مقالات متنوعة

الجنائية الدولية وسلسلة العصيان

أعاد الرفض الإسرائيلي لإعلان رئيسة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، التي طالبت بفتح تحقيقٍ ضد الممارسات الإسرائيلية على الانتهاكات في قطاع غزة والضفة الغربية، الأذهان إلى تعنَّت رؤساء بعض الدول الأفريقية الذين ظلوا يرفضون التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية حول التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، بحجة عدم توقيع دولهم على ميثاق روما وتفضيلهم لمحكمة أفريقيةٍ خاصة، مما كشف عن تراجع التأييد للمحكمة الجنائية الدولية متنوعاً بين الانسحاب، والاعتراض على قراراتها في ظلِّ عجز التقاضي داخل القارة.

إعلان نواكشوط

لم يكن إعلان بنسودا في ديسمبر (كانون الأول) 2019، بفتح تحقيقٍ ضد الممارسات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، هو الأول من نوعه، فقد جاء في قمة الجامعة العربية التي عقدت بنواكشوط في يوليو (تموز) 2016، بضرورة اتخاذ خطوات ودعم قرار محاكمة الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية على المجازر الفلسطينية.

وهو ما عبَّرت عنه بنسودا بارتياحها بعد تحديد نطاق السلطة القضائية للمحكمة في هذا الشأن “لوجود أساس معقول لمواصلة التحقيق في الوضع في فلسطين”. لكن الرفض الإسرائيلي لقرار التحقيق بدعوى أنَّ المحكمة غير مختصة بالعمل في الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أنَّ الولايات المتحدة “تعارض بحزم” أيّ تحرك للمحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، يفتح الباب للتساؤل عن مدى ما سيحقِّقه عدم التوقيع على اتفاقية روما من مخارج للهروب من التحقيقات حول الانتهاكات، ولنا في الدول الأفريقية أمثلةٌ حيَّة.

العصيان الأفريقي

حين وقّعت 34 دولة أفريقية على اتفاقية روما المؤسِّسة للمحكمة الجنائية الدولية لم تكن تدرك أنَّ قارتها ستكون المنطقة الأكثر تمثيلاً في تشكيل المحكمة الدولية. فمنذ تأسيسها عام 2002 وجَّهت المحكمة الجنائية الدولية تُهماً لثلاثين شخصاً ارتكبوا جرائم في ثماني دول أفريقية هي، الكونغو الديمقراطية، جمهورية أفريقيا الوسطى، أوغندا، السودان، كينيا، ليبيا، ساحل العاج ومالي.

وتختلف مصادر التحقيقات التي فتحت في جمهورية الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى ومالي وأوغندا، التي جاءت بطلبٍ من هذه الدول بوصفها موقِّعة على اتفاقية روما، عن القضايا المتعلقة بدولتي السودان وليبيا، والتي فتحت بطلبٍ من مجلس الأمن الدولي لأنّهما غير موقعتين على الاتفاق.

في مايو (أيار) عام 2013، تبنَّت دول الاتحاد الأفريقي في قمتها المنعقدة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا قراراً بالإجماع يقضي بنقل الملاحقة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا – نجل جومو كينياتا أول رئيس للجمهورية بين عامي 1964 و1978- ونائبه وليام روتو إلى القضاء الكيني، متهمين المحكمة بأنها تمارس نوعاً من المطاردة العنصرية وتستهدف الأفارقة بشكلٍ خاص.

تم هذا القرار من دون تصويت رسمي، وإجماع كل الدول ما عدا بوتسوانا وغامبيا، وهي البلد التي تنتمي إليها المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، والتي تتولى الملاحقات في الملف الكيني.

لم يكن لقرار الاتحاد الأفريقي أي فعالية إلزامية على المحكمة الجنائية الدولية التي تشكل كياناً مستقلاً، ولكن ظهر وقعه السياسي بعدها بأن جاء على أهواء كثير من القادة الأفارقة.

أعلنت ثلاث دول أفريقية انسحابها من الجنائية، وهي بوروندي وجنوب أفريقيا وغامبيا متهمةً المحكمة بالتركيز على قضايا حقوق الإنسان في أفريقيا بدلاً من القارات الأخرى، قبل أن تتراجع الأخيرتان عن قرار الانسحاب.

وبهذا يكون القرار قد اتفق بشكلٍ ما مع نتيجة الاقتراع الذي أجراه الاتحاد الأفريقي منذ عام 2009 بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، إلى حين تهيئة الانسحاب الجماعي.

أعاد الموقف الكيني إلى الذاكرة الأفريقية اتهام المدعى العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو لويس مورينو أوكامبو، الرئيس السوداني السابق عمر البشير بارتكابه جرائم ضد الإنسانية في منطقة دارفور غرب السودان. طلب أوكامبو من المحكمة إصدار الأمر بإلقاء القبض على البشير ووزير الدولة بالداخلية حينها أحمد هارون، وزعيم ميليشيات الجنجويد -التابعة للحكومة والمكونة من قبائل عربية- علي كوشيب، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور، ضد الحركات المتمردة من سكان الإقليم، الذين ينتمون إلى قبائل أفريقية بين الأعوام 2003-2005. وظل البشير لفترةٍ طويلة يتحدى المحكمة الدولية بجولاته المكوكية في المحيطين الأفريقي والعربي، إضافة إلى رفض حكومته المعلن لهذا القرار، حيث رأت أنّ هذه الاتهامات تسيء إلى عملية السلام في المنطقة. كما أتى رفض السودان لقرار المحكمة الجنائية الدولية ووصف القرار بأنّه مسيّس وسيفتح الباب لتدويل قضية دارفور، كما أنّ الاعتراض كتب على أنّ السودان ليس من ضمن الدول الموقعة على بنود ميثاق روما الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية، بالتالي فهي ليست معنية بقراراتها.

التعلُّق بقشة المحكمة الأفريقية

أما الاعتبار الذي يفرض نفسه على وقائع الأشياء، فهو أنَّ أفريقيا القارة المبتلاة بأنظمة حكم ديكتاتورية يستشري فيها الفساد، وقد تتمكن كل دولة فيها من تدجين الأنظمة القانونية والسلطات القضائية داخل حدودها وتمنعها من التعاون مع المحكمة الدولية. كما يمكنها الضغط على المنظمات الإقليمية كمنظمة الاتحاد الأفريقي الذي تتكون عضويته من هؤلاء القادة أنفسهم.

وما يبرِّر تركيز المحكمة على أفريقيا، أنَّ السلطة القضائية للمحكمة محدودة على الدول التي صادقت على معاهدة تأسيسها فقط، ولا تتدخل في دول أخرى إلَّا بموافقة مجلس الأمن الدولي.

وطبيعي أن يتم تسليط الضوء على 34 دولة أفريقية من بين 124 دولة في العالم صادقت على معاهدة تأسيس المحكمة. أما الخلل الواضح الذي يلي هذا التبرير فهو في أنَّ مجلس الأمن استخدم سلطاته لإحالة بعض القضايا المتعلقة بدولٍ ليست أعضاء في المحكمة، مثل السودان وليبيا، لكن دول كبرى مثل أميركا وروسيا والصين لن يستطيع إحالة قضايا ضدها في المحكمة لأنّها تتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وقد استخدمت روسيا والصين الفيتو لمنع إحالة جرائم النظام السوري إلى المحكمة.

نص بروتوكول الاتحاد الأفريقي في مادته (2-2) الذي اُعتمد في عام 2003 على إنشاء محكمة العدل الأفريقية لتكون بمثابة الجهاز القضائي الرئيسي، ولتعمل كمحكمة جنائية إقليمية لتغطي صلاحياتها الجرائم الدولية مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

لكن هذه المحكمة لم تفعّل بسبب الخلافات التي جرت داخل أروقة الاتحاد الأفريقي في ما يتعلَّق، بمن يرأسها ومن يتكلف بالتوقيع على المعاهدات. بعد ذلك قرَّر الاتحاد الأفريقي دمجها مع المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان، وقد كانت الدول الأفريقية تريد محكمةً شكلية تخلصها من ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية. وأما هذا الجسم الضعيف (المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان) فلم تسمح سوى تسع دول أفريقية برفع قضايا ضد حكامها أمامها، إضافة إلى أنَّ الإجراءات تسير ببطءٍ شديد بسبب تراكم القضايا وضعف التمويل.

صحيفة السوداني