مقالات متنوعة

إزالة التمكين

لا يختلف اثنان علي اهمية ازالة التمكين، بعد اختطاف الدولة لصالح الاسلامويين، الذين تعاملوا معها كضيعة خاصة (فقزَّموها لحدود نفوسهم الصغيرة وجهلهم الكبير). وكان من افرازات ذلك تحول اجهزة ومؤسسات وموارد الدولة من الحيادية والتوظيف لخدمة المجتمع، الي وسائل ثراء فاحش وتمايز طبقي بين الاسلامويين وكافة شرائح المجتمع الاخري. وهذا ما خلق نوع من العداء المكتوم او اقلاه انعدام الثقة بين المواطن والدولة (شئ شبيه بالوعي المضاد للدولة، وهو تشوه يحتاج ترميمه لجهود واحتمال عقود واجيال). المهم كل ذلك تجسد في واقعة فاضحة، وهي ان الفساد اصبح هو القانون الحاكم لادارة العلاقات والمصالح داخل الدولة (اي الفساد اصبح لا فساد او ينكر ذاته عبر شرعنتها). وبما ان ذلك كان من دوافع الثورة، كان لابد من اقرار قانون تفكيك دولة التمكين الاسلاموية، لرد الدولة لدورها الحقيقي سواء في حياديتها كعلاقة او خدمتها للجميع كوظيفة. والحال كذلك، من حيث المبدأ هنالك اجماع علي ازالة التمكين، ولكن الخلاف حول كيفية وآليات وحدود وتوقيت هذه الازالة. خصوصا وكما سلف، ان التمكين لم يكن محدود، ولكنه سمة عامة لادارة الدولة، ومن هنا صعوبة المعالجة وحساسيتها علي تماسك الدولة نفسها (لان الاسلاموية في واحدة من دلالاتها، هي ترابط عضوي بين الفرد والمنظومة والدولة. اي هم خارج السلطة شر محدق وداخلها كارثة مقيمة. ومن هنا استحالة دمجهم في اي منظومة ديمقراطية قائمة علي الاستقلالية والفصل بين الوظائف والسلطات). ولكن بصفة عامة يمكن تحديد ضوابط او معايير قد تشكل عامل مشترك، يعمل علي بقاء مؤسسات الدولة فاعلة مع محاسبة كبار الفاسدين كخطوة اولي او مرحلية. ومنها:

اولا، مراعاة المصلحة العامة، بحيث لا يحدث ازالة التمكين فراغ اداري او اطراب في ادارة المؤسسة العاملة.

ثانيا، وجود معايير محددة ومحكومة بالشفافية. اي لا يمكن ازاحة احد دون معرفة الاسباب، وكذلك احلال احد مكانه من دون اتباع الاجراءات المعمول بها في شغل الوظائف. حتي لا يصبح قانون التفكيك كقميص عثمان كلٌ يرفعه، سواء لتبرير الاطماع في المناصب او المحاصصة بين الشركاء او فش الغبينته، في تصفية حسابات سياسية او شخصية.

ثالثا، قبل الشروع في عملية ازالة التمكين، يجب اجراء مراجعة وتقييم شامل لعمل المؤسسة، لمعرفة مواطن الخلل وكيفية معالجتها في اطار عملية الازالة. بمعني ازالة التمكين لا تعني احلال احد مكان الآخر، ولكن اعادة هيكلة المؤسسات والاجهزة والمشاريع لزيادة كفاءة عملها وانتاجيتها.

رابعا، الازالة يجب ان تطال اولا الوظائف الهامشية (الترهل الوظيفي) التي لا تؤثر علي الاداء، وتكرس لثقافة العطالة المقنعة.

خامسا، مراجعة الاداء السابق للمسؤولين، لوضع اليد علي مكامن الفساد الاداري والمالي، وبما فيه الفساد المحمي بالقانون كالمرتبات الخرافية للمدراء واصحاب المناصب الكبيرة، والتي لا تتناسب مع الاداء وامكانات المؤسسة، والاسوا من ذلك الفوارق المالية الهائلية بين كبار القادة والعاملين في ذات المؤسسة! اي اهم وظيفة لازالة التمكين هي تكسير الطبقية الوظيفية داخل كل مؤسسة.

سادسا، يجب ان تزود لجان الازالة بخبراء اداريين، لمعالجة التشوهات الادارية والفنية داخل كل مؤسسة. وفي ذات السياق لا معني لازالة التمكين، من دون توافر معاهد للتدريب الاداري والمهني لتاهيل كوادر الخدمة المدنية، لتحل محل كوادر الاسلامويين، الذين احتكروا التدريب داخليا وخارجيا كامتياز خاص، وتاليا تعلموا الادارة علي رؤوس وظائف الدولة اليتيمة.

ثامنا، لابد ان تكون ضوابط الازالة والاحلال محكومة بالمعايير المهنية لكل وظيفة، وتاليا لا يكفي ان يكون الشخص اسلاموي لازاحته او ثوري لتعيينه.

تاسعا، كل من تثبت عليه جرائم فساد مالي او اداري من الاسلامويين، يتعرض لاقصي عقوبة بعد مصادرة ممتلكاته. ولا مكان لعفا الله عما سلف مع الاسلامويين بصفة خاصة وذلك لسببين. اولهما، لان طبيعة فسادهم وجرائمهم ذات طابع انتقامي تخريبي من مجتمع ودولة لم يقدما لهما إلا كل خير. ثانيهما، الاسلاموية كعقيدة هي في الاصل مرض يصاب به الاسلامويون. ومن اعراضه الدخول في حرب مع الدولة. وهي حرب لا يسعها الا خياران، اما ان يحكموها او يخربوها، وفي الحالتين يصيبونها بالدمار! ومن هنا اتت عدمية هذه العقيدة. وهم في حربهم هذه يعتبرون العفو نوع من الغفلة والسذاجة، وتاليا يتم استغلاله للغدر بمن عفا عنهم. لكل ذلك يستغرب المرء من دعوات التحاور مع مجموعة مريضة بدلا من مكافحة اسباب المرض.

عاشرا، لا يمكن القيام بكل ما ورد اعلاه من دون ان تسبق اجراءات او قوانين التفكيك، رؤية او مفهوم لازالة التمكين. وهو تحرير الدولة من قبضة السلطة (وهي حكما تخدم مصالح اقلية) لصالح استيعاب وخدمة المجتمع بمختلف شرائحه ومناطقه ومكوناته.

اما مقدمة او عنوان ما تقوم به لجان الازالة حتي الآن، فاقرب وصف او تقييم له، انه تشوبه العشوائية والانتقائية وعدم الاقناع، وفي الحقيقة هذا حال حكومة حمدوك ككل. واقرب مثال لما نقول لدينا نماذج صارخة او محبطة. اولها، يتعلق بهيئة السدود، فنحن كما نعلم هي واحدة من الهيئات التي تبيض ذهبا للاسلامويين. وانها في حقيقتها ليست اكثر من عملية نصب كبيرة، استخدمها الاسلامويون للتحايل باستخدام آليات الدولة. فهذه الهيئة عبارة عن ورم خبيث تم زرعه في جسد الدولة، بالافتئات علي اختصاصات اصيلة في مكونات الدولة، كوزارة الري والمالية والصناعة والاستثمار والزراعة والاراضي..الخ، اي هي في الحقيقة دولة داخل دولة! بل المؤكد انه لم يتم التفكير في انشائها إلا بعد ان سال لعاب الاسلامويين علي قروض اموال تنفيذ سد مروي السائبة. لتتحول بعد تكوينها الي ما يشبه الثكنة العسكرية، التي لا يعلم تفاصيل ما يجري داخلها، إلا اصحاب النفوذ من كبار الاسلامويين، ورب العالمين. والمفارقة حتي اليوم وبعد مرور ما يقارب الستة شهور علي تكوين حكومة الفترة الانتقالية، لا يعلم مديونية هذا السد الخرافي وحقيقة الاموال التي تم صرفها عليه. وهذا ناهيك عن حقيقة مواصفاته الفنية، والاجابة علي سؤال لماذا لم تنفذ الترعتان علي جانبي النيل رغم استلام اموالهما؟ وقبل ذلك اهميتهما الاقتصادية الضخمة للمهجرين بصفة خاصة والسودان بصفة عامة؟! وهذا بالطبع مع استصحابنا طبيعة الراسمالية الطفيلية التي تقدم الادني (بيع الاراضي) علي الاعلي (استثمارها لصالح الشعب). اما حد المسخرة فقد تمثل في انه بعد اكتمال السد لم يتم حل الهيئة، انما تم ابتداع هيئة تطوير منطقة سد مروي للاشراف علي المشاريع المصاحبة كما سموها! بمعني اعادة انتاج دور الهيئة الوهمية ولكن بصورة مستدامة. وكان اول الغيث استئجار صرح ضخم في قلب ارقي احياء الخرطوم، والصرف علي منتسبيها صرف من لا يخشي الفقر، علي قفا اهل الشمالية الذين لا يجنون إلا الفتات. اي اصبحت الهيئة قبلة لترضيات اعضاء المؤتمر الوطني الذين لا تسعهم الوزارات والسفارات والمناصب الوسيمة، او لعلاج المشاكل والخصومات بينهم، خصوصا وكما نعلم ان البأس بينهم شديد علي هذه المناصب. اي يجري عليها ما يجري علي جامعة افريقيا العالمية وغيرها من مؤسسات وهيئات ذات اسماء رنانة وعوائد صفرية علي مصلحة البلاد العامة. المهم ما يهمنا هنا، ان لجنة ازالة التمكين بدلا من مراجعة الاسس التي تم علي ضوءها تكوين هذه الهيئة، ومن ثم تفكيك مكوناتها بارجاعها لاصولها، كولاية وزارة الصناعة علي دواجن النيل ووزارة الزراعة علي المشاريع الزراعية، ووزارة المالية علي مواردها، مع اعطاء الادارات مساحة حرية وحركة تتلاءم مع طبيعة عملها الحيوية، التي تتعارض مع البروقراطية المكتبية. نجد ان لجنة التمكين كل ما قامت به، هو اعفاء بعض العاملين بالمهن الهامشية للهيئة، واحلال شخوص مكان شخوص، وعلي راسهم المدير العام للهيئة. ورغم انه اسلاموي إلا انها استبدلته باخر اضل سبيلا! ويبدو ان وجوده في هذا المنصب ليس خاطئ فقط، ولكن استمراره فيه سوف يعجل بخراب سوبا (شركة دواجن النيل). ورغم ان معلوماتي سماعية، إلا ان الصحافة في الداخل عليها اجراء تحقيقات، حول هذه الهيئة وغيرها من بدع الشركات الحكومية، التي ترضع من ثدي الدولة وتتمتع باعفاءتها الجمركية والضريبية، ولا تخدم إلا منسوبيها الاسلامويين! وكذلك عليها واجب متابعة عمل لجان ازالة التمكين ، لتحقيق مزيد من الشفافية.

اما النموذج الثاني فهو ما حدث لصحيفة سوداني من لجنة ازالة التمكين. فبدلا عن مساءلة المالك جمال الوالي ليس عن ملكيته لهذه الصحيفة فقط، ولكن عن مصدر كل ثرواته، ومطالبته بالاجابة علي المفارقة الغريبة، وهي تراكم ثرواته الضخمة وانفاقه بالجملة علي الفرق الرياضية، من غير وجود شركات او مشاريع او مصانع او سلسلة متاجر تبرر تدفق كل هذه الاموال (كانه رجل اعمال من منازلهم). بل يمتد السؤال لغيره من ملاك صحف زمن الغبرة كالطيب مصطفي وحسين خوجلي والهندي عزالدين. عن مصدر اموالهم، ومراجعة سجلات ضرائبهم وجماركهم طوال الفترة الماضية. المهم بدلا عن ذلك، نجد الضرر الاكبر (معنويا وماديا) من قرارات اللجنة وقع علي العاملين بالصحيفة، مع ان معظمهم وقف مع الثورة من هي في رحم الغيب، ورافقها مناصرا حتي وصلت لما هي عليه الآن. بل والحق يقال كانوا اكثر نضال وتضحيات من حمدوك والبدوي وغيرهم من اعضاء هذه الحكومة. وكل هذا ما يستحق تعويضا مجزيا للعاملين، مع ارجاع ملكية الصحيفة للدولة، ومنحهم حق تكوين مجلس الادارة وانتخاب رئيسا للتحرير.

وفي ذات السياق يمكن ان نضيف، ان قرارات ازالة التمكين من البنوك، استثنت بنكا كبنك التضامن الذي ينضح كوزنة ويتنفس جبهجة. كما ان هنالك اسئلة تفرض نفسها نعتقد انها في صلب عمل لجنة التمكين منها، هل تغيير مجالس الادارات بهذه الكيفية لا يحدث خلل في ادارة هذه البنوك؟ وهل يذهب اعضاء مجالس الادارة المقالين الي بيوتهم دون محاسبة؟ وما هي نوعية المشاريع التي تمولها كل البنوك السودانية؟ هل هي مشاريع تنموية وانتاجية، ام مضاربات في العملة والعمليات التجارية واحتكار المحاصيل وغيرها من الانشطة الطفيلية؟ ومن هم العملاء؟ وهل هنالك ضمانات كافية علي القروض الممنوحة تكافئ قيمتها؟ وعلي ضوء هذه الاسئلة وغيرها، يتضح ان المسالة اكبر من ازاحة فلان او احلال علان، ولكنها تتعلق بدور البنوك في تنمية البلاد وترقية حياة العباد كجزء من المنظومة الاقتصادية.

وهنالك جانب لا يقل اهمية ان لم يكن مكمل لازالة التمكين المدنية، وهو ازالة التمكين من المؤسسات والاجهزة العسكرية. فالقيام بهكذا واجب من جانب المكون العسكري، يرسل رسالة تطمين للمكون المدني، ويقلل من مخاوف طمع العسكر في السلطة و محاذير تربصهم بالفترة الانتقالية. واول خطوة في هذا الطريق، هي مراجعة قرار استيعاب قوات الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية وهيئة عمليات جهاز الامن، في الجيش والشرطة والدعم السريع (وهو بدوره يحتاج لتوفيق اوضاعه بالتوازي مع مفاوضات الترتيبات الامنية مع الحركات المسلحة) وكذلك عدم حل جهاز الامن وتسريح افراده. واصدار قرار ثوري آخر، بطرد هذه القوات بعد تجريدها من اسلحتها من دون اي مستحقات، بل ومعاقبة المجرمين والفاسدين منهم وهم ليس بالقليل. فهكذا قرار، من جانب يقطع الطريق علي الطابور الخامس داخل هذه الاجهزة والمؤسسات، بدلالة الانقلابات التي ادعاها المجلس العسكري، وكذلك تمرد هيئة عمليات جهاز الامن. ومن جانب آخر يفتح الطريق امام استيعاب قوات الحركات المسلحة عند اكتمال الاتفاق، من دون اعباء اضافية علي ميزانية الدولة، التي تعاني قلة الموارد ويحاصرها التضخم والركود.

والخلاصة، لا يمكن ازالة التمكين بعمل تمكين جديد مهما كان شكل لافتته، حتي ان كانت ثورية! ولا قيمة لازالة تمكين تؤدي لتردي الاوضاع اكثر من ذي قبل! لان ثورة من دون رؤية لا تستطيع تصحيح اخطاءها ذاتيا، وتاليا هي اعجز عن اصلاح اخطاء الآخرين. ودمتم في رعاية الله.

عبدالله مكاوي
الراكوبة