ليس بالخُبز وحده..
تتميّز المائدة السودانية، كما الشعب السوداني نفسه، بالتنوُّع والثراء. ففي ولايات دارفور وكردفان وأجزاء من الولايات الوسطى، يعيش غالبية السُّكّان على العصيدة، التي تُصنع من الدُّخُن وأنواع الذرة المُختلفة. وفي أواسط السودان، فإنّ الغالبية تتغذّى على الكسرة المصنوعة من الذرة أيضاً. وفي الشرق تسود العصيدة و”القسرة”، أما في الشمال، فغالب قُوت أهل البلد هو قُرّاصة القمح المحلي.
دخل الخُبز (الرغيف)، وخَاصّةً المصنوع من دقيق القمح الأبيض المُستورد، قبل بضعة عُقُودٍ فقط، خَاصّةً بعد المعونة الأمريكية وما تبعها من تسهيلاتٍ في استيراد الدقيق “الأسترالي” أو الفينو، في ستينات القرن الماضي. وبدأ بقليلٍ من المخابز في المُدن الكُبرى، كانت تمد المدارس والمُستشفيات والسُّجُون، إضافةً إلى المطاعم التي يأكل فيها العُمّال والمُوظّفون وجبة الإفطار. ثُمّ انتشر تدريجياً ودخل البيوت كعنصرٍ إضافي يزين المائدة أو “الصينية” التي تحتوي على الكِسْرَة كمُكوِّن أساسي، وما زال يزحف ويحتل المزيد من الأراضي، مدعوماً بسُهُولة الحُصُول عليه ورخص تكلفته، حتى صار هو الغذاء الرئيس في المُدن الكبرى.
في بلدان الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، حيث الخُبز هو الغذاء الرئيس، فإنّ الناس يحصلون على خُبزهم ليس من الأفران، وإنّما يخبزونه في المنازل. أمّا عندنا، فقد أخذ الناس إجازة واستقالوا تماماً من صُنع طَعامهم، فهم يصنعون الإدام فقط، وينتظرون الدولة لتصرف لهم الخُبز! وهذا هو مصدر البلاء الذي نَحنُ فيه: تغيير النمط الغذائي إلى نمطٍ غريبٍ مُستوردٍ، ولا نملك مُتطلباته المُستوردة، ولا تستطيع الدولة أن تتحمّل تكاليفه العالية. فنحن الدولة الوحيدة في هذا الكون التي تُصرف نصف ميزانيتها على استيراد وتوزيع الغذاء الأجنبي على بعض أفراد شعبها!
على الحكومة أن تخرج من غذائنا، وتُغادر مطابخنا إلى الأبد، وتترك التدخُّل في حياتنا وكأنّنا أطفال. لقد كبرنا وهُرمنا كمان، ولنا الحق أن نتصرّف كما نشاء، نأكل كِسْرَة أو عصيدة أو قُرّاصة أو بطاطس أو مكرونة أو بيتزا أو أرز أو خُبز منزلي، ما شغلها!
على الحكومة أن تتفرّغ لشغلها الكبير، وهو تسهيل عمليات الإنتاج، من توفير التمويل للمُزارعين، وتجهيز للبنية التحتية كقنوات الري والسدود، واستيراد الآلات الزراعية وخَاصّةً التراكتورات والحاصدات وغيرها، وعليها إنشاء المسالخ الضخمة لتعظيم عائد صادرات الثروة الحيوانية، وعليها بناء الطُرق والسكك الحديدية حتى يصل إنتاج الولايات المُختلفة إلى أسواق بعضها بأقلّ التكاليف، وعليها تدريب المُنتجين، وفطام المُستهلكين، وعليها تسهيل التسويق عبر فتح الأسواق العالمية، وعقد اتفاقيات التبادُل التجاري، وتسهيل الإجراءات البنكية لتحويل عائدات الصّادر، وعليها إصلاح النظام الضريبي حتى تحصل على نصيبها العَادِل من الدُّخل القومي، وتشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي، بما يُوفِّر فُرص العمل للشباب، والتركيز على التدريب، خَاصّةً التدريب التحويلي، لإكساب العاطلين مهارات العمل التي يطلبها السُّوق، وعليها أن تُوفِّر الأمن والنظام للناس في كُلِّ مكانٍ، عبر دعم الشرطة بالتأهيل والتدريب وتوفير المُعينات ورفع الرواتب لتكفي المعيشة.
وعليها أن تبدأ بنفسها، فلا تأكل في مكاتبها خُبزاً مُستورداً، ولا تصرف لسياراتها وقوداً مدعوماً..!
الصاوي يوسف
الصيحة