رأي ومقالات

النخب السودانية ومواطن البوار

يجب أن يتوقف السودانيون عن محاولتهم التمييز بين العسكريين والمدنيين في حكومة قوى الحرية والتعبير، فالتمييز يجب أن يكون بين الثوريين من السودانيين والمتواطئين الذين أوكلت لهم مهام معينةٌ من جهات مختلفة ومتعدّدة، لن يألوا جهداً في أدائها، حتى لو اقتضى ذلك التنكّب على مبادئهم المزعومة. إذا ما استمعت إلى وزير الثقافة والأعلام، فيصل محمد صالح، منافحاً عن حكومة الهوان هذه، أدركت حجم المؤامرة، وإذا شئت المأساة، فلن يتقدّم واحد من القوميين العرب والبعثيين والشيوعيين باستقالته، معترضاً على إجراءات التطبيع مع إسرائيل، وقد أضاعوا عمر الشعب السوداني لهثاً وراء أيديولوجيات وشعارات جعلت السودان مرتعاً للمجرمين ومأوى للمنحرفين، المتأسلمين منهم والملحدين، يُصَفَّون فيه حساباتهم فيما بينهم، ومع الآخر، وتسببت هذه الحماقات وغيرها في فصل الجنوب، وحرق نواحي الريف السوداني، وتحمل بقية أفراد الشعب السوداني المسغبة والمعاناة من جرّاء الحصار الاقتصادي والسياسي.

النخب المركزية التي احتكرت صنع القرار، في العقود الستة الماضية، لا تملك قرارها، وكثيراً ما تنتظر أوامر تأتيها من رؤسائها في العواصم المشرقية أو المغربية. وها هم ينتقلون من التطرّف إلي الانتهازية، بعد أن حاصرهم الجند، كما الوعي الجماهيري. علماً أن الخيار لم يعد بين شعارين: ممانعة وتطبيع، إنّما الإشكال في الممانعة غير الموضوعية والتطبيع غير المبدئي. تتعامل تركيا مع إسرائيل لكنها تساند القضية الفلسطينية، إيران تعارض إسرائيل بيد أن تصرفاتها تدعم الكيان الصهيوني. وكلاهما يفعل ذلك انطلاقاً من مصالحه، وليس حباً في سواد عيون المستضعفين.

لقد أسدى الرئيس الأميركي، ترامب، للإنسانية، ولشعوب منطقتنا خصوصا، خدمة كبيرة، إذ أزاح الأقنعة وأرانا عمالة “قيادات وطنية” جليةً دونما غبش. الأخطر أنه أظهر بلادة هؤلاء وحرصهم
“لا يفتقر الفريق السياسي القديم إلى الكفاءة المهنية فقط، إنما يفتقر أيضاً إلى الكرامة والكبرياء. وها هم ناس منهم يرتمون في أحضان الصهيونية”
على البقاء في سدة الحكم مهما بلغت الكلفة. بعيداً عن المانوية (ثنائية الشر والخير) والسفسطائية. ما الذي يمكن أن تجنيه النخب المركزية في السودان من الخطوة غير المسبوقة، لقاء رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو، على الأقل في بلادنا المنكوبة؟

ينطلق التحليل في هذه المقالة من فرضية أن قوى الحرية والتغيير (قحت) هي إحدى أدوات الدولة العميقة في السودان، ووسيلتها لتمييع القضايا، إذا لم نقل تصفية مبادئ الثورة وشعاراتها، وأنها كاذبة ومتماهية مع العسكر في كل خطواتهم. وإذ تواجه “قحت” انحساراً في شعبيتها ورفضاً لتوجهاتها، أعني تخبّطها، وانكشافاً لمخططاتها، فإنها تسعى إلى إحداث اختراق في المجال الاقتصادي، عله يعينها على الفكاك من ورطتها السياسية (أو العكس، فالاختراق في المجال السياسي قد يعينها على الفكاك من الورطة الاقتصادية). ورطة “قحت” أخلاقية في المقام الأول، تتمثل في محاولتها استرضاء الثوار، فيما تسعى إلى تنكّب درب الثورة، باستقبالها دهاقنة “الكيزان” (الإسلاميين الحاكمين في النظام المخلوع)، وتباطؤها في تعقب قادتهم الميدانيين. ما الذي يغري قوى الحرية والتغيير (تمثل أحط مراحل الدولة المركزية، وإذا شئت العنصرية) بشعب مثل شعب السودان، ظهرت بسالته ونباهته للعيان؟ لا شيء غير جهلها وغرورها. الأدهي إحساسها وشعورها بحقّها القدسي لتسيير دفة الحكم نحو هاويةٍ قد صرنا على حافّتها.

إن شعباً رفض التبعية، ودفع دمه ثمناً للتحرّر من الوصايتين، الدينية والسياسية، لن يقبلها للآخرين. كم مرة رفضت إسرائيل فرصة للاندماج الحيوي في محيطها المحلي، مخالفة بذلك رؤية آبائها المؤسّسين الذين أرادوا لها (نظريا على الأقل) أن تندمج ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً مع شعوب المنطقة، لكنها رفضت، بكل صلفٍ، كل الصيغ، وآثرت حيل الاستعلاء؟ بعد 60 عاماً لا توجد للكيان الصهيوني أي علاقة عضوية بمحيطه، ما الذي يجعلنا نتعلق بتلابيبه؟ ما الذي قدّمه للأفارقة غير الدعم الاستخباراتي الذي استخدموه لقمع الحركات التحرّرية؟ ما الذي قدموه لدولة جنوب السودان، بعد أن استنفدوا كل الحيل لفصلها؟ هل اعتذرت المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، أو قدمت توضيحا لدرء تهمة التواطؤ في اغتيال جون قرنق؟ ما الذي يجعل إسرائيل، والتي يدّعي مثقفوها أنها تمثل “واحة الديمقراطية” في المنطقة العربية، تسعى دوما إلى الحيلولة بين الشعوب الأفريقية، وتلبية أشواقها في الحرية والعيش الكريم؟ لماذا يدعم نتنياهو مرتكبي الإبادات الجماعية، وقد وظف اللوبي الصهيوني منصة “إنقاذ دارفور” زهاء عقد لتصعيد اللهجة العدائية، ولتوظيف ثنائية زرقة – عرب، للتدليل على وحشية العرب (الجنجويد في هذه الحالة)؟ لماذا تعمل إسرائيل على تحقيق انتصارات في ساحات بعيدة عبر البحار؟ لماذا لا يكون توافقها مع الشعب الفلسطيني وسيلتها لعقد الصلح مع العالم، ومع الإنسانية كافة؟ لماذا لا تقتل هتلر، الشخص الكائن والقابع في داخلها، وفي نفسيتها المبتورة؟ لماذا تصرّ هذه القبيلة الموتورة على جرّ الإنسانية إلى شقاءٍ ربما تحدثه الحرب العالمية الثالثة؟
لعل الأجوبة تكون موفورة في ذهن القارئ، فلا داعي للخوض في هذه المتاهة، إلا بالقدر الذي

“تُفَضِل النخب المركزية، صاحبة السجل التاريخي في العمالة للأجنبي، الاستعانة بالآخر الدخيل”
يعين على فهم البلاهة، بلاهة جماعتنا في السودان، البلد العتيق صاحب الحضارة العريقة تلك لم يطور استراتيجية ذاتية، تعينه على الانطلاق، مستعيناً بقدراته الفكرية والروحية. وقد اكتفى قادته المكلفون المرتشون بتلقي التعليمات ممن يوجهونهم في الخارج، تارة لتهريب سلاح إلى حركة حماس، وإذا ما انقلبت الموازين، يوجهونهم إلى الارتماء في أحضان كيان إمبريالي وعنصري، يستمد قادته قوتهم من ضعف الآخرين، خورهم وجبنهم. يرفض الأوروبيون صفقة ترامب نتنياهو، المعروفة باسم صفقة القرن، لأنهم يرونها مجحفة ومذلة ومهينة، بل إنها لا تحقق سلاماً، وقد تؤجج حرباً، فما بال بعض منا يرضون بالدنية؟

تُفَضِل النخب المركزية، صاحبة السجل التاريخي في العمالة للأجنبي، الاستعانة بالآخر الدخيل على التعويل على المكون الأصيل، لأنها لا تعرفه، أو لا تود مجرد الاعتراف به وتقنين حقوقه التي تفنن أسلافها في سلبه. لم يعد لقوى الحرية والتعبير درب تسلكها إلى قلب الريف السوداني، وقد طُرِد أحد أهم وكلائها المعتمدين شر طردة من دارفور. كما لم يعد لديها درب تسلكها مع الشباب، بعد أن ثبت تواطؤها مع العسكر الذين تفننوا في قتل إخوانهم، واغتصاب أخواتهم في جريمة فض الاعتصام في الخرطوم في 3 يونيو/ حزيران 2019، والتي لن يجرؤ نبيل أديب الكشف عن خباياها. لن يكتفي المواطن السوداني بالحكم على حكومة “قحت” بعدم الكفاءة المهنية، وقد ظهر هذا جلياً في اداء وزرائها الذين إذا تكلموا، لم يفصحوا عن رؤية استراتيجية، ولم يبرزوا مؤشرات قياسية، إنما تعللوا بضعف القدرات المالية، ولكنه سيتهمها ويعاقبها على خيانتها، وإن تدثر قائدها وحادي ركبها باللباقة والتهذيب، فهاتان الصفتان وظفتا حتى الآن لتمرير أجندة “الكيزان”، إذ لم يُجد الصلف والتكبر والهيجان. كيف ستوطّن “قحت” ولايتها، وقد رفض الشعب، متمثلاً في الريف الغربي، كبير قضاتها ومستشاريها؟ أي المعايير سيعتمدون، وأي الأشخاص سيختارون للجهاز التشريعي الذي يعدّ أفراد أعضائه بالمئات، وهم قد عجزوا عن اختيار 18 شخصاً لمجلس الوزراء؟

لا يفتقر الفريق السياسي القديم إلى الكفاءة المهنية فقط، إنما يفتقر أيضا إلى الكرامة والكبرياء. وها هم ناسٌ منهم يرتمون في أحضان الصهيونية، علها تقيهم غضبة الجبار، الشعب المغوار. أيقنت النخبة فقدانها بريقها السياسي والديني، وهي تستشعر خطر الزحف الاجتماعي والسياسي والعسكري القادم من الريف، الغربي خصوصا، فكرت أول ما فكرت في الاستعانة بمدير جهاز الأمن الوطني سابقا، صلاح قوش، والمخابرات المصرية التي قَبِلت حميدتي (نائب رئيس مجلس السيادة) وزمرته على مضض، لأنها ترى قبائل الغرب امتداداً لجيش الخليفة عبدالله التعايشي (زعيم الثورة المهدية في السودان، توفي في 1899). هنا حدث التقاطع الذي سيدخل السودان في أم كبك (صدام يعقبه فراغ أمني وعسكري)، ولن يعبأ نِتِنياهو حينها بالمآلات، لأنه سيكون حينها مشغولا بشراب نخب الفوز في الانتخابات. لا يفتقر قادة السودان إلي الدربة والدراية بمنهجيات التخطيط الإستراتيجي وأساسياته فقط، ولكنهم أيضا لا يؤمنون بجدواها. وأم الكوارث عند العرب أنهم ينشئون مؤسسات فقط للتباهي والاحتفاء بمظهرها، وليس العمل بموجهاتها. ما ينطبق على الأجهزة المدنية، كما العسكرية.
محاولة التطويق هذه، أي الاستعاضة عن التواصل مع الداخل بالتخابر مع الخارج، ستجعل من الصعب عقد التفاهمات اللازم إجراؤها بين أبناء الوطن الواحد، وها هي الحركات الثورية
“لم يعد لقوى الحرية والتعبير درب تسلكها إلى قلب الريف السوداني”
تتحصّن في جوبا، فيما كان الأجدى لها إقامة ندوات في أم بدة والحاج يوسف والسلمة والصالحة، فالوعي وحده كفيل بكشف المؤامرات المحلية والإقليمية، وتعبيد الطريق نحو الديمقراطية. بيد أن الانتقال من العمل العسكري إلى العمل السياسي المدني يتطلب صدقيةً وجدّيةً لا تتوفران لدى كثيرين من قادة الحركات “الصورية”. يعجز صاحب هذه المقالة، وهو أستاذ علوم سياسية، عن فهم موضوع المسارات، ويستغرب عجزنا، نحن السودانيين، عن مجرد الالتقاء، والاكتفاء بطرح القضايا في مؤتمر دستوري يشارك فيه أصحاب المصلحة (العامة وليس الخاصة) كافة. في هذا الفضاء الذي تتلبّده غيوم الجهل والعنصرية والعنجهية. قد تتخلى النخب (المركزية كما الريفية) عن رسالتها الفكرية، وتسعى إلى الالتفاف حول قادة المليشيات (يشمل ذلك “العمليات العسكرية” التي تم حلها في الأمس القريب)، وهؤلاء إنما يُجَيرون الحمية، والحماسة القتالية إذا ما استدعى الأمر، لصالح مشروع فردي سلطوي، لا يتوخّى منه تحقيق مصلحة للعباد، ولا يُرجى منه جلب خير للبلاد.
ختاماً، الصدق هو الطريق الأقصر إلي المقصد، والشارع الأبهي المؤدي إلى قلوب المواطنين، وكل شيٍ دونه بوار وهلاك. الصدق هو موطن الثبات الأغلى والأجدى، ويقول المولى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). اصدقوا الشعب يصدُقكم، وأعينوه في محنته يُجركم، وكونوا على قدر بسالته يزِنكم، وإلا فثورةٌ تجليكم عن مواضعكم، ومحنة يكون فيها الحليم حيران.

العربي الجديد