كنا نشرب شاي انا و الاخ لبيب عبدالرحمن ، أمام المسجد الكبير من الناحية الشمالية ، كنا نتناقش في موضوع ما ، أخونا لبيب اخد أول شفطة من الشاي و في التانية فجأة بدون مقدمات سألني :
إنت يا سالم عمارة أراك دي لسا مقفولة الزمن دا كله ؟؟
رديت ليه : مقفولة لكن في جماعة شغالين فيها تعبئة و تغليف الشاي الكيني ، و الشاي البسوههو سمح شديد ، السلطات قبضتهم قبل أيام لانهم شغالين بصورة غير رسمية .
لبيب قال لي : بالله !!! ، الغريبة انا ما سمعت بالكلام ده .
قلت ليهو : الكلام دا اتنشر في الجرائد و بقى قضية رأي عام ، ناس واقفة مع تعبئة الشاي لأنه عشوائي و غير مسجل ، و ناس شايفة انه الشاي بتاعهم سمح شديد لذا على أصحاب الشغل ترتيب أوضاعهم و القيام بالأعمال الرسمية البحتاج ليها الشغل و يخلوهم يشتغلوا ، لأن إنتاجهم من الشاي رهيب
قلت ليه : انت حتقيف مع ياتو طرف من الاتنين ؟
بدون تردد رد لي طبعا انا في رأيي يخلوهم يشتغلوا . ط فجأة انتبه للضحكة التي كنت اكتمها ، و عرف انه الموضوع مجرد سواقة تثبت انه وقع ضحية لل (فونقا) .
القصة التانية حصلت لي مع الاخوان صلاح قلاديمة و الاخ ابراهيم سيد احمد ، كنا بنشرب الشاي عندي في البيت و كنا بنتناقش في موضوع ما ، انا شفطت شفطتين من الشاي و سرحت ، قلت ليهم انتو عارفين انا بعد سنتين بالكثير داير استقر في السودان ، عندنا أرض زراعية في الحلة حأعملها مزرعة اربي فيها أبقار و اغنام . لم انتبه إلا على ضحكاتهم العالية و قول ابراهيم : اومك فونقا ? .
طبعا اي واحد ما بيعرف ثقافة (الفونقا) عند الفولان بشوف القصتين ديل عادية جدا ولا ترقى انه الزول يحكيها ، يعني بشوفها قصص وهمية. لكن انا متأكد في ناس الان بيضحكوا أو يبتسموا ع الاقل لو عندهم معرفة بهذه الثقافة عند قراءة هذه القصص .
الفونقا عند الفلان يدور حول تذكر شئ أثناء شرب الشاي أو القهوة أو أثناء الاكل عند البعض ، وذلك ك أن تسأل عن شخص ما فجأة بمجرد أن تبدأ في شرب الشاي أو القهوة . أو أن تتذكر و تحكي حادثة حدثت منذ فترة بعيدة ، أو أن يكون الموضوع الذي ذكرته ليست له علاقة بموضوع الحوار أثناء الجلسة . ان أطلقت الفونقا يضحك عليك الجميع ، و احيانا عندما تسأل عن شخص ما ، أو عن موضوع ما ، تتم سواقتك و جرجرتك في الموضوع لتكتشف لوحدك انك وقعت ضحية للفونقا كما فعلت انا مع الاخ لبيب في القصة الأولى ، فمثلا أثناء أكلك لعصيدة كاربة تسأل فجأة عن شخص معين ، و ببديهة سريعة يرد عليك أحدهم و بكل جدية : يأخي الزول دا في المنطقة الفلانية عمل ليه مطعم عصايد ، ماشاء الله شغال شغل جد و الناس واقفة ليهو بالصف من جودة العصيدة البسويها ، أن اكتشفت الخدعة بأنك وقعت ضحية ستضحك و توقف الأسئلة عن الشخص ، و أن لم تنتبه ستواصل و تسأل عن أحواله الآن ، و ستتواصل جرجرتك بانه اشترى عربية و بنى بيت و اتزوج و عمل مطعم تاني و تالت? ، دا كله طبعا من مطعم العصيدة ? ، في النهاية تكتشف انك وقعت ضحية للفونقا فيتم الضحك عليك ، أو أن تدفع غرامة ، الرد على أسئلتك تعتمد على سرعة بديهة الشخص الذي يرد عليك فيؤلف قصة في نفس الوقت يكون محورها الشئ أو الموضوع الذي سألت عنه ، و كل ما طالت القصة بدون ان تكتشف انك وقعت ضحية للفونقا كلما زاد التشويق و بالتالي مدى الضحك و السخرية منك ، و ربما زيادة قيمة الغرامة التي تدفعها .
فعند البعض اطلاق الفونقا يلزم دفع غرامة رمزية فإن كان ذلك أثناء الاكل يقوم بشراء مياه غازية لكل الموجودين ، و أن تم الفونقا في مطعم عام أو في القهوة او السوق ، فانه يقوم بدفع الحساب بكامله نيابة عن الآخرين . اما ان كان الأمر في البيت فيقوم الشخص الذي أطلق الفونقا بشراء سكر للأسرة أو للمرأة التي صنعت الشاي …
التركيز على الفونقا دائما في مناسبات الافراح و العزائم و التجمعات الاجتماعية بين الأهل و الأصدقاء و احيانا في نطاق ضيق يتم حتى في الأتراح . في الأرياف تتنافس الفتيات في تجويد صناعة الشاي و القهوة في المناسبات ، و ينتظرن الأخبار التي ترد من الخارج ، و عدد الرجال أو الشباب الذين يطلقون الفونقا ، مما يوكد مهارة الفتاة التي طبخت الاكل أو الشاي أو القهوة ، و احيانا يكون سببا في إقبال الخُطاب على الفتاة التي يدير الشاي أو الاكل الذي تصنعه رؤس الرجال و يجعلهم يطلقون الفونقا ? . احيانا يكون البعض حريصا على إلا يطلق الفونقا لكن للأسف ينسون بعض امتعتهم كالعمامة أو الطاقية أو النظارة أو السبحة أو أي شئ محمول خفيف ، و احيانا ينسى بعضهم هاتفه ، و هذه دلالة على ارتفاع نسبة الفونقا عند هؤلاء مما جعلهم ينسون امتعتهم أو مقتنياتهم و الغرامة في هذه الحالة أكبر من شراء سكر أو مياه غازية ، و حينها سينتشر الخبر عند كل معارفه و أهله و أصدقاءه ، لذا يتنازل الكثيرون عن مقتنياتهم و لا يسألون عنها ، و أن تم الاتصال بهم و اخبارهم بنسيانهم لهذه المقتنيات فإنهم ينكرونها حطب ? خوفا من الفضيحة و شيل الحال, فمثلا أن تم نسيان عمة في أحدى الجلسات أو في ديوان ما ، فيتم عرض هذه العمة أو الطاقية أو الساعة في هذا المجلس فترة طويلة من الزمن ، و يكون كل من حضر تلك الجلسة السالفة متهمون بملكيتهم لهذه العمامة أو الطاقية أو النظارة إلى أن يتم معرفة صاحبها الحقيقي ، إلا الموبايل طبعا لا يمكن إنكاره لمن ينساه لسهولة معرفة الرقم و بالتالي صاحب الفونقا ? .. و احيان كثيرة لا يظهر اصحابها ابدا .
لم أجد مرجعا لربط الفونقا بسلوك الفولان الا ترفعهم و عفتهم تجاه الاكل أو الشرب ، بل تجاه الشهوات بصورة عامة ، ففي ثقافتهم من العيب أن تظهر الشراهة و النهم تجاه الاكل أو الشرب ، فإن إطلاقك للفونقا يعني اسرافك في الاكل أو الشرب لدرجة الاستمتاع به و انك نسيت نفسك و أصبحت تتحدث أو تتذكر اشياء لا علاقة لها بموضوع الجلسة أو التجمع ، و المبالغة في حب الاكل أو أن كنت تأكل بنهم و بدون ترفع فهذا يخرجك من ( البلاكو) أو الفولانية ، فيقولون لك : (انجاما بنا بلو) ، و معناها تأكل و كأنك غير فولاني ، لأنهم لهم طريقتهم الخاصة في الاكل كما أسلفت ، يأكلون و كأنهم مجبرون عليه ? ان جاءك فولاني من الريف أو البادية فإياك أن تبادره بسوال هل احضر لك اكل ؟ ، أو اتقوا له داير تأكل ؟ ، أو أن تسأله هل فطرت أو تغديت ؟،
فالاجابة في كل الأحوال سيقول لك أنه أفطر أو تغدى و انه شبعان ، حتى و لو كان الجوع قاتله ، فالعيب كل العيب أن يقول لك أنه جائع أو يريد الاكل أو أن يظهر لك ذلك بأي صورة من الصور و الطريقة المثلى التي ينادون بعضهم البعض الاكل ( ور ميمو) ? ، تعال و تذوق من هذا الاكل ، ولا يقولون لبعضهم البعض ( ور نجاموا) تعال لتأكل ، فهذا معناه انه صدرت منه حركة أو تصرف اوحت لك بأنه جائع و هذا عيب . الأمهات عندما يذهبن إلى الولائم فإنهن يطعمن الأطفال قبل أن يذهبن بهم ، و ذلك لصعوبة التحكم في تصرفاتهم ، فلا يكون امام الطفل سوى الامتناع عن الاكل أو الاكل بدون نهم لأنه يكون قد شبع في البيت ، و تطمئن الام بأن طفل لن يكون سببا في جلب الحرج لها و للاسرة و هو الإقبال على الاكل بشراهة و نهم . زجر الطفل أثناء الاكل عند الملاحظة بأنه يأكل بشراهة هي أولى خطوات تدريب الفولاني على عدم الإقبال على الاكل أو الشرب. فتكون جملة ( انجاما بناا بلو ) حاضرة باستمرار لتنبيه الطفل بانه (يأكل و كأنه غير فولاني) و هذا يعني أن يخفض درجات الشراهة و النهم التي يأكل بها ، و بمرور الوقت و عندما يشب يكون أكثر تحكما في شهواته بصورة عامة ، لكنه مهما كان حريصا لا بد أن يقع ضحية للفونقا يوما ما و يكون مصدرا لسخرية الأصدقاء و المعارف .? .
النساء لا يأكلن ابدا امام الرجال ، و المرأة لا تأكل امام نسيبها ابدا و كذلك الزوج لا يأكل امام نسيبته ، فإن حضرت و هو يأكل فإنه يتوقف عن الاكل ، و كذلك النسبية لا تأكل امام زوج ابنتها .
المرأة لا تأكل ولا تشرب خارج البيت حتى تعود ، لا يأكلون في الطرقات أثناء المشي و الكثيرين حتى الرجال كانو لا يأكلون خارج المنزل ، رافقت والدي عشرات السنوات و لم أراه يأكل في مطعم ابدا …
الفولان الرعاة يبالغون في ذلك و يدربون حتى ابقارهم بألا تأكل أو تشرب إلا بأشارة معينة من الراعي و يمكنه إيقافها من الاكل أيضا بإصدار صوت معين أو إشارة محددة لتتوقف جميعها عن الاكل أو الشرب ، طبعا يعتقد البعض أن هذا الكلام و القصص فيها نوع من
المبالغة ، لكنك ستصدقها أن عشت معهم في هذه البوادي . لأنك يمكن أن ترى الأبقار تشق المزارع لكنها لا تأكل منها ابدا ما لم يأمرها الراعي الذي يقودها .
بعض القبائل و الكثير من الأصدقاء الذين تعايشوا مع الفولان أصبحوا يعرفون ثقافة الفونقا و يهتمون بها ويتعاملون بها خاصة في شرق السودان و في النيل الأزرق فأصبحوا يترصدون الفولان أكثر مما يفعلون بعضهم ببعض ، و صديقي ابراهيم سيد احمد رغم انه من العبابدة من طرف و شايقي من الطرف الاخر إلا أنه لا يفوت لك اي فونقا تطلقها و يكون دائما بالمرصاد . و كذلك الكثير من الأصدقاء و المعارف .
اهلنا فولان تلس في جنوب دارفور يسمونها (سينتي ) و عند الفولان في بقية انحاء السودان تسمى فونقا . يمارسها الفولان في معظم دول وسط وشرق أفريقيا ، لكنها غير موجودة عند الفولان في أقصى الغرب ك غينيا و ليبيريا و غيرها من الدول الواقعة على المحيط ، قابلت أهالي تلك المناطق فوجدت معظمهم لا يعرفها .
( سالم الأمين بشير/ كمبالا نوفمبر ٢٠١٩
