رأي ومقالات

الهندي عزالدين: آخر سنوات “البشير” (5)


كنت أسأل نفسي وأنا في الطريق إلى القصر الجمهوري لمقابلة النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” ، ماذا يريد مني الحاكم الفعلي للبلاد؟!

لم تكن المرة الأولى التي ألتقي فيها “شيخ علي”، فقد سبقتها مقابلة في مكتبه بمقر رئاسة الوزراء (القديم) بشارع “المك نمر” جوار مستشفى الأسنان، وقد آل المبنى إلى وزارة الصناعة في وقت لاحق . في المقابلتين كان بالمكتب النائب الأول وشخصي ، لا ثالث بيننا.

كنتُ أكتب بقوة وقتذاك داعماً لموقف الرئيس “البشير” ونائبه في مواجهة خط الراديكاليين في الحركة الإسلامية الذين كانوا يظنون ،كما يظن قادة (قحت) ومشايعوها اليوم، أن قادة الحكم من (العسكريين) مجرد (أُجراء) لا (شُركاء)، وأنهم قد أدوا مهاماً محددة باستلام السلطة بالقوة العسكرية ، وعليهم الذهاب إلى بيوتهم مشكورين مأجورين .

مارس الشيخ “الترابي” ضغطاً مكثفاً على الفريق “البشير”، بنهاية العشرية الأولى لحكم (الإنقاذ)، لكي يتخلى عن البزة العسكرية ويتنحى عن قيادة الجيش، لو أراد الاستمرار رئيساً للجمهورية لدورة ثانية . كانت تحليلات المقربين من زعيم الإسلاميين تُرجِّح استقالة “البشير” نتيجة ضغط “الترابي” الذي لحق بسلطات الرئاسة وأصر على إجراء تعديلات دستورية أهمها انتخاب ولاة الولايات، نازعاً سلطة تعيينهم من رئيس الجمهورية. لكن تقديرات (الشيخ) لم تكن صحيحة والمعلومات التي كانت تصله من مكاتب معلومات الحركة الإسلامية كانت مخلوطة بحبر التحريف والتزييف الذاتي ، تماماً كما كان يحدث في تقارير الأجهزة الأمنية التي كان يتلقاها الرئيس “البشير” في آخر سنوات حكمه ، وقد أكد مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق الفريق أول”صلاح قوش” هذا الزعم في حوار صحفي بعد إقالته من رئاسة الجهاز بقوله :(80% من المعلومات التي تصل جهاز الأمن غير دقيقة)!!

استقبلني النائب الأول للرئيس في ذلك اليوم من العام 2000م بترحاب حار، سألني عن أحوالي كالمعتاد ، ثم قال لي ? أها .. ح تشتغل مع الجماعة ديل ؟) يقصد أفراد مكتبه . لم أجبه . قال لي : (أنا عاوزك تمسك الجانب الإعلامي في المكتب كمستشار صحفي ، وكمان تشتغل سكرتير سياسي لي في دائرتي الانتخابية “الخرطوم غرب”، وتكون مشرفاً على المساعدات المالية للفقراء والمحتاجين بالنسبة للطلبات التي تأتينا بالتنسيق مع ديوان الزكاة ، وكذلك تكون مسؤولاً عن ترتيب مقابلات زعماء القبائل ومشايخ الطرق الصوفية الذين يأتون لزيارتي في البيت)، ثم أضاف :(الجماعة ديل يدوك عربية وموبايل) !!

كنت في حالة مفاجأة ولم أكن مهيأً للإجابة ، فقلت له (خير إن شاء الله) . لكنني تعجبت من كثرة التكاليف وهي تمثل معظم ملفات العمل السياسي للنائب الأول ، باستثناء ملفات الجهاز التنفيذي الذي كان يقوده عملياً كرئيس للوزراء دون تسمية وتوصيف دستوري .

خرجتُ منه وأنا مثقل بهموم هذه المهام المركبة ، لم أكن سعيداً بها غير أنني لم أرد أن أخذل مَن وضع عليَّ آمالاً عِراضاً واختارني من بين مئات وربما آلاف كانوا ينتظرون فرصةً كهذي. اتجهتُ إلى مكتب مدير المكتب التنفيذي “إبراهيم الخواض” ، وسردتُ عليه تكاليف النائب الأول لي ، فاعترض “الخواض” وقال لي ? لا .. أنت ستكون مسؤولاً عن الجانب الصحفي والإعلامي فقط ، بقية الملفات ماسكنها ناس تانين)!! قلت له أيضاً :(خير إن شاء الله) .

ظللتُ أمارس مهمتي كمستشار صحفي في مكتب النائب الأول لرئيس الجمهورية لمدة (شهر) . لم يصدر قرار رسمي بتعييني مُعمماً إلى الجهات المختصة في القصر والدولة وأجهزة الإعلام ، وكنتُ متعجباً للأمر مع أنني لم أسأل ، غير أنني عرفتُ السبب لاحقاً ، وهو أن (الدولة العميقة) في التنظيم لم تكن موافقة على تخطيها في اختيار شخص لموقع حساس من خارج دائرة التنظيم ومن غير علمها . كان الدكتور”أمين حسن عمر” هو المسؤول الأعلى عن الإعلام في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، لسنوات طويلة، حتى بعد أن غادر مقعد (أمين الإعلام) ظل هو الآمر الناهي في كافة شؤون إعلام الدولة والحزب ، إلى أن قفزت في السنوات الأخيرة مجموعات جديدة من الكوادر إلى قيادة الإعلام الحزبي والرسمي ونازعته في مُلكه ، مجموعة يقودها “محمد حاتم سليمان” مدير التلفزيون المعروف وسكرتير الرئيس الصحفي وتضم هذه المجموعة “مها الشيخ” زوجة مدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق أول “محمد عطا” ،وهناك مجموعة أخرى تضم وزير الدولة وأمين الإعلام بالحزب في إحدى الدورات “ياسر يوسف” ووكيل وزارة الإعلام “عبدالماجد هارون” ، ويتحرك إعلاميو التنظيم بين هذه المجموعة وتلك حسب المتغيرات السياسية وانتقال النفوذ بانتقال القيادات من موقع إلى آخر !!

لم يكن “أمين” مرتاحاً لاختياري للموقع، خاصةً أنني كنت أهاجمه كثيراً في الصحف وأحمِّله مسؤولية فشل مؤسسات إعلامية حكومية عديدة ، وكان يعاونه كتلميذ نجيب ضابط الأمن المسؤول عن الإعلام “محمد أحمد دنقل” الذي ترقى إلى رتبة (لواء) ثم أُحيل للتقاعد برتبة (فريق) قبيل ثورة ديسمبر ،وكانت آخر وظائفه مدير شركة (الأقمار) التابعة لوزارة الإعلام ، وهي شركة حكومية مهمتها احتكار الإعلان الحكومي وتوزيعه وفق حصص محددة للصحف الموالية للنظام ومعاقبة المناوئة . لم تكن (المجهر) ضمن الصحف المصنفة في القائمة (أ) التي تُمنح حصة أكبر من الإعلان ، فوضعوها في القائمة (ب) ، بموجب تصنيف (الملكية) ومستوى الموالاة ، وفق رؤى ذاتية ومنطلقات شخصية، وليس بمعيار (الانتشار) ، فبينما كانوا يتفضلون على ثلاث صحف توزيعها أدنى من (المجهر) لسنوات بشيك شهري لا يقل عن (250) ألف جنيه، يوقع عليه الفريق “دنقل” ، كان نصيب (المجهر) الأعلى توزيعاً من الصحف الثلاث من (80) إلى (100) ألف جنيه فقط !!

أقر لي الفريق “دنقل” بعد سنوات طويلة، أنهم رفعوا وقتها تقريراً للنائب الأول لرئيس الجمهورية ، ضد تعيين مستشار صحفي له ، حتى لا يحصل تضارب بين مكتبي الرئيس والنائب، والدولة لم تهدأ أنفاسها بعد من صراع (المفاصلة) العنيف!

ظللت أؤدي مهامي بإعداد تقرير يومي عن اتجاهات الصحافة بخط اليد وأسلمه إلى النائب الأول ، صباح كل يوم لنحو شهر. كان يعتمد عليه ولا يطالع الصحف ، فعندما أسلمه التقرير بنفسي ومعه الصحف، يقول لي :(خليها معاك).

ذات يوم .. لاحظتُ تصريحين مختلفين لوزيري الدفاع الفريق “عبدالرحيم محمد حسين” والخارجية الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل” ، إذ أعلن “عبدالرحيم” عن وجود حشود إريترية على الحدود مع السودان ، بينما نفى “مصطفى” خبر الحشود . نقلت ملخص الخبرين ووضعت لوناً أحمرَ على العنوانين . لم أكن أعلق في التقرير ولكن كنت أرسم إشارات .

صبيحة اليوم التالي ابتسمتُ وأنا أرى وزيري الدفاع والخارجية يدخلان مكتب النائب الأول بعد استدعائهما بواسطة مدير المكتب. كان “شيخ علي” حاسماً جداً وحازماً وكان مهاباً في الحزب و(القصر) .

نواصل غداً .
الهندي عزالدين
المجهر