تحقيقات وتقارير

من فض الاعتصام؟ صباحية الأشلاء والدماء .. من منكم رأى جثث الثوار؟

الثائر بهاء الدين يروي تفاصيل اللحظات المرعبة بميدان الاعتصام

رأيتُ جثثاً وجرحى تحت النفق بشارع النيل

أمرونا بالخروج من حمامات العمادة أو إضرام النار علينا

هكذا (…) تم نهب كل ما بداخل حقيبتي

من الذي دون بلاغات في مواجهة الثوار بالقسم الشمالي عقب فض الاعتصام

مصطفى: صديقي ـ الشهيد ـ كان لآخر اللحظات يردد: (الترس دا ما بنشال الترس وراهو رجال)

سحابة تجمعت ثم بكت بحرقة بللت دموعها كل أرض الاعتصام أمام القيادة العامة.. تهاوت الخيام من شدة الرياح التي كانت تنطلق بقوة في تلك الليلة تنذر الثوار بصباح يوم كئيب.. لم يكن أحد يكترث إلى تلك الإنذارات كانت الحياة داخل الميدان تسير بشكل طبيعي ولم تمنع الأمطار التي كانت تهطل بغزارة حُراس المتاريس من القيام بواجبهم في حماية الثوار داخل الميدان ولم تمنع أيضاً سكان جمورية أعلى النفق من الطرق بقوة على حديد السكة الحديد، بكت سماء الميدان على فراق الأحبة من الشهداء والمصابين والجرحى.

(الوجع راقد) مصطفى ينطق هذه العبارة بعد أن أخرج كل الهواء الساخن من صدره عبر تنهيدة يكفي زفيره لتدفئة غرفة كاملة في عز الشتاء.. لم يكن الشاب العشريني يقوى على حبس دموعه في عينيه أثناء مقابلته معي.. يتحدث إليّ وهو يسرد حكايات وقصصا صادمة – مصطفى فقد أحد أعز أصدقائه في مجزرة القيادة – ثم بكى بحرقة وهو يقول صديقي (ذكر إسمه وتحفظنا على كتابته مراعاة لمشاعر أسرته المكلومة) كان قوياً وثابتاً يحث كل الثوار داخل الميدان على الثبات أثناء اقتحام القوات المعتدية وهو يردد بحماس (الترس دا ما بنشال الترس وراه رجال). كانت هذه اللحظات هي آخر الدقائق التي جمعتني به ثم تفارقنا بعد أن أطلقت تلك القوات النار بكثافة على تجمعاتنا سمعت بنبأ استشهاده بعد ساعات من فض الاعتصام حيث أسلم الروح إلى بارئها داخل مشفى كان قد أسعف إليه. لم يكن أمامي غير البكاء البكاء فقط لا شيء..

أحسست بالعجز والخيانة لصديقي كنا سوياً طيلة مدة الاعتصام لم نفارق ميدان القيادة منذ السادس من أبريل وحتى لحظة وقوع الواقعة لم نكن نتصور فض الاعتصام بهذه الطريقة البشعة.. كنا نحلم بالحكم المدني ونغني للحرية في كل يوم نعيش لحظات الفرح نبكي مع الهتاف (حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، ننتحب عندما نرى صور الشهداء ترفرف فوق سموات الميدان نطلب القصاص ونهتف (الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية).

يقول مصطفى: لحظة سقوط البشير كنا وصديقي في الميدان وكنت أنتظر بيان القوات المسلحة على أحر من الجمر أحبطت لما تلا البيان النائب الأول للرئيس المخلوع عوض بن عوف قدت حملة إقالته مع الثوار عقب انتهائه من تلاوة البيان.. كان صديقي واعياً جدا لما يحدث حيث قال لي: هذه معركة أخرى يبدو أن النظام لم يسقط كما كنا نظن كنت واثقاً من أن هؤلاء العسكر سيخذلوننا بعد المماطلة التي بدأت تظهر منهم في تسليم السلطة لكني لم أتخيل أن تصل بهم الجرأة إلى فض الاعتصام بالرصاص الحي.

حالة النهب في وسط الخرطوم لم تكن متصورة قبل معركة فض الاعتصام بل إن هذه الوقائع كانت أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة وليست في أطراف المدينة إنها ليست حملة لفض الاعتصام فحسب فوقائعها تقول إنها معركة أو غزوة تجمع منها الغنائم فالجنود استعجلوا النزول من الجبل ربما رغم التحذيرات عندما رأوا الثوار العُزل يغادرون أماكن تجمعهم السلمي بعد أن قابلتهم القوة المعتدية بالرصاص الحي، إنها جريمة نهب كاملة الأركان حسبما يعرفها القانون الجنائي السوداني النافذ فقد ارتكبت على مواطن أعزل في وسط المدينة من قوة تحمل السلاح.

وقائع الجريمة يسرد تفاصيلها بهاء الدين محمد عثمان فقد استولت القوة على حقيبته التي كانت فيها مبلغ من المال وساعة ثمينة وأشياء أخرى فُتحت الحقيبة أمام عينه ثم أخذت عناصر القوة كل الأشياء الثمينة بها وتخلصت من الحقيبة هكذا وهو ينظر إليهم قليل الحيلة داخل مبنى العمادة التابع لجامعة الخرطوم القريب من شارع النيل.

بهاء الدين وبعض الثوار كانوا يوجدون في شارع (الكلينك) ـ مشفى جامعة الخرطوم ـ لحظة الهجوم على ميدان الاعتصام حيث توزع الثوار ما بين (الكلنك) والصحة النفسية والعمادة فكان خيارهم بها مواجهة تلك القوات والصمود حتى النهاية كانوا يهتفون رغم إطلاق الغاز المسيل للدموع والضرب بالعصي والسياط ثم تحول الأمر إلى إطلاق الرصاص الحي على صدور الثوار العُزل. يقول بهاء: حاولنا حماية أنفسنا فقررت أنا وأربعة من الثوار الدخول إلى مبان العمادة ثم رأيت آخرين سبقونا إلى هناك يحتمون بمكاتب العمادة داهمتنا قوة هناك فاضطررنا إلى مغادرة العمادة ودخلنا مبان عيادة الصحة النفسية ولم نجد غير الحمامات دخلنا الأربعة وتقسمنا على حمامين، لاحقتنا تلك القوة إلى هناك وهددتنا إن لم نفتح الأبواب سيقومون بإضرام النار علينا أو يطلقون الرصاص الحي.. قال بهاء: اضطررت إلى فتح الباب وجرني أحدهم بقوة إلى الخارج على الأرض..

وأضاف: بعد نصف الساعة من التنكيل المستمر رأيت شاباً كان يقاوم بقوة حيث اشتبك مع أحد الجنود لكن أوسعوه ضرباً قررت في تلك اللحظة إنقاذ الشاب من بين يدي الجنود لكنهم ضربوني وسحلوني واقتادوني إلى شارع النيل، وهناك وجدت المئات من الثوار يُنكل بهم ويواجهون السباب والضرب المبرح، وبينهم الجريح والشهيد، فتلك الصورة المتداولة حالياً على مواقع التواصل الاجتماعي والمنشورة في هذا التحقيق هي بالضبط حالة الثوار في تلك اللحظات العصيبة.

الصورة المهينة المتداولة للثوار وهم في قبضة تلك القوات يرقدون على بطونهم في شارع الإسفلت تحت النفق لعلها كانت مقصودة للدلالة على سقوط جمهورية أعلى النفق والتي كانت أقوى مكان للاحتجاج على مدار الساعة عبر الطرق بقوة على الحديد، هذه الحالة ربما كانت مقصودة في ذاتها للرد على الثوار ثم تبعها بعد أن قاموا برفعهم في (دفارات) على إجبارهم للهتاف بـ(عسكرية) وكل من يرفض يتم إنزاله وجلده بالسياط.. هكذا تابع بهاء الدين بالقول وهو يضيف: تحركت الدفارات عبر شارع النيل إلى أن وصلنا تخوم جسر توتي حيث تجمع أهالي الجزيرة يرمون القوة بحجارة من غضب على الموت الذي حدث خلال ساعات المجزرة ثم تبادلهم القوة بالرصاص الحي وتفرقهم ثم يعودون.. حالة الاشتباك هذه استمرت لقرابة الساعة بعدها ـ والحديث لبهاء ـ اقتادونا إلى مبنى لم نتعرف عليه لكنه على ما يبدو وسط منطقة مقرن النيلين ومنه تم اقتيادنا إلى قسم الشرطة الشمالي، هناك أجلسونا على الأرض ثم أمرونا بالنهوض والوقوف صفين..

مرر جنود الشرطة ورقة لكتابة الأسماء ومكان السكن والوظيفة ودون في مواجهتنا بلاغات جنائية تحت المادة 77 من القانون الجنائي الإزعاج العام ثم أودعونا الحراسات، كنت أنا مع آخرين بمجمع الزنزانات الشرقي الذي يتكون من زنزانتين وصالة ظللنا هناك حتى التاسعة مساء لم نتناول حتى تلك اللحظة (إفطار رمضان) مر علينا وكيل نيابة في تلك الساعة وأخبرنا بأنه قرر إطلاق سراحنا عبر الضمانة وطالبنا بكتابة أرقام هواتف للاتصال بها.. كتبنا الأرقام ولكن وحتى الساعة 11 مساء ـ أيضا لم نتناول الإفطار حتى تلك اللحظة ـ حضر ضابط شرطة برتبة نقيب وهو من معارفي وحاول إخراجي لكنني رفضت الخروج حتى يتم إطلاق سراحنا جميعاً، كنت أول المغادرين لقسم الشرطة في تلك الساعة بعد أن حضر أحد أصدقائي وقام بإجراءات الضمان ثم واصلت الاتصالات ببقية أصدقائي لإخراج بقية الثوار.

علي الدالي
صحيفة الجريدة