الصادق الرزيقي

«كــــان مــــع الأحـــــباب نجمـــــه شــــــــــــارق»


[JUSTIFY]
«كــــان مــــع الأحـــــباب نجمـــــه شــــــــــــارق»

«أ»
نشرت الشمس رداءها فوق المدينة، وتراجعت فلول الظلام مع انسكاب الأشعة الذهبية، كجحفل مهزوم مقموع مطرود، وكل شيء كان يومض في ذاك الصباح ووجه هذا البدوي البسيط يتلامع مثل نجم ضال تاه في الفضاء العريض!!
بضع كلمات مضطربات خجلات، قالتها امرأة من قاع المدينة عنه:
«إنه في فوران دهشته بكل شيء في المدينة يشبه الرغوة الباهتة في برمة المريسة المندلقة في الصباح»!!
كانت عيناه مثل شمعة عجوز تلوك علكة على ضوئها الضئيل في بطء ونزق، وشفتاه راجفتان على تلة من رماد الذبول، جافتان مشققتان من برد نهاية يناير، وأنفه يسيل من زكام عنيد، وقذى في عينه اليمنى تراكم مثل الهموم ومرت آهة حرى مخضبة بحناء الذهول!!
«ب»
وقف على سارية الضوء الصباحي ذلك، تكونت حول فمه شبه دائرة من زيت الزلابية التي فك بها ريقه مع شاي الصباح عند بائعة القهوة والشاي التي انتبذت من أهل السوق مكاناً قصياً بعيداً عن جلبة البكور، مسح كفيه ومرفقيه من بقايا وأشباح الدهن الفجري!!
من رآه على تلك الحال المزرية لتذكر على الفور صورة طيفية مهترئة الملامح لإحدى الشخصيات الشكسبيرية الخالدة، عروق عنقه بارزة تتأرجح كلما ابتلع ريقه أو شهق شهقة لا معنى ومبرر لها في ذلك الصباح الدافئ من فصل الشتاء وهو تحت الضوء خفيض الحرارة.. وكانت هناك شجرة معمرة تدلت فروعها وأغصانها المورقة حتى لامست الأرض كدجاجة راقدة على بيضها!!
كان الشتاء يتساقط على قلبه، وقد بدا مجدولاً في صمته وقلقه، لكن المدينة التي صحت حوله كانت تنظر إليه كنازح عتيق جثا على ركبتيه تحت قبة الفراغ.
وارتاح بكلتا كفيه فوق عصاه، وهي عود من شجر الجميز معقوفة في أعلاها مدببة في أدناها، ورنا في استغراق نحو العابرين في أحشاء المدينة جيئةً وذهاباً، وبدأت الكلمات تخرج من دواخله وجوفه كنهر أعمى شق طريقه في الأرض سرباً!!
«ت»
قال إنه تحدر من خلف التلال القريبة نحو المدينة، ليصنع حياة جديدة، ونيالا يومئذً تموج وتفور وتمور بحركة التجارة والسياسة والآداب والفنون والموسيقى وعالم السينما وكرة القدم والسكة حديد وطائرة الفوكرز «30» وحفلات منسية لأم بلينة السنوسي وإبراهيم موسى أبا وفرقة فنون كردفان، بجانب ليالٍ لكبار المطربين الذي مروا من هناك في مشروع مكافحة العطش، وكتب فيها عبد الكريم الكابلي قصيدة جبل مرة التي غناها أبو عركي البخيت الذي جاء بعد سنوات قليلة ليقطف زهرة من زهرات المدينة ليتزوجها في حفل أسطوري خالد في ذاكرة المدينة، وعادة المدن مثل ساكنيها لا تتذكر لوقت طويل، ولا تتمتع بذاكرة ذات رسوخ.
«ج»
قال البدوي في تجشآته ذات الشجون: «جئت المدينة أبحث عن أفق ملون مزركش كقوس قزح يلوح في أعلى السماء، لكنني وجدت المدينة بئراً عميقة مظلمة امتلأ جوفها بالحيات والعقارب والقوارص، خارت قواي وخذلني المسير»
سألوه في صباحه ومحيط فمه يبرق بالدهن:
«ما جاء بك .. تركت الفلوات خلفك .. غادرت المراتع وطلول الصبا الغض، خاصمت قفزات القطعان الصغيرة فوق التلال القريبة، هجرت المراقد الهانئة وسط أهلك وحضن أمك، والصهيل العميق في جوف الوديان، والغناء البكر على ثغور الصبابا، والقمر الشارد والضائع في ليل الشتاء الطويل..
ما الذي جاء بك»!!
صمت كتمثال من رخام وحجر، وقال لمحدثه: «كثير منا مخدوع، المدينة تأكل من لحمنا ولا تطعمنا، تسرق من دمنا لا تسقينا، تسلبنا البريق المخبوء في قلوبنا، وتسحق الآمال الكبار التي تنبت كاشجار الدليب في فجوات ضلوعنا».. ثم ردد مصوتاً ككنار حزين:
عندما أمشي إلى النهر البعيد
يقف النهر طويلاً في انتظاري
وأتابع
عنما أرجع في منتصف الموت
يجف النهر في ذاكرتي
يذبل ما بين الأصابع
«ح»
وواصل البدوي الحزين: «لم أجد القمر في ضفائر المساء عند عتبات المدينة، ولم ألوح للشمس وهي ترنو في أصيلها وغروبها، للشوارع والطرقات والمخبولين في الأسواق والمتعجلين في سباق المكابدة والعيش في كبد.. بحثت عن الطمأنينة فوجدت قلبي قد تراكم في تراب الوجل والخوف، فتشت عن طيبة القروي في داخلي فلم أجد إلا حبالها المهترئة تعلن فرارها كغزال نافر شريد.
عشت في خباء كخباء العامرية في أيامي الأول، ثم تثاقلت في جنون اللهب واللامكان.. والمضغة في صدري تصدأ من غلظة الحياة وسرعة اللهاث خلف رنين الدراهم ووثير الفراش وغنج الأمسيات اللاهيات وتسكع الحيارى على رصيف الطرقات الحائرة»!!
ولم يكد يصمت في تلك الساعة من لحظات الضحى اليانع، وظله المحدودب يترسم في التراب ككهان مجوسي قديم، حتى حلقت فوق رأسه فكرة تطيش منها ضفائرها، كلحن فر من قيثارة راعٍ في فلاة بعيدة.
قال وعيناه تضجان: «لماذا تمتلئ دواخلنا بالشجن، حتى لكأن قوارير القلب يفضن بها ثم يتكسرن ويتشظين، شظايا من خزف الذكريات؟!»
كانت ملامحه حين إذ اقترب ما تكون لمرعوب يتلف السراب والصحراء حول خاصرته وتلسعه نيران الحريق في ثنايا قلبه الراعش، وهو يخرج من نفسه وإليها، يبكي من نفسه وعليها.
ولا شيء غير الحلم المتكئ على حائط مائل من اليقظات السريعة الواعية .. والراية في عينيه قد لطخها السأم والندم والجراح.
وكان ينحت في صخر الشتاء، صورة لوجهه بقذى عينه اليمنى، ودائرة الدهن حول فمه، ولمعان مرفقيه المفروكين بزيت الاصطبار الطويل، ويمسح ساعديه من شطائر حلمه اللزج، بصق على ظله المتعرج المحدودب تحت راية الضحى، ومضى في مشيته إلى مطعم قريب مشيد من قصب الذرة الجاف، وصوت مذياعه يردد صوت محمد وردي:
يا أمير الحسن لو تسمح ظروفك
كل ساعة كل لحظة كل يوم مشتاق أشوفك
كنت تايه في بحور الشوق وأمواج الحنان
قلبك إنت وحبك إنت جابني لشاطئ الأمان
والمحبة يا حبيبي أقوى من قدر الزمان
يا أمير
«خ»
ثم عبرت أمام عينيه المشاهد والمرائي القديمة والصور، وإزور من وقع قنا الشجن بلبان قلبه، وتحمحم فؤاده، وشعر بلظى النار في جوفه، وأطلق آهة طويلة حلمتها الريح.
لكي أقفز من جلدي إلى أوّل عصفور رماديّ. وأحتج
على الآفاق.
كلا!.
الرماديّ من البحر إلى البحر
وحراس المدى عادوا
وعيناك أمامي نقطتان
والسراب الضوء في هذا الزمان
الواقف الزاحف ما بين وداعين طويلين
ونحن الآن ما بين الوداعين وداع دائم
أنت السراب الضوء والضوء السراب
من رآنا أخرج الخنجر من أضلاعه أو خبأ الخنجر
في أضلاعه
حيث تكونين دمي يمطر أو يصعد في أي اتجاه
كالنباتات البدائية
كوني حائطي أو زمني
كي أطأ الأفق الرمادي
وكي أجرح لون المرحلة
من رآنا ضاع منا
في ثياب القتلة
فاذهبي في المرحلة
اذهبي
وانفجري بالمرحلة
[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة