رأي ومقالات

عمسيب: الانقاذ سرقت طفولتنا والان قحت وعساكرها يسرقون شبابنا وفرصنا في أن نشهد السودان ناهضاً عزيزاً قبل موتنا


في البداية قضى نهم الناهمين علي ذكريات طفولتي ، لا يمكنني أن أنسى كيف بدأ سوق السجانة يتمدد و هو يقضم من الحي القديم ، كيف تمددت أنياب السوق لتهرس الأركان التي خبأنا فيها ذكريات الطفولة ، كيف سحقت المقطورات الضخمة الهدوء في جنبات الأزقة التي لاعبت فيها أصابعنا الصغيرة كرات “البلي ” الزجاجية ..

مات جدي وأظن أن السجانة ماتت معه ، الولد الصغير صاحب الأعوام العشرة نزل الخرطوم في أواخر العشرينات وسكن السجانة مطلع الثلاثينات ، جدي الذي قضي عمره كله ينظر الي الخرطوم كمدينته التي يحب ، كان خرطومياً حتي النخاع ، جدي يشبه السجانة ، فيه وفيها وداعة أهل المدينة وطيبة أهل الريف ، فيه و فيها عراقة تشعر بها ولا يمكنك وصفها ..

موت السجانة كان أيذاناً بغربة أبدية نعيشها ، بدأ الصحاب بمفارقة السجانة تحت ضربات التجار الجدد ، السماسرة القادمين من سقط لقط ، لن تتمكن أسرة أياً كانت عراقتها من أن تغمر قدميها في وحل سكن السوق دون أن تتسخ ، غادر أبي السجانة تاركاً خلفه أناساً لا يعرفون قيمة الحوائط التي شكلت دكاكينهم ، لا يعرف واحدهم أي عراقة تتجسد في هذه البيوت ، لم يعرف أن هذا السقف كان يمنح حمامات جدي الوديعة بيتاً ، حوض مياه محلاة بالسكر ، شتلات من الفل لها رائحة الجنة ، لم يعرف أن ذا الحائط كان يمنح سلم جدي متكأ ، كان يمنحه رؤية واضحة لغابات الحزام الأخضر التي أستحالت اليوم الي جبرة و شجرة و غيرها ..

شارع البوستة حوله بعض الخنادقة الي شارع المليون ، و شارع الدناقلة حوله بعض النازحين من الجزيرة الي شارع الورش ، زريبة العيش تحولت الي بنك ، و شارع الحرية تحول الي مكب نفايات كبير للحديد .. الخ

ثم قضت الأنقاذ علي فرصنا في أن نحيا حياة كريمة بين أهلينا ، فيغادر واحدنا البلد غضبان أسفاً ، أندلعت الاحتجاجات التي عملنا لأجلها سنيناً و نحن خارج البلد لتكتمل عبثية المشهد ، و قبل أن تزهر ورود الأحتجاجات سرقتها أيادى المخابرات بتغافل السودانيين ، الأنقاذ سرقت طفولتنا والأن قحت وعساكر قحت يسرقون شبابنا وفرصنا في أن نشهد السودان ناهضاً عزيزاً قبل موتنا ..

تتهدم المباني و يغيب الاحباب و تسرق الأحلام ، الهجرة الأولي كانت عن أصدقاء الصغر ، و ماتت معهم بعض الذكريات ، ثم عن أصدقاء الجامعة و ماتت معهم بعض الذكريات ، ثم عن البلد بحالها ، تموت البلد فينا و نموت نحن بعيداً عنها ، نتفرج علي ما تبقى لنا من روابط معها و هي تتحلل ، بين هذا و ذاك يقف الانسان ليسأل نفسه ما الذي تبقى من فلان القديم ؟

أشياء كثيرة وكثيفة هيجتها الشيبة رقم واحد ..

عبد الرحمن عمسيب


تعليق واحد

  1. هذا الشاب رائع العبارة أنيق الكلمة عميق الفكره
    السودان بخير مادام فيه أمثال هذا الفتي