بعد الإعلان عن تأجيل نتائج التحقيق .. مجزرة فض الاعتصام .. للوجع وجهٌ آخر
في الوقت الذي ينتظر فيه الشارع السوداني وأسر شهداء ثورة ديسمبر على وجه التحديد، نتائج اللجنة الوطنية المُكلفة بتقصي الحقائق عن مجزرة فض اعتصام ميدان القيادة العامة في الخرطوم، والتي يرأسها المحامي نبيل أديب، في الأثناء يغرق السودانيون في هواجس الكورونا التي اقتحمت أبواب العالم من كل الاتجاهات حتى باتت أخطر مهدد تتعرض له البشرية في العصر الحديث، وما بين ليلة وضحاها انحرفت هموم الناس جميعهم من مضمار السياسة إلى فضاء القلق الصحي وتتبع إرشادات وزارة الصحة والإمعان في خارطة انتشار الفيروس حول العالم. وعلى الرغم من كل هذه الأجواء المفعمة بالمخاوف، لم يستطع مجتمع الثوار تناسي قضية الشهداء، بحسبان أنها هي القضية المركزية التي تدور حولها كل آمال وتطلعات الثوار واستشرافهم لمستقبل الفترة الانتقالية، إلا أن نبيل أديب نفى ما تردد بأن اللجنة ستسلم تقريرها بشأن نتائج التحقيق اليوم “الثلاثاء”، وعد ذلك نوعاً من الشائعات التي تهدف إلى “التشويش” على عمل اللجنة.
إعلان التأجيل
راج في منصات التواصل الاجتماعي بأن نبيل أديب سوف يعلن عن ما توصلت له لجنته في قضية مجزرة الاعتصام اليوم الثلاثاء، وهو ذات الأمر الذي وجد تفاعلاً منقطعاً النظير طغى حتى على أحاديث الكورونا، إلا أن أديب فاجأ الثوار وأسر الشهداء أمس الاثنين، قائلاً إن التحقيقات ما تزال مستمرة، ونوه إلى أن أجل عمل اللجنة يفترض أن ينتهي في الثاني والعشرين من شهر مارس الحالي، وأضاف بأن اللجنة ستطلب تمديد لـ(ثلاثة) أشهر أخرى، بعد انتهاء المدة الأولى، حتى تتمكن من إكمال التحقيقات بصورة شاملة، ودعا أديب للبعد عن “الشائعات” وأخذ المعلومات من مصادرها الرئيسية. التأجيل لثلاثة أشهر أخرى تنزل مثل صدمة “كورونا” على رؤوس الثوار الذين بذلوا كل غالٍ ورخيص لأجل نجاح الثورة، وظلوا يثابرون لمدة عام كامل للمضي قدماً في طلب القصاص لأوراح الشهداء، وعلى الرغم من غالبية الثوار لم يعلقوا كل آمالهم على لجنة أديب إلا أنهم ظلوا يتمسكون بالمسارات الوطنية لآخر المطاف أملاً في تحقيق العدالة وتقديم المتورطين إلى المحاكمات العدالة .
منظمة أسر الشهداء
بالمقابل لم يندهش أسر الشهداء من إعلان نبيل أديب تأجيل تقريره ومد الزمن إلى ثلاثة أشهر أخرى، مؤكدين أنهم لم يكونوا يوماً معلقين آمالهم على لجنة أديب، وأنهم ظلوا يراهنون بأن لجنة أديب سوف تجد نفسها في موقف لا تُحسد عليه ولن يكون أمامها سوى التمديد كل مرة. وقال رئيس منظمة أسر الشهداء عباس فرح في تصريحات لـ(الجريدة) أنهم كأسر شهداء لم يراهنوا يوماً على لجنة أديب في جلب العدالة التي يرجونها، ولكنهم ظلوا داعمين للمسار الوطني في تحقيق العدالة ظناً بإمكانية إصلاح المنظومة العدلية والجهاز القضائي في السودان، وأضاف فرح أن كل الدلائل وقرائن الأحوال تشير إلى أن قضية أبنائنا الشهداء تصطدم بعقبات كثيرة يدركها الشارع السوداني جيداً، ولكنهم في سبيل الحفاظ على مكتسبات الثورة التي مهرها أبنائهم بالدماء، ظلوا يفضلون المسار الوطني للتحقيق حول هذه المجزرة البشعة، مشيراً إلى أنهم لن يكتفوا بالصمت مجدداً وانتظار لجنة أديب التي لن تأتي بأية نتائج إيجابية مهما تطاولت في مد آجال تقريرها النهائي. وأكد فرح بأنهم في المنظمة سوف يتجهون إلى تدويل قضية الشهداء عبر منظمات الأمم المتحدة، وأنهم يدركون جيداً بأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لديهما الصلاحيات القانونية التي يتم بموجبها تخويل المحكمة الجنائية الدولية للتعامل مع أية جرائم ضد الانسانية وبغض النظر عن أن الدولة موقعة على ميثاق روما أم لم توقع.
هيومن رايتس ووتش
من قبل وفي نوفمبر من العام المنصرم، أجرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية العالمية، تقريرا أشارت فيه إلى أن المجزرة التي ارتكبتها أجهزة أمنية سودانية ضد المتظاهرين في الخرطوم، في يونيو الماضي، ترقى إلى جرائم حرب. وأظهر التقرير الذي صدر تحت عنوان “كانوا يصرخون ‘اقتلوهم’: حملة السودان العنيفة على المتظاهرين في الخرطوم”، أن هجوم القوات الأمنية السودانية على المتظاهرين العُزل، في الثالث يونيو الماضي، كان مخططا له. وقالت المديرة المساعدة في قسم أفريقيا في “هيومن رايتس ووتش”، جيهان هنري: “على الحكومة السودانية الجديدة إظهار أنها جادة في محاسبة المسؤولين عن الهجمات المُميتة على المتظاهرين بعد عقود من القمع العنيف والفظائع المرتكبة ضد المدنيين. عليها أن تبدأ بإحقاق العدالة في الهجمات الوحشية على المتظاهرين منذ ديسمبر الماضي، وضمان أن تكون جميع التحقيقات مستقلة، وشفافة، ومتوافقة مع المعايير الدولية”. وقالت المؤسسة في بيان أصدرته في أعقاب نشر التقرير الاستقصائي حول أحداث ما يُعرف بـ”مجزرة القيادة العامة”، إنها بالإضافة إلى تحليل الوثائق والفيديوهات والصور، قابل أكثر من 60 شخصا، بمن فيهم ضحايا مجموعة من الجرائم، ومن ضمنها العنف الجنسي، وشهود على الانتهاكات. وتقدر مصادر موثوقة للمؤسسة، أن 120 شخصا على الأقل قتلوا يوم الثالث من يونيو والأيام التالية. وأصيب المئات وفُقِد العشرات. قال شهود إنهم رأوا قوات الأمن وهي تلقي جثثا في النيل. انتُشلت جثتان على الأقل من النهر كانتا مربوطتين بالطوب وتحملان إصابات بأعيرة نارية في الرأس والجذع. وقالت “هيومن رايتس ووتش” إن على الحكومة الانتقالية إعادة النظر في لجنة التحقيق الخاصة بها، أو استبدالها بلجنة ذات تفويض واحد للتحقيق وجمع الأدلة عن جميع الجرائم منذ ديسمبر، ولديها سلطة إحالة القضايا إلى المحاكمة، بالاستناد إلى المعايير الدولية. ينبغي ألا يتردد التحقيق في تحديد كل من يخلص إلى أنهم مسؤولون، بمن فيهم الذين في أعلى المستويات الحكومية ، واتخاذ خطوات لتقديم أي شخص يتم تحديده إلى العدالة.
تجربة سابقة
في يوليو من العام 2019، عندما تصاعدت المواكب تطالب بالقصاص لشهداء الثورة، وجه النائب العام في السودان وقتها، تهماً جنائية متعلقة بجرائم ضد الانسانية بحق ضباط وعناصر من الدعم السريع، لدورهم في فض اعتصام القيادة العامة. وكانت لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة، قالت آنذاك، إن ثمانية ضباط على الأقل سيتهمون بارتكاب جرائم ضد الإنسانية لدورهم في ما وصف بالقتل الجماعي للمتظاهرين في أوائل يونيو. رئيس لجنة التحقيق التي كونها النائب العام حينها، فتح الرحمن سعيد أوضح في مؤتمر صحفي مشهود أن ضابطا برتبة لواء وآخر برتبة عميد قادا عملية الفض. وأشار إلى أن الضابطين خالفا تعليمات وجهت لهما بالتعامل مع منطقة تسمى “كولمبيا” وليس ساحة الاعتصام. وقال إن التحقيق خلص إلى أن سبعة وثمانين شخصًا قتلوا، بينما جرح مائة وثمانية وستون أخرون، وأضاف أن أفرادا من قوات مكافحة الشغب قاموا بإطلاق النار بكثافة وبشكل عشوائي على المتظاهرين. وبموجب القانون العسكري السوداني، يمكن أن تؤدي الجرائم ضد الإنسانية إلى عقوبة الإعدام. وكان النائب العام أمر بتشكيل لجنة للتحقيق في فض اعتصام قيادة الجيش استجوبت شهود عيان وعددا من القادة العسكريين ونظاميين لهم صلة بفض الاعتصام.
أصل الحكاية
ظل النشطاء والثوار، يتهمون المجلس العسكري الانتقالي وقوات الدعم السريع، بارتكاب المجزرة، بيد أن المجلس العسكري وقتها نفى مراراً ضلوعه في الجريمة أو التخطيط لها، أو إصدار قرار بفض الاعتصام، وحمّل المسؤولية لقادة عسكريين تصرفوا على مسؤوليتهم. ولنفي التهمة عنه، شكّل المجلس العسكري الانتقالي لجنة تحقيق في الأحداث، كما شكّل النائب العام لجنة تحقيق ثانية . ولم تقنع تحقيقات اللجنتين قوى إعلان الحرية والتغيير ولا ذوي الضحايا، وهو ذات الأمر الذي دفع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في سبتمبر من العام الماضي، عن تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في جريمة فض اعتصام القيادة العامة. وحدّد قرار حمدوك ، تكوين اللجنة من 7 أعضاء تتم تسميتهم لاحقاً، وأن تتشكل برئاسة قاضٍ من المحكمة العليا، وممثلين عن وزارات العدل والدفاع والداخلية، و3 محامين مستقلين. وتقرر إكمال اللجنة مهامها في سقف زمني مدته 3 أشهر، وأعطيت حق التمديد لفترة مثيلة بحسب الضرورة، واشترط أن تعمل باستقلال تام عن أي جهة عدلية أو قانونية، وذلك بحسب قانون تكوين لجان التحقيق لعام 1954. كما منح القرار اللجنة سلطة الاستعانة بمن تراه مناسباً، بما في ذلك الدعم الأفريقي أو غيره، وسلطة تلقي شكاوى الضحايا وأولياء الدم والممثلين القانونيين.
عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة