مقالات متنوعة

الجيش والسياسة

لدي تقدير خاص للقوات المسلحة ككيان احترافي مهني (وليس سياسياً)، فبجانب دورها العظيم في حماية البلاد وتوفير الأمن لمواطنيها وحفظ استقرارها؛ وما إلى ذلك من وظائف محوِّرية تقنية أخرى؛ تضطلع بها وعليها أن تؤديها بالكثير من الانضباط والدقة، بحيثُ لا يشغلها شاغل آخر عنها، فإنني الماثل هنا ابن هذا الجيش بامتياز، مما يعطي علاقتي به قيمة مُضافة أخرى، (معنويِّة روحية) على الأرجح، فأربعة من أفراد أُسرتي؛ على رأسهم والدي عليه الرحمة وله المغفرة؛ عملوا خلال سنوات متفرقة في هذه المؤسسة، بل أن والدي كان من الرعيل الأول في هذا الجيش وشَهِدْ كافة مراحل تطوره خلال خدمته بالسلاح الطبي 1946 – 1961 من الجيش (الإنجليزي) إلى قوة دفاع السودان إلى القوات المسلحة السودانية، وعمل في أورطة العرب الشرقية (القيادة الشرقية) وفي جنوب السودان والعاصمة الخرطوم.
هذه العلاقة الوجدانية تجعلني أنظر إلى هذه المؤسسة بمزيجٍ من المحبة والانتماء المشوبان بنوعٍ من الحسرة والأسى حين أرى انشغال بعض (قادتها) بالسياسة أكثر من مستوجبات عملهم المهني الذي يفوق ما ينجزه نشاطهم في الفضاء السياسي المتوتر والمُرتج بمئات الأضعاف، ما يشغلهم كثيراً عن وظائفهم الرئيسة في تطوير وتحديث هذه المؤسسة السيادية الأكثر أهمية في البلاد (وفي كل البلدان)، خاصةً وإن الجيش السوداني يضم كفاءات عالية المستوى تتوفر على خبرات عسكرّية وقتالية قلّ نظيرها في دولٍ كثيرة.
بطبيعة الحال، فإنّه ليس من وظائف الجيش العمل في السياسة، ولا من طبيعته أن يحكم البلاد، خاصة بعد أن جُرِّب في هذا الصدد لبضعٍ وخمسين عاماً من (1958 – 1964) ومن (1969 – 1985) ومن (1989 – 2019)، لم تجنِ منها البلاد أية مكاسب حقيقية، بل تراجعت على كافة المستويات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتدهورت الأحوال باستمرار وتقسمّت البلاد وانفرط العقد الاجتماعي، وأصاب التدهور الجيش نفسه فتراجعت قوته وقل انضباطه وفقد الكثير من لمعانه وقوته على حساب بعض المليشيات والقوات الرديفة التي ما كان لها أن تبرزُ لولا انشغال المؤسسة العسكرِّية بالفعلِ السياسي اليومي وتعظيمه على دورها الوظيفي المهني الأسمى والأنبل.
وهنا، لا بُدّ من إشارة مهمة، وهي إنّ ولوج الجيش الفضاء السياسي لم يكن ليحدث لولا أن طلب منه السياسيون المدنيون ذلك، فهم من أدخلوه إلى هذا الوحل اللزج المُسمى سياسة، عندما طلب رئيس الوزراء عبد الله خليل (حزب أمة) 1958، بعيد استقلال السودان بأقل من عامين من الفريق إبراهيم عبود استلام السلطة في البلاد، بل والحّ عليه في ذلك، وبالتالي فإن السياسيين المدنيين هم من ورطّ العسكّر في السياسية بادئ ذي بدء، ثم لاحقاً وتحت إغراء السلطة وإغوائها واصلوا انقلاباتهم بدعمٍ من السياسيين أيضاً.
لذلك، فإن من واجبنا كمواطنين أولاً وكسلطة رابعة ثانياً، أن نّسدي النصح إلى المشير البرهان بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، بأن يعمل هو والقيادة العليا لإعادة الجيش إلى وظيفته الأساسيَّة وأن ينأوا به عن السياسة، وأن لا يستجيبوا لبعض النداءات الرعناء من بعض شذاذ الآفاق والانتهازيين من الساسة وزعماء القبائل بدعوته إلى استلام السلطة، فإنّ في ذلك توريط له فيما لا يطيقه وما لا يتسق مع طبيعته، وبالتالي سيجد نفسه مجدداً أمام غضب الجماهير وسخطهم ورويداً سيفقد احترامه لديهم ويصبح عرضة للانتقاد ممن (لا يسوى)، وهذا مما لا يقبله العسكريون أنفسهم. نتمنى أن نرى قواتنا المسلحة في أفضل أحوالها مزدهرة، محترفة، متخصصة، بارعة، وقويِّة، وأن نراها في كامل وقارها واحترامها وسؤددها ومجدها بعيداً عن السياسة والسياسيين، ولها منا كامل الدعم والمساندة والمحبة العميقة.

عبدالجليل سليمان
اليوم التالي