في ذكرى الثورة السودانية .. لا صوت يعلو فوق صوت القصاص
لم تنطفئ النيران المشتعلة في قلب السوداني الصادق سمل الذي فقد ابنه خلال أحداث الثورة السودانية التي انطلقت شرارتها في ديسمبر/كانون الأول 2018، وعلى الرغم من أن الجرح لا يزال عميقا، فإنه على استعداد للعفو عن الجناة.
بدت تدوينات الأب المكلوم بفقدان ابنه عبد الرحمن مليئة بالحزن، لكنها لم تخل من نبرة تصالحية، فالجناة من وجهة نظره ليسوا سوى ضحايا لأفكار تستوجب العلاج بدلا من إراقة مزيد من الدماء.
وعن هذا الأمر يقول الأب “لا بد أن يكون القصاص من الفكر المؤسسي الذي جعل من الكل ضحايا لمعان لا تمت بصلة إلى الحياة الإنسانية في أدنى حالاتها.. القصاص يكمن في الانتقال إلى عدالة مجتمعية تقودها الأخلاق وليس الالتزام الفكري، دينيا كان أم علمانيا”.
وبغض النظر عن وصف الكثيرين لرؤية سمل بالمثالية الفائقة، فإن اللافت كان الارتياح والتجاوب الكبير الذي قوبلت به منشوراته على صفحته في فيسبوك، دون أن تخلو بعض التعليقات من تلميحات مليئة بالعتاب لترويجه لتلك الأفكار.
لكن المؤكد أن الأصوات المطالبة بالقصاص للضحايا هي الأعلى حتى الآن، فالحراك السوداني الذي انطلقت شرارته في مدن الدمازين والفاشر وسنار بخروج طلاب المدارس احتجاجا على ارتفاع أسعار الخبز والمواصلات يومي 12 و13 ديسمبر/كانون الأول 2018، وصل الذروة في مدينتي عطبرة شمالي السودان والقضارف شرقيه يومي 19 و20 من الشهر ذاته.
ومع توالي الاحتجاج الأسبوعي في الخرطوم ومدن أخرى على مدى خمسة أشهر، ارتفع عدد القتلى إلى 85، حسب لجنة الأطباء المركزية.
فض الاعتصام
غير أن فاجعة فض اعتصام القيادة العامة للجيش يوم 3 يونيو/حزيران الماضي والذي تلا تنحية نظام البشير بنحو شهرين، مثلت “الصدمة الكبرى” لكون الحادثة وقعت بعد سقوط النظام، حيث قتل نحو 180 شخصا بحسب منظمة “شهداء ديسمبر”، بينما قالت وزارة الصحة إن العدد 64، لكن حصيلة الضحايا النهائية غير معروفة لا سيما بعد إعلان العثور على عدد من الجثث لاحقا.
ولأن مقاطع الفيديو التي صورت عملية اقتحام محيط الاعتصام أظهرت عناصر تابعة لقوات الشرطة والدعم السريع، فإن أصابع الاتهام توجهت مباشرة إلى القادة العسكريين الذين كانوا السبب في عزل البشير، وهو ما يزيد الأمر تعقيدا.
وبعدما أدرك العسكريون في هرم السلطة فداحة ما جرى والأثر البالغ الذي تركه فض الاعتصام، كان المخرج للتهدئة هو تشكيل لجنة للتحقيق لم تلق أي اعتراف شعبي أو سياسي، بل أشعل إعلان نتائجها احتجاجات واسعة بعدما خلصت إلى أن منفذي العملية -وبينهم ضباط برتب رفيعة- خالفوا التعليمات العليا، وأنهم وضعوا رهن الاحتجاز.
لجان مرفوضة
وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية، قرر النائب العام تكوين لجنة تحقيق في أحداث فض الاعتصام، ثم أعقب ذلك إنشاء رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لجنة ثالثة للتحقيق أوكلت رئاستها للمحامي نبيل أديب.
ولا تشفي هذه اللجان غليل أسر الضحايا، فمواكب العدالة والقصاص ظلت تخرج بين الفينة والأخرى بأعداد ضخمة كان آخرها يوم 3 ديسمبر/كانون الأول الحالي، حيث تسلم مجلس الوزراء والمجلس السيادي والسلطة القضائية مذكرة من أهالي الضحايا طالبت بتشكيل لجنة تحقيق جديدة تضم ممثلين لأسر الشهداء.
وتختص اللجنة بكل شهداء الثورة وليس الذين قضوا في حادثة فض الاعتصام فقط. ودعت المذكرة إلى اعتبار قضية فض الاعتصام جرائم ضد الإنسانية، مع تعيين نيابة متخصصة لضحايا الثورة برئاسة النائب العام، وإنشاء محكمة متخصصة أيضا يتولاها رئيس السلطة القضائية.
محاكم الثورة
ويشكك بشير نوري والد الشاب عدي الذي لقي حتفه بعد إصابته بطلق ناري في الصدر أثناء فض الاعتصام، في لجنة التحقيق المكونة من رئيس الوزراء.
ويقول نوري للجزيرة نت إن الحل يكمن في إنشاء محاكم خاصة تقتص من القتلة، أو أن يرفع النائب العام الحصانة عن المتورطين في قتل ابنه، خاصة أنه وجه الاتهام مباشرة إلى رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح برهان وثلاثة من قادة قوى الحرية والتغيير -تحفّظ عن ذكرهم- للحؤول دون هروبهم خارج البلاد.
ويشير إلى أن اللجنة المشكلة تستغرق وقتا وتصعب متابعتها، أما إذا تولت الأسر رفع دعاوى منفصلة فيمكنهم متابعتها في مراحل التحقيق داخل النيابة العامة والتقاضي أمام المحاكم.
أما عبد السلام والد كشة الذي قُتل أثناء فض الاعتصام، فيرى كذلك ضرورة تكوين نيابة متخصصة تُشكل على أثرها “محاكم الثورة” للقصاص من القتلة.
ويعتقد كشة في حديثه للجزيرة نت أن رفع والد أي قتيل أو أخيه دعوى قضائية منفصلة غير مجدٍ، معتبرا أن “اللجنة التي أنشأها رئيس مجلس الوزراء غير قادرة على أخذ
أولويات الحكومة
ويشير كشة إلى أن مسؤولي الحكومة الانتقالية تقلدوا مناصبهم بفضل الثورة، ويُفترض أن تكون أولى أولويات الحكومة هي “القصاص لمن قُتل أثناء مشاركته في مظاهراتها”.
ويعتبر أن عدم توجيه أي اتهام للمتورطين في أحداث فض الاعتصام يُعدّ تقصيرا من الجهات المناط بها تحقيق العدالة.
ومع انتظار المئات من أسر الضحايا لإجراءات شجاعة من الحكومة بإعلان رفع الحصانة عن العسكريين المسؤولين والمتورطين مباشرة في قتل أبنائهم توطئة لمحاكمتهم، نجحت أسر أخرى في هذه الخطوة حيث تجرى حاليا محاكمة أكثر من 40 شخصا ينتمون إلى جهاز الأمن بعد تورطهم في قتل المعلم أحمد الخير بعد اعتقاله وتعذيبه أثناء الاحتجاجات في منطقة خشم القربة شرقي السودان.
كما رُفعت الحصانة عن أحد ضباط المخابرات متهم بقتل الطالب في كلية الطب بجامعة الرازي التاج محجوب بعد اعتقاله وتعذيبه.
الجزيرة نت