مقالات متنوعة

يسقُط الاقتصاد.. تحيا السعادة


في أواخر سنوات الرئيس المصري حسني مبارك، كان التداوُل السياسي ينحصر بشكل رئيسي في قضية التوريث، وهل سيصبح جمال مبارك وريثاً لعرش الجمهورية العتيدة أم لا. كان ولي العهد المرتقب يعلم أن وراثته للعرش مرهونة بأداء الاقتصاد، لذلك أحاط نفسه بعدد كبير من الأثرياء، ومجموعة مُنتقاة من المثقفين والمفكرين واختصاصيي السياسات العامة الأذكياء، من أجل صناعة طبقة جديدة تسحب البساط من تحت أقدام تحالف جنرالات الجيش والمخابرات والشرطة والمثقفين والعائلات القوية، التي ظلت تتولى صناعة الإجماع لصالح السلطة منذ دك عرش الملكية على يد ضباط ثورة يوليو ١٩٥٢م.

لكن، كلّما تقدّم مشروع التوريث خطوة، كان تراجُع الأداء الاقتصادي والمشاكل الاجتماعية الناتجة عنه يعيدة عشر خطوات إلى الوراء. لم يترك رئيس الوزارة عاطف عبيد وخلفه أحمد نظيف ووزير ماليتهما يوسف بطرس غالي وسيلة لتخدير الجماهير بالإحصائيات الزائفة، والضرائب المبتكرة إلا وعملوا بها لكن براعتهم لم تمنع وقوع القدر، وسقط النظام بعد تآكله من الداخل.

من وسائل الوزير غالي البارعة كانت خطاباته وأحاديثه المدروسة عن الثروة العقارية، وكيف أن جملة أسعار المساكن في مصر تبلغ مليارات الدولارات حتى نجح في فرض ما عثرف بالضريبة العقارية.

وفي فرنسا حين كاد تراجع أداء الاقتصاد أن يهزم اليمين الفرنسي، شكّل الرئيس نيكولا ساركوزي لجنة شهيرة بقيادة اثنين من الحاصلين على نوبل في الاقتصاد هما جوزيف ستيغليتز وأمارتيا سين، بالإضافة الى الاقتصادي الفرنسي جان بوول فيتوسي لابتكار معايير جديدة لقياس الثروة الوطنية بحيث لا تعتمد على مؤشرات وأرقام الناتج القومي الإجمالي وحدها، مطالباً باعتماد جودة الحياة التي يعيشها الناس ضمن تلك المؤشرات. تأسس على ذلك حوار لا يزال منتعشاً وحافلاً بالجديد في الأوساط الأكاديمية عن السعادة، وكيف يمكن استيعابها ضمن مؤشرات الثروة الوطنية. وانشغلت الكثير من الحكومات بدراسة أسباب السعادة، فيما أنشئت في العديد من الدول دوائر تُعنى بدراسة الأسباب التي تبعث في الجماهير السعادة وتجعلها تذهب إلى صناديق الاقتراع للتصويت لهذه الحكومة أو تلك، أو تجعلها تنحبس في بيتها مُمتنعة عن الاعتراض على تلك السلطة أو ذلك الحاكم.

لو اعتمدت أي حكومة سودانية منذ الاستقلال على مؤشرات الأداء الاقتصادي للبقاء في السلطة لسقطت على الفور في اليوم التالي، إذ لم تحصل البلاد أبداً على حكومة ناجحة في هذا الجانب، لذلك تعتمد حكوماتنا على إسعاد الطبقة السياسية باقتصاد وامتيازات رائعة، فيما تعتمد على مؤشرات أخرى لنيل رضا البقية من الجماهير. ظل الفقراء وأهل الكفاف منها يصرخون في الخمسينيات ضد المعونة الأمريكية، ثم هتفوا في الستينيات والسبعينيات مع شعارات “نأكل أصابعنا ولا نأكل قضايانا الوطنية” ، وفي الثمانينيات “الشريعة قبل القوت” وفي التسعينيات ” لن نأكل قمحاً لم تزرعه أيدٍ متوضئة” وفي الألفية الثالثة “الجوع.. الجوع ولا الكيزان”.

من يصممون هذه الشعارات لا يجوعون أبداً، بل هم في واقع الأمر متخمون، لكن أصحاب الحناجر التي تزأر في الشوارع بالهتاف هم الذين يجوعون، وتراهم بأجسادهم النحيلة في ذات الشوارع يزأرون ضد الصحة والشبع!

تُرى ما الذي يُسعِد السودانيين؟

محمد عثمان ابراهيم
الصيحة