مقالات متنوعة

حكومة حمدوك.. هل بدأت تَفُكُّ قُيودَها؟؟!


المتابع لأداء حكومة د. حمدوك عقب إذاعة بيان المصفوفة، وعقب مؤتمر لجنة الطواريء الإقتصادية العليا الأخير، يكاد يلحظ وبصورة لافتة أن حالة من النشاط المفاجيء قد بدأت تَدُبُّ في أوصالها، وأنها أيضاً بدأت تغادر مربع البطء والسلحفائية الذي ميَّز أدائها طوال شهورها السابقة. فالجدية وإدراك خطورة الأوضاع يمكن تلَمُّسَهما بسهولة في نبرة كل منسوبيها الذين تحدثوا بعد ذلك، خصوصاً في لجنة إزالة التمكين. فمالذي تغيَّر وأخرج السيارة من الوَحْل؟

(٢) في ظني أن الجميع داخل مجلس الوزراء، وفي أرْوِقة قحت، قد بدأ يُدرك أن سيْر الأمور بوتيرتها السابقة تلك يشكل خطراً كبيراً على هذه الحكومة، وبالقطع سيُغرِي المتربصين بها من قَلْبِ الطاولةَ عليها، وأنها بالتالي لن تُكمِل فترتها.

(٣) رَبْط ما ورد في بيان المصفوفة بتواريخَ وآجالَ محددة، تعكس الجدية والتصميم والإصرار على التنفيذ.

(٤) أيضاً هنالك شواهد كثيرة تشي بأن مواقف وتباينات كثيرة سادت بين مكونات هذه الحكومة، خلال الشهور الثمانية التي أعقبت تكوينها، قد تم حسمها. وهي كما يلي:

– خيار المساومة مع رموز النظام البائد للحفاظ على مصالحهم مقابل تيسيير وعدم عرقلة عمل هذه الحكومة، أو ما عُرِف في الأدبيات بِ “الهبوط الناعم” للثورة. هذا الخيار قد إنتهى للرفض، وتمَّ حسمَهُ لصالح تيار عدم المهدانة وإجتثاث الفساد، بدعوىٰ أن خيار الهبوط الناعم فيه خيانة لدماء الشهداء، وتنكُّر لمباديء الثورة، وترسيخ لمبدأ إفلات المجرم من العقاب.

– موقف حميدتي الحاسم، وعباراته الواضحة، التي أطلقها في المؤتمر الصحفي الأخير للجنة الطوارىء الإقتصادية العليا، في تقديري وضعت الكثير من النقاط على الحروف، وحسمت خيارات الرجل لصالح اصطفافه إلى جانب خيارات الحسم، وضرب فلول النظام السابق. هذا الموقف أرسل أشارة حمراء شديدة الوضوح لعسكر مجلس السيادة ألَّا رِدَّة للوراء، ولا مجاملة لأذناب النظام البائد، الشيء الذي فرض عليهم إعادة تموضعهم، والتخلِّي عن فكرة الإنقلاب التي كانت تتلجلج في صُدورهم بين الفيْنة والأخرىٰ، لأن إنقلاباً كهذا هو في ضَرْبِ المستحيلات مع وجود حميدتي، كما فصَّلنا في مقالٍ سابق.

(٥) الصمت الرهيب الذي يُخيِّم على الفريق البرهان حالياً تجاه ما تقوم به لجنة إزالة التمكين، في ظنِّي يؤكد ما ذهبنا إليه في الفقرة السابقة، ويدعم أيضاً فرضية أن الرجل لديه هواجسه الخاصة، وإلتزامات تجاه رموز النظام البائد، وتجاه جهات خارجية، بالمحافظة على مكتسبات ومصالح الجميع، وإعادة الأمور لدولة حُكْم العسكر في أقرب فرصة ممكنة، لكن يبدوا أن الرجل قد خاب فألُهُ بهذا الموقف المستجد للفريق حميدتي.

(٦) الطريقة التي تمت بها إقالة والي الخرطوم، التابع لمؤسسة الجيش، تُؤكِّد أن د. حمدوك بدأ يُدرِك أن عسكر مجلس السيادة ليسوا بتلك القوة التي تصوَّرها، وأنه يُمكِنَه مناكفتِهم.

(٧) العمل الكبير والرائع الذي تقوم به لجنة إزالة التمكين في تفكيك مؤسسات النظام البائد، واسترداد الأموال المنهوبة، في إعتقادي يُخفِّف كثيراً من الضغط والإنتقاد الذي تتعرض له الحكومة بسبب إخفاقها في معالجة الضائقة الإقتصادية، ويرفع من أسهمها لدىٰ المواطن.
كما أنه أيضاً يساهم في قطع الطريق على الإنقلاب، لأن أي إنقلاب في هذه الظروف سيُفسَّر من قِبَل الشعب على أنه حماية للفساد والمفسدين.

(٨) إدراك طاقم الحكومة أن عملية السلام التي تدور مفاوضاتها حالياً في جوبا ليست بالعملية السهلة، والخالية من التعقيدات، كما تخيَّلوها، كما أدركوا أيضاً أن حركات الكفاح المسلح متباينة جداً في نظرتها لعملية السلام، ورؤاها مختلفة كثيراً، كما أنها بدأت تمارس إبتزازاً مكشوفاً على الحكومة، عطَّلَ من إكمال مؤسسات الحكم الإنتقالي، لذا ليس من الصواب والحِكْمة إنتظارها إلى أجلٍ غير محدد، الشيء الذي استوجب حسم إكمال إختيار الولاة، وتكوين المجلس التشريعي الإنتقالي بصورة مؤقتة، ليُعاد تكوينهما من جديد بعد الوصول لصيغة سلام نهائية، سَيَّما وأن الحاجة أضحت ماسَّةً لوجودهما.

(٩) كل المعطيات آنفة الذكر تُوحِي أن محركات عربة الحكومة المتعطلة قد بدأت في الدوران، وأن لا خطر في الأفق المنظور من إنقلابٍ قادم يقطع عليها الطريق، ويُعيد الأمور للوراء، وأن الصراخ والعويل الذي يُطْلِقه زواحف النظام البائد هذه الأيام هو نتيجة الضربات التي تُوجَّه لهم، وإحساسهم أن الأمور تسير في غير صالحهم. لذا لا أعتقد أن هذا الصراخ سيستمر طويلاً، بل أجزم أنه سيَخْفُتَ كثيراً في الأسابيع القادمة إذا استمرت لجنة إزالة التمكين في العمل بوتيرتها الحالية، لأن ذلك سيُضْعِفَهم كثيراً، وسيكشف جرائمهم أمام الشعب، وسينزع عنهم أوراق التوت التي كانت تخفي سوْءاتهم، وسيُقْنِعَهم أن معركتهم خاسرة، مما سيقطع عنهم عشم العودة للمشهد مرة أخرى.

التفاؤل الذي صبغ سطور هذا المقال يجب ألا يُلْغِي حقيقة أنه تفاؤلٌ مشوبٌ بالحذر نتيجة وجود خطريْن عظيمين يَكمُنان في نهاية الطريق. الأول يُمْكِن أن يكون قريباً، وقد يحدث في أيَّة لحظة، وهو حدوث عملية أمنية كبيرة، تخلط الأوراق، وتُوَفِّر فرصة مواتية للإنقضاض على هذه الحكومة من قِبَل قُوىٰ داخلية وخارجية، وأنا هنا أُشير تحديداً لعملية تصفية كبيرة تحدث لأحد رموز المشهد الأساسيين، وخصوصاً لحميدتي. لأن عملاً كهذا سيفتح أبواب جهنَّم على السودان، كما أن تداعياته لا يمكن تُخيُّلها. الخطر الثاني بعيد، ويتمثَّل في عدم توفر أية ضمانات لإستمرار حميدتي على موقفه الحالي، وعدم تغليبه لأجندته الخاصة في أي مرحلة من مراحل التجاذب السياسي. لكن الحكمة والعقلانية في ظنِّي تقتضيان عدم نبش هذا الإحتمال الآن، وغضَّ الطرف عنه، على الأقل في هذه الظروف، ريثما يفرض نفسه على المشهد، ويكون عندها لكل حادثةٍ حديث.. والسلام..

علي مالك عثمان
الراكوبة