مقالات متنوعة

من يتحكّم بالشعب السوداني؟


نعيش بأجسادنا في عصر لكن عقولنا ما زالت تعيش في العصور الوسطى، هذه الجملة من المفترض أن تكون ضمن خاتمة المقال، غير أني آثرت أن أجعلها البداية، لعل ما تثيرها من تساؤلات، قد تساعد في بحثنا عن إجابات تبدو في ظاهرها بديهية لكنها عصيّة وفقاً للمعطيات المحيطة بها. عمد الإنسان في الأقطار المتقدّمة سواء في الغرب أو الشرق، إلى البحث عن وسائل أكثر راحة له فسعى إلى اختراع الأجهزة والمعدات بأنواعها وأحجامها وتسخيرها لخدمته، صنع أدوات الإضاءة والتليفزيون والمراوح والمكيفات والسيارات والأبواب وأجهزة التصوير والرقابة وربوتات التشغيل في المصانع والمعامل، بل وحتى الطائرات والأقمار الصناعية ومحطات الفضاء والكثير المثير من صناعات الإستخدامات العسكرية، إذن فهو مجال خصب سرح فيه خيال الإنسان وأبدع فيه لراحة نفسه، لكن أي إنسان.

جلس هذا الإنسان وتأمل في إمكانية أن يؤمّن مزيداً من الراحة على نفسه للمزيد من الرفاهية، ففكّر في أن يُشغّل تلك الأجهزة عن بُعد ليكسب مزيداً من الوقت لاستثماره في مساحات أخرى تضيف إلى رفاهيته ورصيده منها، فدَفَعَه تأمّله وقادته حاجته ليخترع أجهزة التحكّم عن بُعْد. ولعله لم يتوقف استخدام أجهزة التحكّم عن بُعْد حصراً على شعوب تلك البلدان، وإنما أصبحت الإستخدامات متاحة بقدر وافر في الكثير من الدول التي يرزح غالب مواطنوها في فقر مدقع، وهنا وفي هذه الجملة نتوقّف لنفعّل أذهاننا عصفاً بهدوء وننتقل من ذلك الجهاز الجامد الذي يعمل بوسائط إلكترونية وإشعاعات تحت الحمراء وضوء، ليرسل أوامر إلى جهاز متلقّى آخر جامد مثله، ننتقل إلى التحكّم عن بُعْد من آمِرْ بعقل يفكّر عبر وسائط مغايرة إلى متلقّى مأمور يملك هو الآخر عقلاً لكنه إما يجمّده أو يفكّر به خارج سياق المعاصرة.

تقول الكاتبة الأمريكية (ترش ميرسر) “لا يمكنك التلاعب بالأشخاص الذين يعرفون كيف يفكّرون بأنفسهم”، تبدو المقولة مفسّرة لمضمونها في الظاهر والباطن، ولا يمكن لنابه أن يُخطئ الرسالة التنبيهية القوية والواضحة من ورائها، ولكن هل يشمل ذلك كل أنواع المُتَحَكّم فيهم، أي هل هو قول مطلق المضمون والشمول؟، وهل ينطبق ذلك على من تُلامِس حواسه بشكل حسّي فقط أم يتمدد المعنى ليشمل في الوسيلة التحكّم أو التلاعب المعنوي والتوجيه العقلي عن بُعْد؟ ثم هل ينسحب ذلك على الفرد أم يجمع كما هي العبارة التي تقول “الأشخاص”، برغم أن القصد هنا للمفرد ولكن في صيغة جمع. حسناً فالنُسقط كل ذلك على مجتمعنا السوداني، ودعونا نتأمل كيف يمكن لهذا المفهوم أن يوائم تأثيره ويفّعله علينا أفراداً وشعب وفقاً لنمط التفكير الذي هو من صُنعنا ويتحكّم فينا.

في مثال جهاز التحكّم عن بعد الذي أوردناه أعلاه، لا بد أنك قد لاحظت أن هناك مُتحكِّم، ووسيلة التحكّم والرسالة أو أمر التحكّم والوسيط الناقل، ثم المُتلقّي أو المتحَكّم فيه. إقتبست هذه المقولة في محاولة لقراءة الواقع الحالي الذي يعيشه السودانيون في ظل الفترة الإنتقالية بما فيها من مفارقات وتجاذبات، وكيف أن التحكّم عن بُعْد يهيمن ليس فقط على الأفراد والتنظيمات، ولكن على شعب بأكمله. الحالة السودانية اليوم تنطوي على عناصر غالبها يمكن تصنيفها في خانة المتلقّي أو المُتَحَكّم فيه، قلّة فقط تندرج في مقام المصدر أو تملك القدرة على التحكّم، وبالتالي قادرة على التفكير بنفسها. فحالة الفِصام هي الطاغية ليس بين الفرد والجماعة، والجماعة والوطن، بل أيضاً بين الفرد ونفسه، أي أن ينفصم العقل عن العاطفة ويصبح الخصام هو سيد الموقف، فتتباين أقوال الشخص مع أفعالة، وهو مفهوم أعمق مما يُعرف بالنفاق، بمثال أكثر وضوحاً، قد يتسق عقله مع رسائل تَحَكّم مُطلقة في فضاء التواصل، بينما تتعاشق عواطفه مع افعال أخرى يراها أمامه فتجذبه وتأسره وتحبسه، هذه التقاطعات المادية والمعنوية بعمق تأثيراتها، هي التي نراها اليوم تعبث بالبصيرة السودانية وتبخ على عدسات منظارها غشاوة سميكة تعميها عن أن تتنسم أي خُطَى راشدة.

تحفظ ذاكرة التاريخ السوداني، أنه وبعد كل تجربة حكم دكتاتوري، يتشبّع الشعب بالمعاناة فينتفض ويثور، ويخلع عنه الديكتاتور واليونيفورم ويفك القيود التي تكبّله، لكنه ينسى أن يكبّل المجموعات المتحفّزة للإنقضاض على نتائج الثورات، مثل هذه المجموعات تجدها في كل عهد مُنظّمة ومتأهِبة ولا تُطل على مسرح الأحداث إلا وهي في لحظة قدرة على القفز إلى دفّة القيادة، رصيدها في ذلك قرون الإستشعار المتمثّلة في تلاهفها رغم تنافرها، تتحسس بها بعضها البعض وتتخاطب عبرها وتعمل معاً من أجل أن يكتمل الفصام بينها وبين الشعب وتطلعاته وتتحاشى أن تتصادم فيما بينها، أولاً كشرط لنجاح وثْبتِها وتحكّمها على مفاصل النتائج، وثانياً اختبار قدرتها على إخماد انفلاتات الثوار من هنا أوهناك من براثنها قبل أن تستقيم على الأمور وتتمدد عليها، فهي تتميّز بقدرة عالية على ترتيب أولوياتها. إنّها فصائل ليس في قاموسها عبارة الإستحياء، وهي كذلك تدوس على عفاف المستحين وإيثارهم، وليس الإيثار في هذا الموقف إلا استغباءً يمتطيه الإنتهازيون. ليس بالضرورة أن نجسّد هؤلاء في أشخاص وأسماء، فالأشخاص والأسماء أنفسهم تحوّلوا إلى دُمي ابتعدت منذ وقت مبكّر عن وجدان الأمّة وأصبحت ثّلّة متحفّزة، حرّكها التحكّم عن بُعْد.

ليس غريباً إذن بهذا الفهم، أن يتّسع مجال الإنفصام بين الشعب الذي يثور على الأنظمة المتسلّطة كلما ضاقت عليه الحياة، ليقع في براثن المنظومات المتحفزة من داخله والتي لها قدرة على التخدير المعنوي تمهيداً لإجراء عملية الإنفصام بهدوء يفصل الإرتباط بينها وبين المجتمع متى اشتمّت رياحين الثمار المنضوجة وحسبت بدقّة أوان قطافها، لتتركه يكابد آلامه في قضاياه الملحّة وحيداً وبعيداً، فتمضي في إساسة الشأن العام إلى وجهة مغايرة ومنحرفة عن جادتها التي كانت مرتسمة في مخائل الشعب الذي ثار. تأخذك الدهشة على هذه القدرة الإستثنائية التي تولّدها أدوات التحكّم عن بُعْد للتأثير وترويض الجموع الجامحة بعواطفها أو تُعفّر وتثير الأغبرة أمامها حتى لا تتمكّن من رؤية ما يجري باسمها، ومن ناحية أخرى محاولات التدبير التي تُدغدِغ بها الأشخاص الذين يفكّرون بأنفسهم، في محاولة لتعطيل دورهم مهما يكلّف، وهكذا تتأبط الفئة المتحفّزة ملفّات التشغيل وتُبقي على مِدوار الأمّة جماداً لا يمكن تحريكه.

نحن في عالم وعصر، التحكّم عن بُعْد فيه لم يقتصر فقط على تشغيل الأجهزة والمعدات والآلات الجامدة، بل تطوّر نهجاً ليُستخدم في قولبة الإقتصاد والسياسة، وفي إعادة صياغة الشعوب بتعطيل عقولها وإثارة أشجانها وعواطفها ومن ثم تحريكها وتفعيلها وتشغيلها، ثم إخمادها متى استوت النتائج. في كل هذا لا بد أن تبقى الشعوب في إعتام تام، في ظلمة حالكة لا تمكّنها من رؤية بعضها البعض، ولا تستطيع فيها أن تميّز من يتحرّك بينها. إن أهم مرحلة في نجاح كل هذه العملية هي أن تخلط عناصر المعادلة بعد كل حين، (شك الكوتشينة أو الكشتينة) فكلما سعى الذين يمكنهم أن يفكّروا بأنفسهم في فك طلاسم المعادلة، وجدوا أن الأرقام والعناصر والعلامات فيها قد اختلطت وتغيّرت، فيبدأون من جديد، إنه فن إضاعة الجهد والوقت لاستخدامه في التهييج للتدمير. هل تقرِّب لك هذه الصورة الموقف الواقع الآن في السودان؟

في كل مرة يتوسّم الشعب الثائر خيراً من أجل أن يدفع بتضحياته إلى الأمام، تتعثّر خطى التغيير بفعل التحكّم عن بُعْد، سلام يدور حول حلقة مفرغة، أحياناً نوبة وحيناً حوبة، ودعوات لاستكمال المؤسسات (تعيين الولاة والمجلس التشريعي)، سرعان ما تذهب مع الريح كما لو لم تأت. من يتحكّم عن بُعْد بمصائر الشعب السوداني؟ سؤال سيظل يؤرّق مضاجع الذين يمكنهم أن يفكّروا بأنفسهم، تقول لي وما بال الذين يُفكّرون إنابة عنهم، وأؤلئك الذين يهتاجون بعواطفهم، أقول لك هم أشبه بالنخالة التي تذروها رياح التحكّم أنَّى شاءت. لكن كيف يُمكن كسر هذه الحلقة الشريرة التي ما أن تلوح في الأفق بوادر الإنفراج إلا وتظهر مع الشفق بوائق النهز لتقطع الطريق. لا بد أن يفك الذين يفكّرون بأنفسهم اللغز، حتى لا يتم بعد هذه الثورة، تحويل الشعب الثائر إلى قطيع حائر.

عبد الجبار محمود دوسة

الراكوبة