كلمات في اللغة العربية لا تُقال للملوك .. تعرّف عليها
حفظت مصنفات اللغة العربية، ما يمكن اعتباره آداب تخاطب مع الملوك، وهو جزء من بنيان السلطة العربية الذي كان من أشكاله، التخاطب بين الملك والآخرين، وطريقة التصرف في حضرته والدخول إليه ثم الخروج من مجلسه، أو الطريقة التي ينصرف بها الملك من مجلس، دون أن يضطر للقول إنه سيغادر، بل فقط بإشارة معينة يفهم منها ذلك، وتختلف من ملك إلى آخر.
ويقصد بالملوك الخلفاء، أيضاً، وهو اصطلاح يستعمله مصنفون عرب، لإجمال مفهوم السلطة. وقد صار من المتعارف عليه، في المصنفات العربية، أن ذكر كلمة الملوك، تشمل الخلفاء أيضاً، وبدءاً من خلفاء (ملوك) بني أمية، وانتهاء بخلفاء (ملوك) بني العباس. ولهذا يعنون المصنفون العرب كتبهم، بكلمة الملوك، فيما يكون الاستشهاد من خليفة، أموياً كان أم عباسياً.
ووِضع في العربية، مصنفات كثيرة تعنى بما يعرف بآداب أو أخلاق الملوك، منها ما يأتي على سبيل تثقيف العامة والخاصة، بآداب التعامل مع الملوك، ككتاب (آداب الملوك) للثعالبي، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل (350-429) للهجرة. ومنها ما يتم وضعه لتأسيس قواعد بروتوكولية كاملة، لطريقة التصرف بحضرة ملك، ككتاب (التاج في أخلاق الملوك) للجاحظ، عمرو بن بحر، والمتوفى سنة 255 للهجرة. ومنها ما يوضع كنصائح للملوك، وهو أقرب للفكر السياسي وإدارة الدولة، منه إلى آداب التخاطب، ككتاب (نصيحة الملوك) للماوردي، علي بن محمد بن حبيب المتوفى سنة 450 للهجرة، وكتاب (آداب الملوك) لبن إياز، الحسين بن بدر بن عبد الله، المتوفى سنة 681 للهجرة، وكتاب (رسوم دار الخلافة) للصابئ، هلال بن المحسّن (395-448) للهجرة.
وفيما وضعت عشرات المصنفات في العربية، عندما يمكن إجماله بـ(أدب الملوك) وتنحو في غالبيتها باتجاه النصح والاعتبار أو نقل أخبار الملوك والأمراء، ركّزت أخرى على أدبيات التخاطب معهم، مفردة صفحاتها للمحظور من الكلمات التي ينبغي الامتناع عن مخاطبة الملوك بها، واعتبار مخاطبة الملك، ببعض الكلمات، من قبيل (سوء أدب البعض) كما يقول الثعالبي.
المُلوك لا يستكتبون!
يورد الثعالبي، في (آداب الملوك) عدة روايات عن كلمات لا يجب استعمالها بمخاطبة الملوك، منها، أن يطلب المرء من الملك أن يستكتبه. وينقل رواية عن دخول أحدهم على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فجرى حديث أمامه، فقال للخليفة: “اكتبنيه يا أمير المؤمنين، فقال له: “أخطأتَ: المُلوك لا يستكتبون!”
ولا يُمتَحنون..
ومن الكلمات التي لا ينبغي استعمالها مع الملوك، هي سؤالهم عن معنى شيء بقصد امتحان معرفتهم، فسؤال كهذا بمثابة التعبير غير اللائق ولا يخاطب به الملوك فهم لا يمتحنون في علم، كون قيامهم على أمر الناس لا يفترض بهم أن يكونوا علماء لغة أو نقاد أدب. فمن غير اللائق القول لملك: “ماذا يعني” فلان في تلك القصيدة؟
ويروي الثعالبي قصة عن الخليفة الأموي السابع، يزيد بن عبد الملك مع أحد المتكلمين عندما سأله عن “ما يعني” الشاعر الفلاني في بيت شعري؟ فرد عليه الخليفة رداً أطاح به بكلّيته!
أسقط اللهُ أنفكَ وعينيك!
ووقع الأصمعي وهو من علماء العربية الكبار، في خطأ مماثل، مع الخليفة العباسي هارون الرشيد، لمّا سأله الأخير عن أمر يخص العرب، فرد الأصمعي متباهياً وتجاسر باستعمال كلمة لا تليق فقال: “على الخبير سقطتَ يا أمير المؤمنين”. فجاءه الردّ من أحد عمّال الرشيد: “أسقط الله أنفكَ وعينيك، أهكذا يخاطب الخلفاء؟”.
وما وقع من الأصمعي، وقع من الصولي الكاتب، فقد مدحه الخليفة العباسي المكتفي، وفضّله على شاعر آخر، فقام الصولي بالرد على المكتفي مفضّلا الشاعر الآخر على نفسه، في ردّ لا يليق بمخاطبة ملوك كما تقول الحادثة التي يوردها الثعالبي، إذ يقول أحد عمّال المكتفي للصولي: “أخطأت في ردك قوله حين قلتَ له يحيى أشعر منّي، وقد قال أنتَ أشعر منه، والملوك لا يواجهون بالرد”.
فردّ الصول وتأسَّف: “واللهِ ما فطنت لهذا، وقد تعلمت الآن”.
مؤاكلة الملوك ليست لسدّ الجوع
ويروي الجاحظ حادثة في كتابه (التاج في أخلاق الملوك) جرت بين الخليفة العباسي المنصور وشابٍ دخل عليه ورفض دعوته لتناول الغداء بقوله: “لقد تغدّيت!”. وفوجئ الشاب بعد نهاية الحوار القصير وغيابه عن عين المنصور، بإخراجه بعد أن “دفعوا في قفاه”. وعندما قام أهل الشاب بتقديم شكوى بحق من طرد ابنهم من مجلس المنصور، قيل لهم السبب: “قال حين دعاه إلى طعامه: “قد فعلتُ” وإذن ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين إلا سدّ خلّة الجوع!”. فعلم ذوو الشاب أن مؤاكلة الملوك ليس القصد منها تناول الطعام وحسب، فلا تكون الإجابة كما فعل الشاب، حيث كانت كلمته غير لائقة.
“فاسمعْ منّي، افهم عنّي، ألا ترى”
ويسرد الجاحظ، عدة كلمات لا ينبغي على المتحدث مع الملك، مخاطبته بها: “وليس لمن حدّث الملك أن يفسد ألفاظه وكلامه بأن يقول في حديثه: فاسمعْ منّي أو افْهم عنّي أو يا هذا أو ألا ترى. فإن هذا وما أشبهه عيٌّ من قائله وحشوٌ في كلامه”.
ومما ذكره الجاحظ في مقدمة كتابه الذي يتشكك بعض المحققين بنسبته إليه، يظهر أن أكثر العامة والخاصة لم يكن على دراية بآداب التخاطب تلك، فألف كتابه للمساهمة بترسيخ هذا الأدب: “ومنها أن أكثر العامة وبعض الخاصة لمّا كانت تجهل الأقسام التي تجب لملوكها عليها، حضرنا آدابها في كتابنا هذا، لنجعلها قدوة لها وإماماً لتأدّبها”.
الأوطان حيث يعدل السلطان!
وورد في (العقد الفريد) لابن عبد ربه، أحمد بن محمد المتوفى سنة 328 للهجرة، وفي قسم يخص مخاطبة الملوك، كثير من أصول التخاطب هذه، إنما باعتبارها منجاة من “أنشوطة الهلاك” كون تلك المخاطبات تكفل لصاحبها “حسن التنصّل ولين الجواب ورقيق الاستعتاب حتى عادت سيئاته حسنات وعيض بالثواب بدلا من العقاب وحفظ هذا الباب أوجب من حفظ عرضه!”، يقول ابن عبد ربه.
واختلف كتاب الثعالبي عن كتاب الجاحظ وابن عبد ربه وكثير من كتب آداب الملوك الموضوعة كنصائح في إدارة الدولة، بنفَس نقدي ما، فهو يلمّح فيه إلى ضرورة وجود عدل الملك، ليكون هناك وطنٌ، من الأساس.
ويقتبس الثعالبي في كتابه (آداب الملوك) من كتاب آخر له، يدعى (المبهج) هذه الجملة التي يمكن أن تختصر وجود آلاف اللاجئين السياسيين في أنحاء العالم الآن: “الأوطان، حيث يعدل السلطان!”
العربية نت