الشحن بالكلمات
في قاعة مجلس الدولة الفرنسي وقف نابليون قائلا: لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأنّي كاثوليكي حقيقي. ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأنّي مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان”..
ويورد البعض أنّه لم يفهم أي رجل كبير في العالم منذ الإسكندر المقدوني والقيصر كيف ينبغي جذب الجماهير والتأثير على مخيلتها مثلما فهم نابليون؛ فقد كان يعرف كيف يعزف على أوتار الجماهير ويدهشها، ويعتبرها سلاحًا خطيرا لا يمكن التفريط فيه بأي حال من الأحوال، لذا دائما ما كانت الجماهير حاضرة في لحظات انتصاره، وخطبه، وخطاباته، بل وحتى حينما كان على فراش الموت.
في كتابه “سيكولوجية الجماهير” طرح غوستاف لوبون سؤالا عن كيفية التأثير على خيال هذه الجماهير ونيل إعجابها أو تعاطفها وكسبها لصالح فكرة المتحدث؛ ويجيب عن ذلك بأنّ القائد “أنطونيو” لم يكن بحاجة إلى بلاغة أو كلام متقعر ليستنهض همة الشعب أو يحرضه على الاقتصاص من قتلة قيصر، فقط خرج على الجماهير حاملا في يده وصية قيصر وأراهم جثته وهي مسجاة تسبح في دمائها.. مقدمًا إليهم صورة مؤثرة مباشرة بلا تأويل ومصحوبة بكلام مؤثر.
وضرب غوستاف مثلا على ما تفعله الصورة في الناس من أفاعيل وتحريك للمشاعر بالقول أنّ الأنفلونزا قتلت في باريس خمسة آلاف شخص لكنّ الرقم برغم هوله في ذلك الوقت لم يؤثر على المخيلة الشعبية فقد كانت الناس تسمعه في شكل نشرة أسبوعية وإحصائيات. ولكن لو حدث في نفس اليوم حادث أودى بخمسمائة شخص فقط وتم تجسيد ذلك وعرضه على شكل صور مرئية فسيولد ذلك تأثيرا ضخما وهائلا على النفوس.. فالناس تتأثر بحادثة صغرى مصورة ومحشود لها أكثر من تأثرهم بالمصائب الكبرى غير المصورة.
ونموذج على ذلك ما نعيشه هذه الأيام من حالة فزع عالمية جراء فايروس كورونا المستجد، فقد ساهمت الكلمة وقوة الصورة المصاحبة أو المصنوعة في اتساع قاعدة الجزع والهلع، كما استفادت منه شرذمة “الاستثمار في الأزمات”؛ فبات العالم يعيش أسوأ كوابيسه الصحيّة والاقتصادية والاجتماعية، وصارت كورونا لغة البشرية المشتركة؛ في حين أنّ عدد ضحايا الملاريا والحوادث المرورية في العالم يتجاوز ضحايا كورونا بمئات الآلاف؛ ففي المناطق المطيرة تحصد الملاريا روح طفل بريئة كل دقيقتين، ويزيد معدل الإصابة بها بنحو 200 مليون حالة سنوًيا؛ بينما تزهق الحوادث المرورية أرواح أكثر من مليون شخص في العام.
ولكن كما قال لوبون أنّ الوقائع بحد ذاتها ليست هي ما تؤثر على المخيلة الجماهيرية وإنما طريقة العرض؛ فعن طريق تكثيف هذه الوقائع وتعدد سبل عرضها ونطاق نشرها تتولد فينا صورة تملأ الروح، وتصبح أشبه بالهوس..
كثير من الناس -وأنا منهم- لم يرَ صورة مجهرية لفايروس كورونا حتى الآن، بل لم نهتم لذلك أصلا، وبرغم ذلك فعل فينا من التخويف والهلع ما فعل، فصببنا كل جهودنا للنأي عن شره. والحقيقة أنّ وجود الصورة الملموسة ليس ضروريا أحيانا؛ فحتى إن لم تكن موجودة باستطاعتنا خلق صورة من خلال الكلمات التي تترك أثرًا وهلعا في النفس أكثر من الصورة الحقيقية نفسها؛ ولذلك يقول غوستاف أنّه إذا لم تكن تمتلك هذه الصورة الملموسة فيمكنك أن تثيرها في مخيلة الجمهور بواسطة الكلمات، وعن طريق الاستخدام الذكي والصائب لها تستطيع أن تفعل الكلمة في الجماهير فعل السحر؛ فالكلمة يمكن أن تجعل الناس إعصارًا أو طوفانا بذات قدرتها على جعلهم نسيما وماءً رقراقا. فكم من كلمة قتلت نفسًا وأخرى أنقذت أناسا كانوا على حافة الذبح.
لا تلتفت الجماهير كثيرًا لمحاججات العقل والمنطق، لأن العقلانية دائما ما تسقط بالضربة القاضية أمام قوة العاطفة وسلاح المشاعر، والدليل على ذلك الخرافات الشعبية لا سيّما الدينية منها والتي تناقض أبسط حدود المنطق والعقل، فمن يصدق الآن أنّ الشيخ فلان مثلا عبر النهر مشياً على قدميه والماء في عز فيضانه، أو ذلك الشيخ الذي شرب النهر كله حتى يجف ويعبر النّاس نحو الضفة الأخرى؛ ولكن رغم ذلك تجد آلافا مؤلفة من المريدين والأتباع يؤمنون بذلك، ويتعصبون له لدرجة نفخ الأوداج، وربما إعلان الحرب عليك إن حاججتهم بالمنطق؛ وما دافعهم في ذلك إلا عاطفة الإيمان وأوهام الكرامات وفتوح الأولياء الصالحين..
إنّ الخطباء البارعون يخاطبون عواطف الجماهير لا عقولها، وتجدهم دائما يحاولون فهم تلك العواطف الجياشة، والتظاهر بمشاركة الجماهير نفس العواطف والإحساس، ومن ثمّ شحنها بالصور المحفزة المناسبة التي تصب في صالح الخطيب، فعلى -حد غوستاف- أنّ الخطيب إذا اتبع فكره الخاص وليس فكر المستمعين فسيفقد تأثيره عليهم.
فهو يرى أنّ قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، فالكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق تملك قدرة أكبر على التأثير والفعل، ويستدل على ذلك بكلمات على شاكلة: ديمقراطية، اشتراكية، مساواة، حرية. ويصفها بأنّها تحتاج مجلدات كاملة لشرحها وفك غموضها؛ ومع ذلك توجد قوة سحرية بين ثنايا حروفها؛ كما لو أنّها تحتوي على الأمل، والحل لكل المشاكل التي تمر بها الجماهير؛ فما إن تلفظ هذه الكلمات بنوع من الخشوع والتظاهر أمام الجماهير حتى يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، أو خارقة للطبيعة حتى.
عند غوستاف لوبون تختلف الصورة التي تشكلها الكلمات من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب، كما تتميز الصورة بخاصيتي التغيير والارتباط المؤقت ببعض الكلمات. حيث يمكن للكلمة الواحدة في لغة ما أن تتغير ببطء عبر العصور والقرون؛ فهل كلمة “الجمهورية” التي كانت تعني عند الإغريق مؤسسة أرستقراطية مشكلة من اتحاد مستبدين يهيمنون على جمهور من العبيد الخاضعين للاستعباد المطلق؛ هي ذات معنى “الجمهورية” اليوم؟ بالتأكيد ليست كذلك.
خذ أيضًا كلمة “الحرية”، والتي لم تكن تعني في فترة من التاريخ غير صورة نمطية ذهنية مكونة من طرفين؛ عبد وسيد؛ أمّا اليوم فالحرية تعني اللارق واللاسجن، وتعني حرية المعتقد، وحريّة الرأي والتعبير، وحرية التملك والحق في الحياة، وحرية الاختيار.. مجموعة من المعاني التي تشكلت على مدار التاريخ لتصل لمعاني عصرنا اليوم.
ينصح غوستاف القادة والحكومات أنّه عندما تشعر الجماهير بنفور عميق من الصور التي تثيرها بعض الكلمات لاسيما بعد الانقلابات السياسية والمتغيرات فإنّ واجب رجل الدولة الحقيقي هو تغيير هذه الكلمات دون المساس بذاتها، أي تلبيس مؤسسات الماضي بكلمات جديدة، وبمعنى أوضح استبدال الكلمات التي تثير في المخيلة صورًا مزعجة بكلمات أخرى تصرف الناس عن حدة الصور المزعجة السابقة، ففي فرنسا أصبحت كلمة “ضريبة” تعني “مساهمة عقارية” وصارت “ضريبة السيطرة والتكليف” هي “ضريبة المهنة”.
بالطبع، عصر ما بعد الحداثة يلزم القادة بأنّ يدعو الجماهير لأداء “الخدمة الوطنية” بدلا من مطالبتهم بالإذعان لـ “التجنيد الإجباري” حتى وإن كان المعنى واحدًا.
محمد علي العوض
الراكوبة