تحقيقات وتقارير

تجربة في تونس يجب ألا تغيب عن الخرطوم

يجمعُ بين السودان والجزائر والعراق ولبنان، أنَّها الدول العربية الأربع التي تعرضتْ هذه السنة للموجة الثانية من موجات «الربيع العربي». فالموجةُ الأولى منه كانت قد غمرت خمسَ دول عربية أخرى في 2011، هي تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن. وكلنا يذكر جيداً ما حدث على طول المسافة الزمنية الواقعة من ذلك العام إلى اليوم، وكيف أن بعض الدول الخمس قد نجا من تداعيات «الربيع» أو كاد، بينما لا يزال البعض الآخر يصارع في سبيل البقاء!

ولكن السودان يتميز عن دول الموجة الثانية الأربع، بأنه الدولة الوحيدة حتى الآن التي نجت من أعراض هذه الموجة أو كادت، بينما الدول الثلاث الباقية تجاهد في طريق البحث عن مرفأ آمن ترسو عليه، وهي تفعل ذلك لعلها تتفادى رياحاً تبدو عاصفة وهي تهبُّ بلا توقف!

ولأنَّ الطريق أمام السودان لا يزال طويلاً، ولأنَّ الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، قد لخَّص الأمر عندما قال مؤخراً، إن البلد موارده كبيرة، وإن توظيفها الصحيح يغنيه عن أي مساعدات خارجية يتلقاها في الوقت الحالي. فالحكومة في الخرطوم في حاجة إلى أن تتخفَّف وهي طريقها إلى هذا الهدف الذي حدده حمدوك، من أعباء لا لزوم لها، ومن أثقال لا مبرر وراءها!

وحين قرأت خبراً نشرته «الشرق الأوسط» في صفحتها الأولى قبل أيام، عن مشروع قرار موجود أمام مجلسي السيادة والوزراء في العاصمة السودانية، لحل حزب «المؤتمر الوطني» الذي حكم عمر البشير تحت مظلته 30 عاماً، فإنني تخوفت من أن يكون قرار كهذا عائقاً على طريق ذهاب الإخوة في السودان إلى المستقبل!

ولا يعود التخوف من جانبي إلى حرص على وجود هذا الحزب بالذات في الحياة السياسية السودانية، ولا إلى تمسك بحضوره بين سائر الأحزاب، ولا إلى تفضيله على سواه من التنظيمات السياسية، ولا إلى شيء من هذا كله أبداً، فالحصيلة التي تركها من ورائه في حياة السودانيين هي صفر من النوع الكبير، ولا تشجع بالتالي على وجود له ولا على حضور!

أقول هذا الكلام وفي ذهني تجربتان سياسيتان شهيرتان: إحداهما كانت في القاهرة بعد تخلي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن الحكم، والثانية كانت في تونس بعد رحيل الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي. فكلتا التجربتين أحق بالتأمل والدرس في هذا السياق!

في التجربة الأولى كان مبارك يحكم من خلال تنظيم سياسي توارثه عن السادات، وكان هذا التنظيم هو «الحزب الوطني الديمقراطي»، وكان بقاء الرئيس الأسبق في الحكم على مدى ثلاثين عاماً راجعاً إلى أسباب كثيرة، ولكنَّ سبباً منها كان يعود إلى وجود ذلك الحزب، ثم إلى سيطرته على المشهد السياسي، وقدرته على هندسة كل انتخابات لصالح بقائه متفوقاً على ما عداه من أحزاب، ولم يكن أحد يكاد يتصور حياة سياسية في البلد دون وجود «الحزب الوطني» في صدارة المشهد!

وعندما هبت رياح الربيع، فإنها أخذت نظام مبارك الحاكم في طريقها، وتخلى الرجل طواعية عن السلطة، وبقي الحزب من بعده أياماً، وما لبث حتى توارى بقرار أخفاه من الوجود!

وكان القرار خطأ، تمنى كثيرون في القاهرة بعدها لو أنه لم يصدر، ليس عن حب في الحزب المنحل، ولا عن رغبة في إبقائه، ولكن لسببين اثنين: أحدهما أن اختفاءه بالطريقة التي اختفى بها، قد أخلى الساحة إلى حد كبير لجماعة «الإخوان»، التي لما جرت انتخابات برلمانية فازت فيها بسهولة شديدة، وبما يشبه الاكتساح، وقد كان وجوده كحزب كفيلاً بالحد من شهية الجماعة التي انفتحت على الحكم، كما لم تنفتح شهية لجماعة مثلها من قبل!

والسبب الثاني أن الأحزاب من هذا الوزن تختفي في العادة، أو تتراجع على الأقل، بإرادة الجماهير التي تنصرف عنها، وليس بقرارات فوقية تتعقبها إلى أن تخنقها وتقضي عليها!

ولو جرت الانتخابات التي جاءت بـ«الإخوان»، في وجود «الحزب الوطني»، لكان قد تحول من حزب اعتاد على تكون الأغلبية للحكم في صفوفه، إلى حزب من أحزاب الأقلية، أو في أقل القليل كان سينتقل من كراسي الحكم إلى مقاعد المعارضة، وكان هذا كافياً لإقدامه على إصلاح نفسه بنفسه، أملاً في العودة للحكم من جديد، وكان هذا أيضاً في صالح الحياة السياسية على المدى الطويل!

ولكن تونس عرفت تجربة مختلفة، فالرئيس الباجي كان قد أسس حزب «نداء تونس»، وكان قد خاض من خلاله انتخابات البرلمان والرئاسة في 2014، ففاز في الاستحقاقين وصار رئيساً، ثم صار شريكاً في الحكومة مع حزب «النهضة» الإسلامي الذي يقوده راشد الغنوشي!

وبقي الباجي يحكم من خلال حزبه على مستويين: مستوى قصر قرطاج؛ حيث مكتب الرئيس، ومستوى قصر القصبة؛ حيث مكتب رئيس الحكومة، ودام هذا الوضع خمس سنوات إلا أسابيع قليلة!

فقبل أسابيع من انتخابات البرلمان والرئاسة التي جرت الشهر الماضي، رحل الرئيس عن الدنيا، وكان قبلها بشهور قد أعلن عزمه عدم خوض السباق الرئاسي لفترة رئاسية ثانية، ولكن هذا لم يكن يعني أن حزبه لن يخوض الاستحقاقين الجديدين معاً!

وقد خاضهما الحزب بالفعل، ولكن في غياب الرجل، وكان ترتيبه مفاجأة بامتياز في الحالتين، ففي سباق الرئاسة لم يتقدم بمرشح، ولكنه أعلن تأييد المرشح عبد الكريم الزبيدي، الذي كان وزيراً للدفاع مع السبسي، والذي كان آخر مسؤول التقى الرئيس الراحل في فترة المرض!

وكانت المفاجأة عند إعلان النتيجة أن حظ الزبيدي فيها تراجع بشكل لافت، فترتيبه كان الخامس، ولم يشفع له تأييد «نداء تونس» للذهاب حتى إلى جولة الإعادة، فلقد خرج منذ الجولة الأولى، ولم يحصد عدداً ذا قيمة من الأصوات، ولا حصل على كتلة تصويتية تقول إن حزب الرئيس كان يؤيده!

ولم يختلف حظ الحزب في انتخابات البرلمان كثيراً عن حظه في انتخابات الرئاسة؛ لأن نصيبه في مقاعد البرلمان الجديد لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، ولذلك غاب تماماً عن أحاديث التحالفات الحزبية التي تدور لتشكيل حكومة جديدة يترقبها التونسيون!

ولم يزعم أحد من قياداته أن الدولة ضيقت عليه في شيء، أو أن أجهزتها قد فرضت عليه حصاراً في الحركة وفي اللقاء مع الناخبين. وقد بقي تراجعه السياسي علامة في تاريخ الأحزاب التي يتقلص حضورها السياسي، بفعل انصراف الناخب عنها أكثر منها بفعل أي شيء آخر! والتجربتان: تجربة «الحزب الوطني» في القاهرة، وتجربة حزب «النداء» في تونس، يجب ألا تغيبا عن بال الذين يفكرون في حل حزب البشير في الخرطوم. فأي انتخابات مقبلة هناك سوف تتكفل وحدها بوضعه في حجمه الحقيقي بين الجماهير، دون حاجة إلى قرار حل قد يجلب له تعاطف قطاع من الناخبين!

الشرق الأوسط