تحقيقات وتقارير

غزو روسي لأفريقيا .. طموح باستعادة الإرث السوفييتي


ي محاولة للحاق بركب التنافس الاقتصادي على ثروات القارة السمراء وأسواقها، مستغلة الإرث السوفييتي، وصعود دورها العالمي، تستضيف روسيا في مدينة سوتشي اليوم وغداً فعاليات قمة “روسيا ـ أفريقيا” الأولى، والمنتدى الاقتصادي الروسي الأفريقي. وأعلن زعماء 47 دولة أفريقية مشاركتهم في القمة غير المسبوقة التي تنطلق تحت شعار “من أجل السلام والأمن والتنمية”، متوّجة جهود موسكو في السنوات الأخيرة للعودة إلى “قارة الإمكانات الواعدة”، بعد سنوات التسعينيات “العجاف” التي شهدت انهيار الاتحاد السوفييتي وتخلي وريثته روسيا عن معظم حلفائه في حقبة صعود الإصلاحيين وما رافقها من انهيار اقتصادي وانكفاء عن العالم.

بوتين: لا نسعى لتوزيع ثروات القارة، ولكننا نريد التنافس على التعاون مع أفريقيا

وعشية القمة المنتظرة، ومع تنديده بمحاولات “الشركاء الغربيين دخول أفريقيا”، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقابلة مع وكالة “تاس” أن بلاده “ستعود إلى أفريقيا وترغب بالتعاون مع دول القارة بطريقة حضارية وفي إطار القانون”، مشدداً على أنه “لا نسعى لتوزيع ثروات القارة، ولكننا نريد التنافس على التعاون مع أفريقيا”، وأن “التنافس يجب أن يكون حضارياً” وأن يتم في الإطار القانوني. وفي تذكير بالخطاب السوفييتي، قال بوتين “تفضّل بعض الدول الغربية الضغط والابتزاز بدلاً من التعاون المثمر مع الدول ذات السيادة الأفريقية. لذلك يحاولون إعادة المستعمرات المفقودة “في غلاف جديد” من أجل الحصول على أرباح كبيرة”، مضيفاً “إنهم يسعون جاهدين لاستغلال القارة من دون اعتبار للأشخاص الذين يعيشون هناك والمخاطر البيئية وغيرها”. وأشار الرئيس الروسي إلى أنه ليس فقط أوروبا الغربية والولايات المتحدة والصين تهتم بمشاريع مشتركة مع الدول الأفريقية، مؤكداً أن أفريقيا “قارة الفرص، التي تجذب تركيا والهند ودول الخليج وإسرائيل وغيرها من البلدان المتقدمة”، لافتاً إلى اتفاقات عسكرية تربط روسيا مع 30 بلداً أفريقياً.

وفي توظيف مباشر للعملية العسكرية الروسية في سورية، شدد بوتين على أنه “يجب المحافظة على الاستقلال والسيادة، بما في ذلك من التنظيمات المتطرفة والإرهابية”، مشيراً إلى أن “هناك حافزاً إضافياً للتعاون مع روسيا التي تخوض تجربة غنية في محاربة الإرهاب، بما في ذلك في سورية”، وخلص إلى أن موسكو مستعدة للتعاون مع أفريقيا في محاربة الإرهاب والجريمة وتجارة المخدرات والهجرة، وأن “أجندة موسكو الأفريقية موجّهة نحو المستقبل ولا تقبل الألعاب الجيوسياسية”.

ويبدو أن موسكو قررت تكرار تجارب القوى العظمى الأخرى بعدما كانت مترددة، فالصين عقدت مؤتمرات قمة مع القادة الأفارقة منذ العام 2000. وفي عام 2018، وقّعت في منتدى التعاون الصيني الأفريقي نحو 150 اتفاقية تعاون، وانضمت 28 دولة أخرى في المنطقة إلى المشروع الصيني “الحزام والطريق”.
وفي العام الماضي، وفي تصريحات أثناء جولة نادرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على عدد من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، اقترح لافروف على أديس أبابا تعاوناً بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوراسي، والتركيز حالياً على إنشاء مناطق اقتصادية خاصة لجذب الاستثمارات وزيادة حجم التبادل التجاري، بدلاً من تشكيل مجلس “روسيا أفريقيا”، كما هو الحال في الآليات المعتمدة مع الاتحاد الأفريقي من الصين والهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا.

السلاح والأمن
وفي مؤشر إلى أهم المنتجات التي يمكن أن تقدّمها موسكو للقارة السمراء، نظّمت شركة “روس ابرون إيكسبورت” المعنية بتجارة السلاح معرضاً ضخماً للمنتجات العسكرية الروسية روجّت فيه لأنظمة الدفاع الجوي المختلفة، وبعض أصناف الأسلحة ومحطات الرادار، وعرضت قرب مدخل المركز الإعلامي للقمة طائرة “ميغ 35” الحديثة. وفي تصريحات قبل القمة، قال المدير العام للشركة ألكسندر مخييف “نحن نتفهم جيداً احتياجات شركائنا وأصدقائنا ونقدّر تقديراً كبيراً رغبتهم في جعل أفريقيا منطقة آمنة. أنا متأكد من أن المنتجات الروسية الصنع التي تم اختبارها في ظروف قتال حقيقية تتوافق مائة في المائة مع هذه الأهداف”، لافتاً إلى أن الشركة جاهزة لتنفيذ “عدد من المشاريع المهمة” في القارة ولذلك تنظر إلى هذا العام على أنه “عام أفريقيا لنظام التعاون العسكري التقني الروسي”.

وتستأثر روسيا تاريخياً بحصة وازنة في سوق السلاح في أفريقيا، وتشير وثائق هيئة التعاون العسكري إلى أن 20 بلداً أفريقياً كانت تعتمد في تسليحها على الاتحاد السوفييتي، وأن حجم الصادرات بين عامي 1984 و1991 تجاوزت 17.2 مليار دولار. وحسب شركة “روس ابرون إيكسبورت”، حلّت روسيا في المرتبة الأولى لصادرات السلاح إلى بلدان جنوب الصحراء بين 2011 و2015 بحصة 30 في المائة من حاجة هذه البلدان.

صادرات السلاح الروسي إلى أفريقيا بين 2000 و2015 بلغت 12 مليار دولار

وأفاد معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام بأن صادرات السلاح الروسي إلى أفريقيا ما بين 2000 و2015 بلغت 12 مليار دولار ما يشكّل نحو 11 في المائة من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية. وتأمل روسيا في زيادة صادرات المروحيات والطائرات والصواريخ والدبابات بعد حقل التجارب السوري، علماً أن معظم التعاون العسكري حالياً يعتمد على ذخائر الأسلحة القديمة، وإعادة تحديثها، إضافة إلى الآليات والمركبات العسكرية. وذكرت إحصاءات رسمية روسية أن حجم الطلبيات الأفريقية على الأسلحة الروسية وصل إلى 20.4 مليار دولار في 2018.

وفي حواره الأخير مع “تاس”، ذكر بوتين أن نحو 2500 عسكري أفريقي يتدربون في الكليات العسكرية الروسية حالياً. ومنذ مطلع العام الماضي، تُقدّم روسيا أسلحة للجيش في جمهورية أفريقيا الوسطى بعد حصولها على تخويل من الأمم المتحدة للقيام بذلك، فيما توفر الحماية الأمنية للرئيس فوستين أرشانج تواديرا الذي يعتمد على مستشار أمني روسي، كما أرسلت في العام 2018 خمسة ضباط عسكريين و170 مدنياً بصفة “مدربين” للقوات المسلحة في أفريقيا الوسطى، على الرغم من أن هذه القوات تتلقى تدريباً من قبل الاتحاد الأوروبي.
كما ترسل روسيا أسلحة إلى الكاميرون لدعمها في حربها ضد جماعة “بوكو حرام” المتطرفة، ووقّعت عقود شراكات عسكرية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوركينا فاسو وأوغندا وأنغولا.

الاقتصاد
نتيجة زيادة مصالح شركات روسيا العابرة للقارات، تراهن موسكو على رفع حصتها في مشاريع البنية التحتية، ولكن عينها تبقى على التعاون في مجال النفط والغاز والطاقة النووية، والتنقيب عن المواد الخام واستغلالها، مثل مناجم الأحجار الثمينة والذهب، إضافة إلى الألمنيوم، إذ تنشط منذ سنوات عدة شركات روسية في هذه المجالات في غرب ووسط أفريقيا، إضافة إلى جنوب أفريقيا، وأخيراً في السودان ومصر.
وتحظى ثلاث شركات روسية عملاقة بنفوذ كبير في السوق الأفريقية، هي “روسنفت” النفطية و”روس آتوم”، و”وروس أبورون ايكسبورت” المختصة بتوريد الأسلحة. والآن، تحتل هذه الشركات المملوكة للدولة الروسية مواقع قوية في شمال أفريقيا، لكنها تسعى للتوسع في الدول الأفريقية الأخرى. واتفقت “روس آتوم” على بناء محطة للطاقة النووية في نيجيريا، والتعاون مع السودان والكونغو وإثيوبيا، وتموّل روسيا مشروع الضبعة النووي في مصر بقيمة 25 مليار دولار.

وعلى الرغم من نمو العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأفريقيا باضطراد في السنوات الأخيرة، فإنها تبقى متواضعة مقارنة بعلاقات أفريقيا مع الصين والبلدان الغربية وحتى الهند أو تركيا. وحسب الإحصاءات الروسية، بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2017 مع أفريقيا 14.5 مليار دولار بزيادة 3.4 مليارات عن 2015، مقارنة بنحو 220 ملياراً، و100 مليار دولار هي حجم تجارة أفريقيا مع الصين والولايات المتحدة على التوالي.
ولا تعكس العلاقات الحالية الإمكانات والروابط التاريخية، فالاتحاد السوفييتي كان يرتبط باتفاقات صداقة وتعاون مع عشرات البلدان الأفريقية التي ساعدها في فترة الاستقلال في بناء مئات المؤسسات الاقتصادية الحيوية، وساهم في إعداد عشرات ألوف الكوادر العلمية. وتأمل روسيا في حدوث اختراقات جدية في علاقاتها مع بلدان جنوب الصحراء، لكن الواقع يكشف أن مصر والجزائر والمغرب تستأثر بأكثر من ثلثي تجارة روسيا مع القارة السمراء.

الديون
قامت روسيا بشطب أكثر من 20 مليار دولار أميركي من الديون على الدول الأفريقية في العقدين الأخيرين

في العقدين الأخيرين استخدمت روسيا ورقة ديون الدول الأفريقية المتراكمة منذ عهد الاتحاد السوفييتي في تعزيز علاقاتها مع هذه الدول، إذ قامت بشطب أكثر من 20 مليار دولار أميركي من الديون، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مايو/أيار 2008، خلال حفل استقبال أقيم في موسكو بمناسبة “يوم أفريقيا”.
كما شطبت روسيا ديوناً سيادية لدول عديدة خلال 2017 تصل قيمتها إلى 140.2 مليار دولار، منها ديون دول أفريقية، كالجزائر بقيمة 4.7 مليارات دولار، و9.6 مليارات دولار لإثيوبيا. وصرح مسؤولون روس بأن عملية شطب الديون هذه، تأتي في إطار اتفاق يمنح موسكو امتيازات في مشاريع اقتصادية مستقبلية في هذه البلدان، تطاول مجالات عدة مثل البناء والنفط والغاز، والتعدين وصفقات الأسلحة والاستثمارات وغيرها.

التنافس على أفريقيا
ومن الواضح أن روسيا تسعى لعلاقات مع أفريقيا وفق قواعد جديدة لا تنطلق من محددات أيديولوجية، بل على أساس المنفعة المشتركة، ومصالح شركاتها، حتى لا تضطر إلى شطب ديون على غرار شطب أكثر من 36 مليار دولار من ديون الاتحاد السوفييتي السابق على أفريقيا، وتنظر إلى القارة السمراء كسوق لأسلحتها، ومصدر لزيادة أرباح شركاتها العاملة في مجال الطاقة والخامات.
وفي العهد السوفييتي، حافظت موسكو على وجودها القوي في أفريقيا، كجزء من الحرب الأيديولوجية ضد الغرب، إذ دعمت حركات تحررية أفريقية وأرسلت عشرات آلاف المستشارين إلى الدول التي انتهى الحكم الاستعماري فيها. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي والمشاكل الاقتصادية والنزاعات الداخلية التي شهدتها روسيا خلال التسعينيات، دفعت موسكو إلى التخلي عن مشاريعها الأفريقية، وإغلاق عشرات السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية.

وأوضحت دكتورة العلوم التاريخية في مدرسة الاقتصاد العليا الروسية إيرينا فيلاتوفا، أن “روسيا لا تملك استراتيجية على المدى البعيد في ما يخص التعامل مع أفريقيا”، مشيرة في حوار مع صحيفة “كوميرسانت” إلى أنه “لم يتبقَ شيء من مساعدتنا العسكرية، ولم يتبقَ شيء من مساعدتنا الاقتصادية”، لتخلص إلى أنه “إذا اعتبرنا ما تبقّى نجاحاً، فهذا يعني أن السياسة الأيديولوجية فقط في أفريقيا كانت ناجحة”.
وتسبّب نقص التمويل وإغلاق العديد من السفارات والقنصليات الروسية في القارة السمراء، وتوقّف برامج المساعدات، بانخفاض مستوى العلاقات بشكل كبير، وقبل نحو عقد، بدأ الكرملين بإعادة بناء شبكاته القديمة والعودة بشكل تدريجي إلى أفريقيا.

وتنفي روسيا أن تكون مخططاتها للتوسع في أفريقيا تنطلق من مبدأ المنافسة مع الولايات المتحدة، أو الصين. وعشية القمة، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين: “بالنسبة للمنافسة في أفريقيا، فإن الأمر لا يتعلق بخطط روسية للمنافسة، بل يتعلق بالتعاون المتبادل المنفعة. لطالما كانت روسيا حاضرة في أفريقيا؛ قهي قارة مهمة للغاية. لدى موسكو ما تقدّمه للدول الأفريقية فيما يتعلق بالتعاون متبادل المنفعة”.
وأشار البروفسور ديمتري بوندارينكو من الأكاديمية الروسية للعلوم، في تصريحات صحافية، إلى أنه “منذ العام 2014 وضم شبه جزيرة القرم، تنخرط روسيا في مواجهة مع الغرب وتظهر بوضوح رغبتها في أن تستعيد مكانتها كقوة عالمية، ولذلك لا يمكنها تجاهل هذا الجزء من العالم”، موضحاً أن موسكو مهتمة بتحقيق “تقدّم سياسي” أكثر من اهتمامها بالمكاسب الاقتصادية، نظراً لأنها لا تستطيع تقديم الكثير في هذا المجال.

الإيجابيات الروسية
تنظر غالبية الدول الأفريقية، إلى مسألة تحسين العلاقات مع روسيا، باعتباره أمراً جذاباً يمكن أن يساعدها في استغلال ورقة المنافسة مع أوروبا والصين، ويمكّنها من الحصول على قنوات استثمار وتنمية جديدة و”دعم بلد قوي في الساحة السياسية الدولية” وفق رأي الخبير السياسي يفغيني كوريندياسوف، الذي شغل منصب سفير الاتحاد السوفييتي وروسيا في عدة دول أفريقية.

كما يرى خبراء أن روسيا لا ترتبط بأذهان الأفارقة بالإرث البغيض الذي تركه الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، وهو أمر قد يعد عامل جذب بالنسبة للدول الأفريقية التي تلقّى العديد من كبار مسؤوليها تعليمهم في الاتحاد السوفييتي. وأوضح الأكاديمي بوندارينكو أنه “في السابق، لم يكن أمام الدول التي لم يرغب الاتحاد الأوروبي في التعاون معها على غرار السودان وزيمبابوي خيارات سوى الالتفات إلى الصين” لكن “روسيا تقدّم نفسها الآن كبديل واضح”، وبالتالي، بإمكان هذا الوضع الجديد أن “يغيّر المنظومة الجيوسياسية في القارة بشكل ملموس”.
تفتقر موسكو إلى وجود خطة استراتيجية للتعامل مع القارة

كما يرى مراقبون أن أسلوب تعامل روسيا مع قضايا حقوق الإنسان، ونظرتها للانتهاكات في الدول الأفريقية على أنها “شأن داخلي”، تُعدّ عامل جذب إضافي نحو موسكو، مقارنة بواشنطن التي تفرض بين الحين والآخر عقوبات على دول أفريقية وتتجنّب التعاون معها اقتصادياً، أو بيع أسلحة لها.
ومن المؤكد أن روسيا تأمل في بناء علاقة مؤثرة مع الزعماء الأفارقة، لكنها تفتقر إلى وجود خطة استراتيجية للتعامل مع القارة. وقال أستاذ الدراسات الشرقية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية أندريه إميليانوف، في تصريح صحافي: “في الواقع، تفتقر روسيا حالياً إلى استراتيجية للسياسة الخارجية في أفريقيا. هناك مفهوم للسياسة الخارجية الأفريقية للاستخدام الرسمي، ولكن هذه كلمات شائعة، تمت كتابتها بشكل أساسي للوزارات الداخلية”. وأشار إلى أن روسيا “لا تعرف ما تريده من القارة الأفريقية وماهية اهتماماتنا الوطنية الآنية أو على المدى القصير ولا بالنسبة للوضع الظرفي، كما على المدى الطويل 5 إلى 10 إلى 50 عاماً المقبلة، فيما شدد الأكاديمي بوندارينكو في تعليق لصحيفة “كوميرسانت” على “ضرورة صوغ استراتيجية واضحة من القيادة السياسية أولاً حتى يستطيع الخبراء وضع تصوراتهم”، وأشار إلى أنه “من الجيد أن يتم في القمة صياغة رؤية استراتيجية على الأقل في التقارب الأول أو على الأقل تحديد مصالحنا الوطنية”.

العربي الجديد