مقالات متنوعة

(بيوت الأشباح) في الإنقاذ… شهود وشواهد (1)


(كانت أصوات حركة القطارات وأصوات الحراسات العسكرية الليلية أول دليل ومؤشر على أن الموقع قرب القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة. وكنا في سبيل إنجاز هذا الواجب نستفيد قدر المستطاع من مواعيد الخروج لدورة المياه والتي كانت تتم مرة واحدة فقط في اليوم خلال الفترة الصباحية وتحت الحراسة المشددة، والضرب المتواصل بالسياط من وإلى دورة المياه مع الطرق المتواصل على أبواب دورة المياه بغرض الاستعجال وتشتيت الذهن)..

بتلك الكلمات تحدث علي العوض، وهو من أوائل المُعتقلين في فترة حكم النظام البائد عن اكتشفاهم بيت الأشباح الذي وُضِعوا فيه هو والسيد جعفر بكري علي من حي السجانة الموظف بإدارة المحاكم، والسيد عبد المنعم عبد الرحيم أعمال حرة، ومعتقل من حي اللاماب هو السيد الشيخ الخضر الموظف بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، نالوا فيه صنوفاً من العذاب والقهر.

خلال حكمها حاولت الإنقاذ بشتى الطرق إخفاء بيوت الأشباح التي كان يرى فيها المعتقلون الويل والثبور وعظائم الأمور، كانت تنقلهم إليها معصوبي العينين، وتتبع وسائل تمويهية ولكنهم كانوا في أغلب الأحيان يعرفونها….

(لصيحة) في تحقيقها التالي تلتقي بعدد من ضحايا تلك البيوت فكانت (شهود وشواهد).. معاً نتابع هذا التحقيق…

بيوت الأشباح

عرفت “الويكيبيديا” بيوت الأشباح بأنه مصطلح سوداني ظهر مع عهد ثورة الإنقاذ الوطني 1989م، ويقصد به الأماكن أو البيوت السرية التي كان يجري فيها تعذيب المعارضين لنظام الإنقاذ، وحتى قتلهم كما في حالات العديد من الطلاب والأطباء وغيرهم بواسطة جهاز الأمن. ويأتي اقتباس كلمة أشباح من أن الذين يقومون بالتعذيب يكونون في الغالب ملثمين ولا يظهرون وجوههم خوفاً من تعرّف ضحاياهم عليهم، وبالتالي فالضحية لا يعر فمن عذّبه ولا مكان تعذيبه .

أول انتصار

بالعودة للمقدمة، يواصل علي العوض استرساله في الحديث لـ(الصيحة)، عن تلك الواقعة، ويضيف بقوله: (كل هذه المعاملة الوحشية واللاإنسانية كانت توحي لنا بأن تأمين الموقع كان مسألة بالغة الأهمية بالنسبة للجلادين وقياداتهم، مما زاد من إصرارنا على معرفة الموقع). وهكذا الإنسان الذي يملك فكرة دائماً تسكنه روح العناد والمثابرة، خاصة في أوضاع التحدي والأوضاع غير الطبيعية.

وبعد طول اجتهاد وربط بين الأشياء واستغلال الثقوب بباب الزنزانة ودورة المياه، تم تحديد الموقع ومعرفة المكان، وهو مقر لجنة الانتخابات للعام 1986 بالخرطوم، واكتشفنا وجود معتقلين آخرين بنفس المقر، وذلك من خلال تحركهم من وإلى دورات المياه المصحوب بالضرب والإهانات.

وكان هذا أول انتصار على آلة التعذيب الجهنمية، ومن الملاحظات التى كانت مسار تعليق ونقاش المعتقلين أن الجبهة القومية الإسلامية لم تكتف بالاعتداء على الديمقراطية ممثلة في الأحزاب والنقابات والحريات العامة والأفراد، بل شمل أيضاً مواقع الديمقراطية وتحويلها إلى مراكز للاعتقال والتعذيب، مثل مقر لجنة الانتخابات ودار نقابة المحامين السودانيين.

منزل مامون أبو زيد

بدوره كشف رئيس حزب البعث العربي الاشتراكي التيجاني مصطفى لـ ( الصيحة)، عدداً من تلك المواقع، وقال إنه شخصياً تعرّض للاعتقال لفترات طويلة في فترة حكم الإنقاذ البائد، وذكر أنه اعتُقل في بيت أشباح بشارع البلدية خلف القيادة العامة، بمنزل يقال إنه لمامون عوض أبو زيد، وأشار إلى وجود بيت آخر بالعمارات، مؤكداً أنه تعرض إلى معاملة سيئة إبان اعتقاله تصل للضرب والاستلقاء في الوحل ولأوقات طويلة ليس فيها مراعاة لعامل السن..

أحياء راقية

ضابط الشرطة المتقاعد صلاح ميرغني، أشار لـ( الصيحة) إلى أن بيوت أشباح الإنقاذ كثيرة تغطي كل العاصمة الخرطوم وتمتد للولايات، وأضاف: أعرف أن هنالك بيوتاً في أحياء راقية مثل كافوري والمنشية والعمارات، وقال: بيت الأشباح بكافوري كانت تتم فيه أبشع أنواع العذاب المفضي إلى الموت، كان يتم إدخال الشخص إلى غرفة بها باب يؤدي إلى مفرمة.

هذه قصتي

ضابط القوات المسلحة المتقاعِد حسن محمود ومقرر لجنة معاشيي القوات المسلحة لم يسلم من زيارة بيوت أشباح الإنقاذ، ويحكي لنا قصته قائلاً: تم اعتقالي في العام 1989 بُعيد انقلاب الإنقاذ، وتم وضعي داخل حمام تحت الأرض لمدة ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعلمت أن المكان قريب من مدرسة الراهبات الخرطوم، ويضيف: أعلم أيضاً أن هنالك بيوت اشباح في جبل أولياء منطقة المندرة، وفي منطقة المرخيات..

ستي بنك

القيادي بحزب البعث العربي الاشتراكي عثمان إدريس أبو راس زرته بمقر الحزب بالخرطوم، والرجل اعتُقل كثيراً في فترة الحكم البائد، ولابد أنه يحتفظ بكثير من القصص عن بيوت الأشباح تلك..استقبلني أبو راس بكل ترحاب، وبدأ يحكي لي قصته مع بيوت الأشباح. ويقول أبوراس: دائماً كانت الإنقاذ تعتمد على أشخاص من خارج العاصمة لتنفيذ حملات الاعتقالات، ويضيف: لا أنسى أبداً اعتقالي في أحد تلك البيوت بالخرطوم شرق غرب مقر لجنة الاختيار الحالي بالقرب من ستي بنك، ويقصد المبنى الذي تحول الآن إلى إعلام جهاز الأمن والذي كان مسؤولاً أيام النظام البائد عن منح تصديقات الصحف والقنوات الفضائية للأجهزة المختصة..

يضيف: تم اعتقالي في هذا البيت في العام 1994م، ومعي في الاعتقال محجوب شريف، ومحمد بابكر، ووجدي صالح والذي عرفته من صوته، وكان بزنزانة أخرى، وكان يشتمل على عنبرين، العنبر الواحد فيه نحو 17 غرفة، وكان معي في تلك الزنازين عروة، والصادق، وسيد أحمد الحسين، وفاروق علي زكريا، وكنت أنا في الزنزانة رقم 15 وكانت تتم فيه أبشع أنواع التعذيب، وهذا البيت شهد أكبر عملية هروب في الإنقاذ حينما تمكن بعض العرب الذين كانوا فيه من الهروب، وقال: البيت كان في شكل “اي”.. وأنه عرف مكانه لأنه كان يجاور “ستي بنك”، واردف قائلاً: كانوا يمنعوننا من الخروج، وفي مرة من المرات أخرجونا لحوش البيت، ونظرت للأعلى فقام أحد الحراس بضربي على رأسي وقال لي (تعاين في شنو) فقلت له “مبنى ستي بنك” طبعاً..

كوبر (الشبح)

وأضاف أبو راس: كانوا يعتقلوننا ويقومون بعصب أعيننا ولكنني ابن الخرطوم، وأعرف أماكنها كلها. معلقا: العجيب أنهم يعتقلون المعتقلين معصوبي العيون، وحينما يصلون إلى حي كوبر مثلاً يقومون بإزاحة العصابة، وكان كوبر في مدينة أخرى هذا عمل لا معنى له.. مضيفاً: سجن كوبر في الجزء الشمالي الغربي منه، هو من بيوت الأشباح الكبيرة، لأنه خاضع كله لجهاز الأمن وتحت سيطرتهم..

وأوضح أبو راس أن للإنقاذ بيوت أشباح في مختلف أحياء العاصمة الخرطوم وفي الولايات بورتسودان والأبيض شرق السكة الحديد، وعطبرة وكسلا والقضارف، وقال: بأمدرمان يوجد بيت أشباح جوار مستشفى النيل الأزرق، وقال إن صاحب المنزل (ح .م . ع) باعه لأنه كان يسمع أصوات صراخ طوال الليل.

موقف شندي

ويحكي أبو رأس قصة تحويلهم إلى سجن كوبر بعد ذلك بقوله: كانت هنالك زيارة لأحد مسؤولي حقوق السودان للسودان، وكان فيما يبدو يملك معلومات عن بيوت الأشباح، وقبل وصوله تم نقلنا بسرعة شديدة إلى سجن كوبر، وتم إدخالنا في عنابر قسم المديرين في الشمال الغربي للسجن المكون من ثلاثة عنابر، وكنت في زنزانة منفردة، وأذكر أنهم وضعوا معي أحد المجانين والذي تبول في (جك موية)، وهذا الأمر جعلني أحتج بشدة (قمت مسكت حديد الزنزانة) بعد كسري للجك، وكان معنا تجار عملة وحرامية وسكارى وأجانب وإسلاميون وليبي يدعى عثمان عيسى، وجزائري اسمه عبد الغني، وفلسطينيون كانوا يتسلقون جسر سجن كوبر مثل القرود، وفي مرة من المرات خيطوا أفواههم تعبيراً عن رفضهم للطعام كانوا في الكرنتينة رقم 96 وكان معنا يوسف حسين ومحمد بابكر..

وزاد بقوله: نعم، كانت هنالك بيوت أشباح في فترة حكم الإنقاذ البائد، بل كانت موجودة حتى ما قبل قيام الثورة بقليل. ومضى أبوراس موضحاً أماكن بيوت الأشباح قائلاً: تم اعتقالي في ثورة ديسمبر الأخيرة، وتم نقلي إلى بيت أشباح جوار موقف شندي أو مايسمى بالمكاتب السياسية، وقال إن المعتقل فيه زنازين وكل زنزانة بها سريران أو أربعة أسرّة وفيها حمام نص باب، وتربيزة متحركة، وشباك عبره يتم إدخال الطعام. مضيفاً كان بالمعتقل أيضاً علي الريح السنهوري، والخطيب، ومجموعة كبيرة من السياسيين..

ساخن بارد

محمد عبد الله أحمد عوجة قال، إنه أُعتقل في أول تظاهرة لتجمع المهنيين في يوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 2018 عبر الجناح الطلابي للمؤتمر الوطني، مضيفاً: تم نقلنا معصوبي العيون، وسارت بنا العربة عبر منعرجات، وتم إنزالنا أولاً إلى مكاتب السياسية غرب موقف شندي، وفي اليوم الثاني تم نقلنا إلى منطقة قريبة من مكاتب السياسية، عرفنا بعد ذلك أنها تسمى مكان الثلاجات أو ساخن بارد، حيث استمررت بالمعتقل لمدة شهرين وثمانية أيام وفيها ذقنا صنوف العذاب. مضيفاً: في أول يوم لدخولنا تم حقننا بحقن لا نعرف طبيعتها وما تحتويه، ولكني بعد خروجي من المعتقل وإجرائي للفحص تبين أني مصاب بالتهاب الكبد الوبائي (بي) والذي سافرت إلى مصر للعلاج منه..

باب واحد

وقال إن بيت الثلاجات عبارة عن مبنى ضخم به باب كبير واحد فقط مثل الثلاجة يقومون بفتحه وتدخل منه رياح باردة مثل الثلج تجعل المعتقلين يرجفون من البرد، وقال إنهم كانوا يضعون كاميرات مراقبة للمعتقلين للتنصت عليهم يستخدمون عصي الكهرباء ويمنعون الناس من الكلام والحديث.

شاهد من أهلها

تمكنت (الصيحة) من استنطاق أحد ضباط الأمن بحكومة الإنقاذ بعد أن اشترط عدم ذكر اسمه.. حيث أقر بوجود العديد من بيوت الأشباح بالعاصمة الخرطوم وبمدن أخرى، إلا أنه نفى أن تكون تلك البيوت لتعذيب المعتقلين، وقال: إنها بيوت مخصصة للاعتقال فقط، وكان المعتقلون ينالون معاملة راقية بداخلها، مستغرباً اتهام الإنقاذ بأنها كانت تقتل المعتقلين وطالبني بابراز شخص واحد قتلته الإنقاذ في معتقلاتها..

وحول بيت الثلاجات اعترف بانه فعلاً موجود غرب موقف شندي، مشيرًا إلى أن البرودة لا تقتل، وكانت تتم بدرجات معقولة لا تؤثر في حياة الإنسان، وذكر أن البيوت التي كان يعتقل فيها الناس كانت مراقبة من قيادة الأمن العليا لمتابعة سلوك أفراد الأمن، حيث ظلت قيادة جهاز الأمن حريصة على سلامة المعتقلين..

محيي الدين شجر

(صحيفة الصيحة)