم في سحب مريم الصادق المهدي من الحديث للفضائيات، وكذلك أبعد كل من مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم ومالك عقار عن الحديث.
بيد أن التفسيرات تعددت في هذا السياق وتم النظر للأمر باعتباره تكتيكا سياسيا مدروسا لضمان نجاح خطوات التصعيد خوفا من تراجعها شعبياً حال ظهور قادة الحركات أو بروز قيادات عمل سياسي يتم النظر لها كسارقين للثورة الوليدة –بحسب رأيهم-.
كثيرون يرون أن الأمر أعمق من تكتيك سياسي، ويذهبون إلى أنه نوع من محاولة امتصاص ما ترسب سلبيا حول قيادات المعارضة بعد تسرب تسجيل للحاج وراق وياسر عرمان، حمل توصيفات غير مقبولة للحكومة بالـ(كبش والفريسة) في سياق ما اعتبر استعجالا لتقسيم كيمان السلطة قبل سقوطها، بجانب غياب رئيس نداء السودان ورئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي عن الحديث.
إعلاميا ترى التحليلات أن خطة المعارضة تعتمد على نجاح الاحتجاجات بقوة الدفع الذاتي لمنسوبيها بالداخل على أن تتم تغطية فراغ القيادات في المواقع الإخبارية بشخصيات تنتمي للقوى السياسية المختلفة تحت لافتة (خبراء).
بعيدا عن الخطاب الرسمي للمعارضة في المنابر، كان لناشطيها حظ في إطلاق العبارات المستفزة والرسائل الجارحة في وسائط التواصل الاجتماعي، تحمل وعودا بالتصفية والمحاسبة وإساءات لرموز الحكومة، وفيما ظل ياسر عرمان يكتب عبارات تشجيعية للمتظاهرين على صفحته بالفيسبوك مزودة ببعض التوجيهات، نأت الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو بنفسها من أي ظهور إعلامي حتى هذه اللحظة سواء كان ظهورا مؤيدا للتظاهرات أو معترضا عليها.
محاكمات للجميع
حول خطاب المعارضة عزا تقرير عن الاحتجاجات للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أسباب تماسك الحكومة وعدم حدوث انشقاق في صفوفها إلى ما سمّاه (طبيعة الخطاب الذي استخدمه بعض المتحدّثين باسم الاحتجاجات)، عندما هدّدوا بـ(اجتثاث) الإسلاميين ومعاقبتهم، غض النظر عما إذا كانوا من أنصار النظام أو ممن انشقوا عنه، وبروز مطالبات بـ(تطهير) مؤسسات الدولة خصوصا العسكرية، من معظم كوادرها التي عينها النظام الحالي. ولعل من أبرز نماذج العنفي اللفظي معنويا قيام البعض بـ”شنق” دمية على أحد الجسور، في تهديدٍ رمزيٍّ واضح بإمكان حصول انتقام حال سقط النظام.
بينما يذهب المستشار الصحفي السابق لرئيس الجمهورية المهندس أبي عز الدين في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن الملاحظ في مجمل العملية الإعلامية بين الأطراف صارت تؤثر على الأوضاع الأمنية في البلد بإثارة أو تهدئة الرأي العام بصورة سريعة وملفتة. ودعا أبي لتقديم المصلحة العليا للوطن وأمن المواطنين قبل التفوه بكلمة أو كتابة كلمة تخرج للناس.
أبي قسم الخطاب الإعلامي أثناء الاحتجاجات إلى ثلاثة اقسام: أولها حزبي والثاني للمعارضة والثالث للمعارضة الشريكة في الحكم. ويرى أن خطاب المعارضة أثناء الأزمة يبدو مضطربا بعض الشيء وعدوانيا جدا مما جعل عددا من دول الغرب لا تناصرهم كعادتها، منوها إلى أن إعلام المعارضة ركب (سرج) المظاهرات السلمية حتى وصل مرحلة التنافس بالبيانات فيما بينها واقتسام الغنائم والمناصب. مشيرا إلى فطنة المواطنين فأحجموا عن التظاهر والتزمت الأغلبية الساحقة من المواطنين منازلهم وعملهم اليومي، ليختفي قادة المعارضة فجأة من الظهور في الإعلام.4
أما الإعلام الحزبي طبقا لأبي، فإنه يحتاج للكثير من الضبط والتجويد، ويعتقد أنه لا يمكن أن يقوم حزب حاكم بمجاراة خطاب المعارضة وكأنهما في ركن نقاش طلابي، معتبرا أن الوطني يحتاج لرفع القدرات في مجال إعلام الأزمة والاستعانة بعدد كبير من الخبراء المتوفرين الذين يمكنهم صناعة الفرق، مؤكدا أن الإعلام في مواجهة الرأي العام الأوروبي والأمريكي مفقود تماما وتتغلب فيه المعارضة نظرا لما سمّاه تجاهل الحكومة لأهميته وعدم تطويرها لآلياتها ولكيفية مخاطبة الرأي العام الدولي والمنظمات الدولية، منوها إلى أن وجود عدد كبير من اللاجئين المعارضين بالخارج سهل مهمة المعارضة.
صحيفة السوداني.