وجدي الكردي: تنوير العباد بأفانين مُحاربة الفساد
قدّم رئيس الجمهورية عمر البشير، الدعوة للكفاءات السُّودانية المُنتشرة في العالم للإسهام بتقديم مُقترحات تخرج الاقتصاد السوداني من أزماته. وأجمل البشير، الأزمات التي بحاجة لمُقترحات الحل في: “الفساد والمُضاربات والتشوُّهات الاقتصادية”.
حسناً..
باعتباري أحد الكفاءات السُّودانية، أتقدّم بمُقترحي هذا، خدمةً للبلاد والعباد.
أعلم رعاك الله وأصلح شأن ولايتك، أنّ شُيُوع الحديث عن تفشّي الفساد في البلاد، بلغ حَدّاً دفع الفاتح عز الدين “شخصياً”، إلى مُطالبة الحكومة بتكوين مُفوضية “مهامها ناجزة وقاطعة”. وقال: “قضية الفساد لا بُدّ أن تنجلي بصُورةٍ واضحةٍ، فإن كَانَ هُناك فسادٌ ينبغي أن يُبتر وتُتَّخذ تجاهه التّدابير القاطعة، ويُغلق هذا الباب”.
قال بابكر بدري في مُذكّراته التي كتبها قبل “120” عاماً، قال: “في هذه الأيام، سُجن أحد التُجار الوطنيين الكبار بسبب تَلاعبه مع الأفندي كاتب السُّوق، فرأيت التاجر الكبير يحمل فنطازاً يرش لنا الماء أمام الدكاكين”.
خلِّي بالك..
كانت السُّلطات البريطانية الحاكمة للسُّودان وقتها، تعتمد “الخدمة الاجتماعية” كعُقُوبة مُوازية لتأديب المُدانين بمُوجب أول قانون جنائي صدر في السُّودان العام 1889، مثل كنس الشوارع ورشِّها بالمياه.
تُرى كيف أخذ بابكر بدري العبرة من حَالَ التّاجر الكَبير الذي بهدلته قوانين المُستعمر، جزاءً وفاقاً لما اقترفت يداه من فسادٍ؟!
قال بابكر بدري: “حلفت على المصحف الشريف وبطلاق الثلاثة من كل امرأة تحل لي، أن لا آخذ رشوة في هذه الحكومة ولا أعطي رشوة. وثابرت على ذلك. وكُنت في المهدية ماهراً في إعطاء حُكّامها الرشوة”.
أرأيتم كيف أن من لا يأمن العُقُوبة، لا يُسيئ الأدب؟!
لو أنّ عُقُوبة الفَاسد: فورية وناجزة وقاطعة كما قال الفاتح عز الدين “شخصياً، لما اعتبر الفاسدون المَناصب، “حُظُوظاً عمياء، لا أمانات بصيرة”. كما قال الإمام الغزالي.
في يوليو من العام 1838، جاء أحمد باشا أبو ودّان حاكماً على السودان. ولمّا كان سلفه خورشيد ضعيفاً مُتلجلجاً في مُكافحة الفساد، استعان بضباط الفرقة الثامنة وكانت لهم خبرة ودِربة بالحسابات. واجه أبو ودان كل من ارتكب مُخالفة مالية من رجال الإدارة. أودعهم الحراسة وأنشأ مكتباً خَاصّاً للمُراجعة والفَحص. أو “مفوضيّة” على قول الفاتح عز الدين!
صَادَرَ أبو ودان ممتلكات المُشتبهين بالفساد في الحال، وتشدّد في التنكيل بهم حتى أنّه انتزع الحُلى من أجساد زوجاتهم لبيعها في مزادٍ علني.
خلِّي بالك..
أورد ريتشارد هيل في كتابه “حقبة من تاريخ السودان 1822 – 1841”:
“إنّ من يتحكّمون في جهاز الدولة، جنسٌ من البشر عُرفوا بالمُكر والخديعة. وقد ارتقى هؤلاء الباشوات والمُديرون دست الحُكم عن طريق النفاق والخداع، لكنهم غير جديرين بالمسؤولية”.
هل المكر والخديعة والفساد، خصيصة سُودانية راسخة فشل الحكّام المُتعاقبين في قطع شأفتها؟!
نعود إلى مُرافقة الباشا في رحلته لمُكافحة الفساد بالولايات:
وصل أحمد باشا أبو ودان إلى دنقلا. أمر باعتقال “مُباشر المديرية” – الوالي بلغة هذا العصر – وكشفت مُراجعة الدفاتر عجزاً كبيراً ونهباً للضرائب المفروضة على المُزارعين.
بالطبع، أنكر المُباشر/ الوالي أن يكون فاسداً. فَصَادَر الباشا جميع مُمتلكاته ثُمّ أمر بجلده، ولمّا وَاصَلَ في الإنكار، أمر الباشا بإحضار ابنه وكان صبياً في الخامسة عشرة ليتم جلده مع والده!
تواصل الجلد، واستمر إصرار الرجل على الإنكار. عندها، أمر الباشا بشنق الاثنين معاً. الابن أولاً ثم الوالد.
اُقتيدا إلى المشنقة. وُضع الحبل حول عُنق الصبي. وحيال هول المشهد، توقّف قلب الأب وهوى جثة هامدة.
ولأن الحكاية طويلة و”إنتو ما عندكم زمن وأنا ذاتو ما فاضي”، فقط نطمئن المعنيين بالأمر، بأنّ الباشا تراجع عن إعدام الصبي!
———-
وجدي الكردي
7 أبريل، 2019 – الصيحة