مقالات متنوعة

قصة عقليتين .. الانقلاب كمؤسسة بين الشيوعيين والاسلاميين

عزيزي عادل القصاص،
اود في هذا الجزء التطرق لنقد اصدقائي الشيوعيين لمقالي حول الانقلاب والمؤسسية واصرارهم ان حزبهم بريء من التأسيس لمؤسسة الانقلاب في السياسة السودانية وكما قال الاخ بدر الدين صادقاً، في اعتراض جدي، ان حزبهم قد حل تنظيمهم العسكري داخل الجيش، مما يستحق النظر. اضف لذلك اود ان اتطرق في القسم الثاني من هذا المقال لتجربة الاسلاميين فهي في تقديري تأكيد للحقيقة التي لا يمكن تجاوزها اننا بازاء مؤسسة غير رسمية (مؤسسة الانقلاب) لازمت مؤسسة التعددية السودانية في تجاربها الثلاث وانها وما نسميه فترات الديمقراطية تشكل مؤسسة واحدة، كما زعمت في مقالي الاول.
سأبدأ بإعادة شرحي للمؤسسة من نقطة محددة في المقال الاول اود الاسهاب فيها قليلا. المؤسسات رسمية وغير رسمية، بالاضافة لوسائل الزامها وكوابحها، تقدم الاطار للفعل الانساني، تقدم المصفوفة (Matrix)، اي البيئة والمحيط ، وتقدم حزمة خيارات محدودة لذاك الفعل وتحفر مجاري الفعل والتبادل والتفاعل بين المنظمات في مجتمع سياسي ما. اقرب مثال لشرح تبسيطي للمؤسسة هو قواعد وقوانين واخلاق لعبة كرة القدم المعروفة.
مثال كرة القدم رغم تبسيطه يفيد هنا، حيث ان القواعد التي يراقب تطبيقها الحَكم بمساعدة رجلي الخط تمثل المؤسسة الرسمية، بينما الروح الرياضية، سلوك اللاعبين اثناء المباراة، واللعب النظيف والاخاء في اللعبة يمثل الكوابح غير الرسمية التي تقود سلوك اللاعبين. عندما نأتي للسياسة والمجتمع، يشمل الشق الرسمي الدساتير والقوانين واللوائح وحقوق الملكية .. الخ واما الشق غير رسمي فهو بالغ التعقيد وصعب التوصيف ويشمل كوابح نابعة من أنفس الفاعلين في مجتمع ما. دعنا لمقاربة المفهوم نناقش المؤسسة غير الرسمية على مستوى الفرد. المؤسسة غير الرسمية على مستوى الفرد هي قييم يلزم الفرد بها نفسه ومطبوعة فيه، دون حوجة الى قانون: مثل قيمة الاستقامة وحسن المعشر، وتشمل السلوك بطريقة معينة في بيوت الاتراح والافراح. هي قيم يكتسبها الفرد من الاسرة والمدرسة والرفاق وغيرها من منابع التنشئة. ما يميز الكوابح الغير رسمية انها تنبع من الفرد ويطبقها على نفسه طوعا واختيارا. على مستوى المنظمات السياسية هي ايضا قيم ومبادئ نابعة من قلب المنظمات السياسية يلزمون بها انفسهم. وتعتبر المؤسسة غير الرسمية في حالة اتساقها مع المؤسسة الرسمية في نظام ديمقراطي مستقر امتداد للقواعد الرسمية بل تدقيق وترقيق وتهذيب لها. وفوق ذلك، ان تحدثنا بلغة الاقتصاد، فأن المؤسسة غير الرسمية تقلل من كلفة انفاذ وتطبيق المؤسسة الرسمية. وقد وصف (Douglass C. North) المؤسسة غير الرسمية بانها، بصفة عامة، تمثل في معظمها ثقافة مجتمع ما. وقد اتفق علماء الاجتماع على اهمية المؤسسة غير الرسمية في التحول الديمقراطي (Gero Erdmann, Sebastian Elischer and Alexander Stroh, 2011).
في تناولي لموقف الحزب الشيوعي من مؤسسة الانقلاب، أود اولا ان اقدم مقتطف طويل بعض الشيء لقائد شيوعي يلخص وجهة نظر الحزب الشيوعي حول انقلاب 25 مايو 69 وانقلاب 19 يوليو 71 هو الاستاذ تاج السر عثمان:
“تأييد اللجنة المركزية لانقلاب 25 مايو و19 يوليو خرق لدستور الحزب:
وكان الخطأ منذ البداية موافقة اللجنة المركزية علي تأييد الانقلاب والاشتراك في مجلس الوزراء وفي مجلس قيادة الثورة ، علما بأن الضباط الشيوعيين رفضوا فكرة الانقلاب قبل 25 مايو 1969 عندما طرحت عليهم ، كما رفض المكتب السياسي ايضا فكرة الانقلاب في اجتماعه في 8 / 5 / 1969 ، وكان الواجب هو مواصلة هذا الموقف المبدئي بعد انقلاب 25 مايو 1969 …( يستطرد الاستاذ تاج السر عن انقلاب 19 يوليو 1971) الانقلاب تم بدون علم وموافقة اللجنة المركزية ، وبعد وقوع الانقلاب تم وضع اللجنة المركزية أمام الأمر الواقع ، وقررت اللجنة المركزية في اجتماعها مساء 19 يوليو تأييد الانقلاب ، وبعد ذلك حدث ما حدث من التفاصيل المعروف.”
في زعمي ان مسؤولية الحزب الشيوعي السوداني في تأسيس مؤسسة الانقلاب لا تقل عن مساهمة اي حزب آخر فهي مسؤولية تضامنية تتحملها المنظومة الحزبية السودانية ككل. ومن الانصاف القول انني اعتقد بقوة ان الحزب الشيوعي السوداني قد قاوم في حياته الداخلية وفي فعله الجماهيري مؤسسة الانقلاب باستقامة لكنه فشل في النهاية في تجنبها. بل أن حقيقة تأييد الحزب لانقلاب في خرق لدستوره ومشاركته في انقلاب آخر كأمر واقع انما ذلك في حد ذاته يشير بقوة اننا في مواجهة مؤسسة راسخة في مجتمع السياسة السودانية كانت اقوى من الحذر النظري لقادة الحزب . حتى نقف على موقف الحزب الشيوعي من الانقلاب في المقابل لسلطان المؤسسة وانحفارها في المجتمع بل واستقلال حياتها كبنية اجتماعية دعنا نرجع قليلا الى الوراء. شارك احمد سليمان بأسم الحزب الشيوعي في انقلاب الرائد علي حامد في نوفمبر 1959 وقد فشل الانقلاب. صحيح، قرع الحزب احمد سليمان تقريع شديد اللهجة، وهذا موثق. بل اكثر من ذلك خلص الحزب الشيوعي في تقييمه للنضال ضد الدكتاتورية الاولى ان الانقلابات العسكرية كانت من اكثر العوامل التي سببت خسائر فادحة للحركة الثورية (مقتطف من د. عبدالله علي ابراهيم). لكن هنا صواب الرؤية والاستقامة الاخلاقية في نقد الممارسة لا يجدي عندما نرصد نشؤ وتشكيل (Formation) مؤسسة ما. عندما تتشكل المؤسسة تصير لها حياة قائمة بذاتها وتنحو نحو إعادة انتاج نفسها. وتلعب السوابق والتصورات الاجتماعية Perceptions and precedents) ) ، في تقديري، دور كبير في تأسيس المؤسسة، خاصة المؤسسة السياسية. ليس في هذا حكم اخلاقي او ادانة فنحن نتحدث عن سيرورات اجتماعية (ٍSocietal processes) وبنية اجتماعية فقد اثبتت الاحداث اللاحقة والتاريخ اننا نتحدث عن مركب اجتماعي محفور في التصورات الجمعية.
في اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1969 نقد الحزب التفكير الانقلابي وحذر منه. ولكن عندما حدث انقلاب مايو 1969 وجد الحزب نفسه في وضع حرج مجددا وحدث انقسام سبتمبر 1970. حجم الانقسام نفسه يدل على رسوخ مؤسسة الانقلاب اوساط قادة الحزب وكادره: 12 من اعضاء اللجنة المركزية من 33، 2 من اعضاء المكتب السياسي البالغ 10 اعضاءوالعديد من الكادر المتفرغ ايدوا الانقلاب دون شرط. بل انحازت منطقة الجزيرة بأكملها عدا عضويين للانقساميين وسلطة مايو بينما احتلت قيادة مدينة عطبرة مجموعة من طلاب الثانويات الذين رفضوا تأيد السلطة والانقساميين مما يدل على حجم الانقسام في معقل من معاقل الحزب.
حتي الذين وقفوا مع استقلال حزبهم في مواجهة سلطة مايو كانوا قد أيدوا الانقلاب تأيدا مشروطا والقصة معروفة الى حدوث انقلاب 19 يوليو.
في الحقيقة موقف الحزب الشيوعي من الانقلاب مأساوي اذا وضعنا في الاعتبار موقف الحزب النظري من الانقلاب ولا يمكن فهمه الا في اطار مؤسسي. لا يمكن، في تقديري، تجاوز الثقل المؤسسي هنا عندما ننظر لتاريخ السودان ككل وان كان هنالك تحليل آخر يقول بعقلية البورجوازية الصغيرة او البورجوازية فهو لا يقدم اجابة شافية لوصف مؤسسة راسخة في السياسة السودانية تنكبتها كل الشرائح الطبقية، فقوى شبه الاقطاع العشائري نفسها، كما وصفها الحزب الشيوعي، قد تنكبت طريق الانقلاب من قبل في نوفمبر 1958 وبعد ذلك في عدة محاولات انقلابية تصاعدت مع حركة يوليو 1976 التي ما هي الا محاولة فريدة لانقلاب عسكري بمشاركة مدنيين ومليشيات حزبية.
مشاركة كل هذه القوى من اليمين الى اليسار في الانقلابات العسكرية يشير الى ان هنالك عامل بنيوي ينتج هذه المؤسسة. هذا العامل البنيوي كامن في صميم التركيبة الاجتماعية. وفي نظري المتواضع لا أجد اي تفسير غير ان ما عرف بالممارسة الديمقراطية في السودان كمؤسسة قد اتسمت بالضعف لخوائها، الا في حدود شكلية، من قييم الديمقراطية نفسها بل تضمنت عنف او استمرار عنف ضد اقسام واسعة من السكان وتجريد من الحريات والحقوق الاساسية.
اما تجربة الاسلاميين فدعنا نبدأ باخرها حتي يتسنى لنا الوقوف على مؤسسة الانقلاب من منظور مدينة اخرى مختلفة مجازيا. واقترح النظر اليها، كبداية، من تجربة الاسلاميين مع ما عرف بالمفاصلة عام 1999. قدمت تجربة الاسلاميين برهانا ساطعا ان الانقلاب هو في الواقع مؤسسة سودانية سياسية لا يمكن القفز عليها بالنوايا وحسن التخطيط ولا يمكن السيطرة على حياتها الخاصة كمؤسسة مهما بلغ احكام التخطيط والتنظير. فقد ادار د. حسن الترابي، وهو في تقديري من انجب تلاميذ مدرسة السياسية السودانية التقليدية الباقين على قيد الحياة آنذاك، دفة الانقاذ لما يزيد عن تسعة اعوام، ولكن عندما صدرت قرارات 12 ديسمبر 1999 المشهورة بقرارات الرابع من رمضان اخذته على حين غرة وشقت تنظيمه على يد من ظنهم خلاصة تربيته الحزبية من قادة تنظيمه. وصف الترابي قرارات البشير وللمفارقة “بانها محض انقلاب عسكري وغدر بعهد الحركة الاسلامية الذي اقسم عليه الرئيس قبل الثورة.” قد يكون الترابي قد صدّق نفسه بالفعل انه قد اشعل ثورة انقاذ متنكباً طريق الانقلاب العسكري كوسيلة فقد طفق يمتن من سيطرة تنظيمه على مفاصل المجتمع واقتصاده ويقوم بتصفية كل ما يمت بصلة لمؤسسة التعددية ثم التفت ليقلم من اظافر مؤسسة الانقلاب بنظريته حول التوالي وضرورة انتخاب ولاة الاقاليم، بل حرمان المنظمة العسكرية من التمثيل السياسي وحصر السياسة على المدنيين بل أكثر من ذلك تجريد رأس الانقلاب من صلاحياته (هذه نقاط انقسام الاسلاميين عام 1999). لكن اتضح ان لمؤسسة الإنقلاب حياتها الخاصة التي لا يمكن السيطرة عليها الا بتغيير مؤسسي يزيحها. واتضح ان مؤسسة الانقلاب لا يمكن إزاحتها من قبل تنظيم وحيد او قائد وحيد. مأساة الترابي انه اراد ان يقلب مؤسسة الانقلاب الى ديمقراطية من تفصيله الخاص تكون الغلبة فيها لمشروعه. لا يسع المرء هنا الا ان يتذكر المقولة المنسوبة للشهيد جون قرنق حين حملت له المعلومات عن صحة خبر انقسام الاسلاميين ومصير الترابي حين قال: “سمعت بالثورات تأكل بنيها ولكن اول مرة اسمع بثورة تأكل ابوها!” واقع الامر مؤسسة الانقلاب تأكل الاخضر واليابس. ولعل في شهادة الاستاذ المحبوب عبد السلام حول مفاصلة سبتمبر طيف شاحب لفهم انما واجهه الاسلاميون هو مؤسسة اقوى من تنظيمهم واقوى من قائد تاريخي مثل الترابي، فقد قال الاستاذ المحبوب: “استدار الزمان كهيئته إذن، وكما بدأت الإنقاذ ببيان عسكري أوّل في 30 يونيو 1989م، اختارت جماعة الرئيس الخاتمة ببيان عسكري في 12\12\1999م، تلاه الرئيس بنفسه في أمسية الرابع من رمضان من العام 1420هـ …. لسنا أول حزب عقائدي ينشق على نفسه، ولكن ظننا أنّ عساكرنا خير من أولئك وأنّ لهم براءة في الزبر، بل إننا نسينا ما درسناه في زبر الدنيا وما قالت كتب علم الاجتماع العسكري.”
في الواقع، في تقديري المتواضع، ان الترابي لم ينظر الى مؤسسة الانقلاب وبالتالي الى الدكتاتورية العسكرية كمؤسسة منفصلة متميزة عن مؤسسة التعددية الحزبية، وقد اثبت التاريخ ذلك، فهو لم يحفل بالحريات الاساسية الا في حدود تقديمها لمشروعه منذ تشكيل جبهة الميثاق ابان الديمقراطية الثانية. فالترابي لم ينظر الى المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1977 الا كمرحلة جديدة في تفاعل مشروعه مع مؤسسة السياسة السودانية ككل واحد وكفرصة جديدة لمنظمته الحزبية. لم يحفل الترابي بمؤسسة التعددية الا في اواخر ايامه كما سأبين. فتصريحه بعد اول لقاء مع نميري تضمن اعترافا ب(ثورة مايو) وقائدها وتسامحه مع الامة رغم ثقافته العسكرية وقد ذم في نفس التصريح الطائفية وتحدث عن تهيؤ حركة سياسية حديثة نحو الاسلام في وصفه للنظام ككل. لا يُعيننا كثيرا النظر لهذا الموقف من جانب الترابي كموقف تاكتيكي او انتهازي فالموقف في تقديري مثّل رؤيته للعالم وورؤية قيادة حركته آنذاك.
ان صدمة الترابي بفعل تلاميذه وضباط تنظيمه ووصف فعلهم بانقلاب حيال قرارات الرابع من رمضان لا يمكن فهمه من رجل في مثل ذكاء الترابي الا من خلال فهم مأساته الشخصية وتحطم رؤيته للعالم امام عينيه. فالترابي يعلم ان النظام الذي خطط له واتي به في يونيو 1989 ما هو الا انقلاب عسكري في الاساس فقوله عن قرارات رمضان محض انقلاب انما هو تقرير بانها محض انقلاب على رؤيته الشخصية للعالم وبالتالي رؤية منظمته. الانصاف يدعو للقول ان الترابي في اواخر ايامه، وللاسف بعد فوات الاوان، انتقد تجربة حزبه المريرة ونتائجها الفادحة على شعوب السودان. فعندما سأله محرر قناة الجزيزة عبد الرحمن ابو العلاء: “لو عاد بكم الزمان للحكم فماذا انتم فاعلون؟” اجابة الترابي كانت لو عاد الزمان لاطلقنا الحريات. قال الترابي: “نتجنب خطايانا من القمع واحتكار السلطة واحتكار المال العام وعدم نشر الحرية…” لخص الترابي بحكمة شيخ على بعد خطوات من القبر، رحمه الله، مأساة مؤسسة الانقلاب والدكتاتورية العسكرية.
مشكلة النخبة انها لم تدرك، الا بعد فوات الاوان، ان ازمة الحكم المستحكمة لا يمكن حلها الا بتمتين ممارسة الديمقراطية وحفرها في ثقافة الشعب ومنظماته واحزابه وممثلي تياراته الفكرية المختلفة. وقد ادركوا بعد فوات الاوان ان أكبر خطايا مؤسسة الانقلاب انها مزقت الوطن بمنطق القوة فلم يعد لدينا جنوب ونكاد ان نكون دون غرب وربما دون شرق، في حقبة اخرى إن قدر لمؤسسة الانقلاب ان تحكم من جديد . ولكن مؤسسة الانقلاب قد صدرت من صدر الساسة وجيل الاباء منذ حكومة عبد الله خليل.
محمد عبد الخالق بكري

الراكوبة