أساطير سودانية
إبراهيم أحمد عبد الكريم.. صاحب الفكرة الفولاذية
هو أحد الذين حين يذكرون، تذكر خوارق الأشياء في علوها وأساطيرها غير القابلة للمرور دون دهشة وإبهار، عرف عنه بل عرفت عنه صفات بدأت معه منذ الصغر واستمرت معه حتى مماته الفجائي..
بكوستي وفي صيف العام 1936م ولد الأسطورة إبراهيم أحمد عبد الكريم لأسرة كانت ذات اهتمام بالعلوم الحديثة بل كانت من أوائل الأسر التي ألحقت أبناءها بالمدارس. فوالده درس حتى المرحلة الوسطى.. وعمل فيما بعد بالسكة الحديد ووصل في عمله مأموراً بالسكة الحديد..
بالمدارس قبل الثانوية كانت كوستي موقع الدراستين الأولية والوسطى. وفي المدرسة الوسطى كان واحداً من محبي مادتي التاريخ واللغة العربية، أهلته الدرجات النهائية التي أحرزها في المدرسة الوسطى للتواجد ضمن العدد المسموح به الدخول للمدارس الثانوية الثلاث آنذاك وهي وادي سيدنا الثانوية وخورطقت وحنتوب.. وهي بالترتيب في مدن أم درمان والأبيض وودمدني.
داخل مدرسة خور طقت الثانوية، وفي يوليو من العام 1953م، كان التحاقه بها لأربع سنوات قضاها في رحابها الفيحاء. فكان أحد فرسان الجمعية الأدبية قراءةً لأشعار المتنبئ ومقاطع من ترجمات عتيقة لشعراء بريطانيين كان يقوم بترجمتها المعلمون بالمدرسة.
تمكنت منه حالة العشق للآداب والفنون، وهي التي كان لصيقاً بها حتى قبيل وفاته بأيام، ومن ذلك ما كان صحبة للفنانين وشعراء الغناء وملحنيه.
ما سبق انعكس بصورة واضحة حين إعداده وتقديمه لبرنامج “نسائم الليل” التلفزيوني في تسعينات القرن الماضي، حيث كان يقوم بسرد وقائع الأغنية المراد تقديمها بصورة بها أدق التفاصيل. كيف لا وهو ومنذ تخرجه في كلية البوليس بتاريخ 27 يوليو 1959م، كان جليساً لصناع الغناء العبادي وعبيد عبد الرحمن وسيد عبد العزيز وعبد الرحمن الريح، وهم من قدامى شعراء الغناء..
أما المحدثون من جيله، فقد كانوا السر دوليب والطاهر إبراهيم وإسماعيل حسن، والزين عباس عمارة، وعبد الله النجيب، ومحجوب سراج. أحب إبراهيم الغناء مع حبه وعشقه للشرطة ومهامها الجسيمة، فكان من خلصائه من فناني الغناء أبوداؤود وحسن عطية وحسن سليمان الهاوي وعثمان حسين..
كان من المؤمل لشخصه أن يدلف نحو جامعة الخرطوم بكلية الآداب، فلم ترق له، فأحب الجندية وأخلص في حبه للدرجة التي بادلته حباً بحب. فدلف نحو كلية البوليس ضمن أول مجموعة تنضم إليها في عهد الوطنيين وحكمهم ووزير داخليتها المرحوم الأزهري وذلك في يوم 2 فبراير 1957م.
داخل كلية البوليس أذهل الأساتذة الوطنيين بقدرته الفذة على حفظ المحاضرة بعد انتهاء الأستاذ من إلقاء الدرس. حيث أوان التخرج من كلية البوليس في 27 يوليو 1959م كان من المؤمل أن يكون أول مجموعته التي كان قوامها 28 ضابطاً فقط فكان ثاني الدفعة خلف الفذ هو الآخر أحمد ورسمة غالب.
فور التخرج ومنذ ذلك التاريخ وحتى تاريخ 14 يونيو 1988م تاريخ إحالته للمعاش عمل متكاثراً في خدمة الدولة فعمل بكل من الخرطوم ودارفور وكسلا وقنصلاً للسودان في أفريقيا الوسطى..
تحكى عنه قصص إعجاز لن تتكرر في جزئية فولاذية الذاكرة، وذلك منذ أيام دراسته بكلية البوليس، حيث كان يقوم بقراءة الكتب التي يقرأها من الذاكرة، وكذلك مقررات كلية البوليس. ومن ضمن ما كان ذا انبهار لذاكرته ما حكي عنه في قصتين تحكيان عما سبق..
الأولى هي في العام 1963م بمركز بوليس أم كدادة بدارفور. حيث ألقي القبض على صبي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره في جريمة قتل ثلاثة من رعاة الأبقار بتلك المنطقة. عقب إلقاء القبض عليه أودع الحبس بقسم البوليس، وحينها لم يكن مهتماً بالحكم الذي سيصدر في حقه، فكان يغني الأغاني التي يسمعها من خلال الإذاعة. بهر صوته إبراهيم عبد الكريم الذي كانت له أذن فنية.. بل وكان يتحدث معه باعتباره محبوساً قيد النظر في محاكمته.
انتهت مهمة إبراهيم بدارفور وبعد ثلاثة أشهر أتى الخبر بهروب قاتل الثلاثة من محبسه. ما بين العام 1963م والعام 1987م وحينها كان مديراً للمباحث الجنائية، كانت واحدة من الجرائم البشعة في منطقة جنوب الخرطوم، إذ وجد أحد المواطنين مذبوحاً كالشاة. حين تحدثه مع رجال المباحث داخل موقع الجريمة كان أحد رجال المباحث يتحدث معه باعتباره أول الذين وصلوا لموقع الجريمة، سمع صوته طلب منه أن يكرر ما قاله، وحين استمع جيداً قال لرجال المباحث من حوله “اقبضوا على هذا الشرطي فهو متهم في بلاغ قتل عمد بأم كدادة عام 1963م”. حينها جلس الشرطي على الأرض مع ذهول من حوله من رجال الشرطة. وبالفعل كان أن اعترف بجريمته عام 1963م..!
الثانية هي ما كان حين استعانت به كلية الشرطة لتدريب مادة من مواد العلوم الشرطية، وذلك في نهاية الستينات. كانت اجازة عيد الأضحى على الأبواب. وبعد خمسة أيام ستعاود الكلية عملها، طلب إبراهيم من طلاب الفصل الدراسي ذكر إسمائهم والمدرسة الثانوية التي أتوا منها. حين الانتهاء من ذكر الأسماء ودعهم إبراهيم على أمل اللقاء معهم بعد العطلة.
بعد يومين من بدء الدراسة كانت المحاضرة بطلها صاحب الذاكرة الفولاذية، إذ حين دخوله حجرة الدراسة لم يجد الطلاب كما كانوا جلوساً قبل خمسة أيام، فبدأ في ذكر الأسماء رباعية والمدرسة الثانوية لأي طالب على حدة وحدد له مكان جلوسه السابق..
تدرج إبراهيم عبد الكريم في سلك الشرطة منذ 27 يوليو 1959م وحتى تقاعده الذي كان مفاجأة للجميع إذ أنه أول مدير عام شرطة تتم إقالته في عهد ديمقراطي، فعمل بكل من دارفور وبوليس الخرطوم ومدير شرطة الولاية الشرقية بكسلا، ومن ثم مديراً لشرطة معتمدية الخرطوم ومديراً للمباحث وأخيراً مديراً عاماً للشرطة..
قدم الفريق إبراهيم خدمة جليلة للفن الغنائي السوداني، إذ أعد وقدم برنامج “نسائم الليل: التلفزيوني الذي قدم فيه 241 حلقة “مائتان وواحد وأربعون حلقة”، سرد فيها الكثير عن تاريخ الغناء السوداني.
في فبراير 2002م اشتدت عليه العلة، فكانت رحلات ماكوكية ما بين القاهرة ولندن حتى كان مساء يوم الأحد 29 أبريل 2002م فنعى الناعي شخصاً أسطورياً بحق اسمه إبراهيم أحمد عبد الكريم..
صحيفة الصيحة