وجها لوجه مع قوش “2”
كما ذكرت في المقال الأول فقد ذهب تفكيري في اتجاهات متعددة وخطاي تسوقني إلى حيث يجلس مدير جهاز الأمن الأسبق الفريق أول صلاح قوش الذي لم يسبق أن التقيته وجها لوجه،بكل صدق تملكني شعور مفاجئ مفاده أن الرجل لن يحسن استقبالي، وأنه وافق علي مقابلتي نزولاً لرغبة صديقه مبروك مبارك سليم فقط ولم يشأ أن يدخله في حرج.
سيطرت علي هذه الهواجس وأيقنت بفشل مهمتي في إقناعه بالحديث لجهة انه رجل أمن متمرس كان يجبر معارضو نظام حكم لعب دوراً مؤثراً في إطالة عمره علي الحديث تحت وطأة الترهيب والتعذيب،ورغم ذلك لم انحن لعاصفة ظنوني ولم أفسح لها مجالاً للسيطرة على تفكيري وأنا على بعد خطوة واحدة من دخول الغرفة للالتقاء بشخصية غريبة تمكنت من فرض وجودها المؤثر لأكثر من عقدين من الزمان دون أن تغيب عنها شمس النجومية.
عندما دلفت إلى الغرفة كان قوش يجلس قبالة مدخلها علي مقعد وثير، مباشرة ذهبت ناحيته وعلى وجهي ارتسمت ابتسامة لم أعرف سببها، هل تعود إلى ظفر صحفي بصيد ثمين أم هي الحالة السودانية التي تميزنا بالابتسام تلقائيا عند مصافحة أحدهم،وبعفوية بدأت لي غير مصطنعة نهض قوش من مقعده وبادلني ذات الإبتسامة وهو يلقي علي التحية بذات طريقتنا الحميمية، إستقباله المهذب وكلمات الترحيب الموغلة في البشاشة أزالت شيئاًمن هواجسي وظنوني.
وبعد جلوسي وعقب تبادل التحايا معه التقط الوزير الأسبق مبروك قفاز الحديث بعد أنه أخبره أنني من الصحفيين المهتمين بقضايا الولايات ومن أنصار الحرية والتغيير،بعد ذلك سألني الدكتور سليم عن الأوضاع في السودان وكان قوش ينصت فقلت له أن البلاد تعاني مخاض التغيير الذي اتوقع أن يستمر وقتاً ليس بالقليل إلى ان تستوي سفينة الثورة علي الجودي وأن عبور المرحلة الحالية يحتاج إلي صبر وصولاً إلي العملية الديمقراطية التي ننشدها. *كان قوش ينصت وهو يضع علي الطاولة التي أمامه ثلاث أجهزة هواتف ينظر الي مكالماتها الواردة ولايرد عليها، وبدأ الرجل هادئاً وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة تنم عن ثقة وربما راحة نفسية، حتي مظهره وهو يرتدي ساعة فاخرة وقميص شبابي كان يوحي بأنه تخلص عن عبء كبير وبات أكثر تحرراً من الماضي الذي كان يتولي فيه تأمين استمرارية بقاء نظام استنفد أغراضة منذ عشريته الثانية.
عقب نهاية حديثي مع مبروك توجهت بنظري ناحيته وقلت في نفسي لماذا لا أحاول إقناعه بالأداء بتصريح مقتضب عن الأحداث مابعد الثورة، وحينما جهرت له برغبتي هذه أعتذر بلطف وتهذيب فقدرت ذلك ولم ألح عليه احتراما لوجهة نظره،وطلب مني ألا أنشر مايدور في الغرفة من حديث، ومجدداً لم أعترض علي ماقاله إيمانا مني بأن لكل إنسان تقديرات. *ولكن بعد ذلك وللأمانة لم التزم بما طلبه مني ليس خيانة للعهد ولكن لأنني كنت أبحث عن دعم لحكومة حمدوك التي تولت مهامها لتوها وسط بحر متلاطم الأمواج وقتها، وقد اخترت من حديثه ماقاله بشأنها حينما أكد علي ضرورة دعمها والصبر عليها حتي تتمكن من إكمال الفترة الانتقالية وتقود البلاد الي محطة العملية الديمقراطية التي ينشدها الشعب السوداني.
وبدأ الرجل موقنا بأهمية حدوث تحول ديمقراطي حقيقي بالبلاد، كان حديثه يجري علي لسانه بهدوء وتركيز عال مقرونا بتعابير وجه ارتسمت عليها الجدية وهو الأمر الذي اضفي علي حديثه مصداقية اثبتتها الايام. *لم يتوقف حديثه في محطة دعمه لحكومة حمدوك بل تشعب وذهب في اتجاهات متعددة بعضه أيضا اخترت نشره لأهميته القصوى، فرجل المخابرات الأبرز في الشرق الأوسط وصل إلى قناعة راسخة مفادها أن أكبر المخاطر التي تهدد البلاد تتمثل في تطرف اليمين واليسار واتفقت معه تماما في هذه الجزئية التي تشكل قناعة لدي كثير من السودانيين الذين يؤكدوا أن البلاد ظلت تدفع منذ فجر استقلالها ثمن صراع عبثي بين الإسلاميين واليسار، رؤيته ذهبت في اتجاه ترسيخ الوسطية التي شدد عليها كثيرا باعتبارها مخرجا من كل أزماتنا الموروثة. *لم أندهش من حديثه حول أهمية إكمال الحكومة الانتقالية فترتها ثلاثية السنوات وصولا إلي محطة الديمقراطية التي ينشدها رغم أنه كان عنصرا فاعلا في نظام جسد الديكتاتورية في أقبح صورها، كما لم أتعجب من حديثه المتعلق بعبثية صراع اليمين واليسار الذي لا ناقة للسواد الأعظم من السودانيين فيه ولا جمل، احترمت رأيه لأن رجلا مثل قوش لايصل إلي مثل هذه القناعات من فراغ وتجربته الطويلة تجعل مراجعاته ذات قيمة فكرية عالية.
صديق رمضان
الراكوبة