مقالات متنوعة

تيار الجائحة العالمية ومسارات العلاقات الدولية


منذ إنهيار منظومة الإتحاد السوفيتي بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها عقب الحرب العالمية الثانية، يعد إنتشار جائحة فيروس كورونا من الأحداث الكبرى التي سترسم ملامح العلاقات الدولية كما فعلت الأحداث الكبرى الأخرى كأحداث 11 سبتمبر عام 2011.تلك الأحداث التي شكلت بعض ملامح مسار العلاقات الدولية بسبب تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضخمة. بذا سنجد أن تأثير أزمة جائحة كورونا – COVID-19 -على مسرح العلاقات الدولية سوف لن تقل عن سابقات الأحداث الجسام، وقد بدت بعض ملامح إرهاصاتها تلوح في أفق العلاقات ما بين أعضاء المنظومة الدولية كما تداعيات الفيروس على أعضاء البشر وعلاقاتهم.

العلاقات الدولية في مفهومها الشامل هي تفاعلات تتميز بأن أطرافها أو فاعليها الأساسيون هي وحدات دولية، وحينما نذكر مصطلح “دولية” فإن ذلك لا يعني اقتصار الفاعلين الدوليين على الدول كما هي الصورة النمطية أو الكلاسيكية التي كان ينظر بها للفاعلين الدوليين بشكل عام بل نجد المنظمات الدولية أيضا فاعلة مهمة في ديناميكية العلاقات الدولية ومسارها.
فالعلاقات الدولية إذن هي تفاعلات يمور فيها نمطين أساسيين – وفي الحالتين أساسهما المصالح- الأول هو النمط تعاوني والثاني هو النمط الصراعي، أي التعاون المصلحي أو صراع المصالح. إلا أن النمط الصراعي هو النمط الذي يغلب على التفاعلات الدولية برغم محاولة الفاعلين إخفاء أو تجميل وجه تلك الحقيقة، بل أنه يمكن القول إن النمط التعاوني نفسه هو صراع مبطن أي موجه لخدمة صراع أو نمط صراعي آخر قد تديره الدولة المعينة مع دولة أو مجموعة دول أخرى، فعلى سبيل المثال نجد أن الأحلاف والروابط السياسية بين مجموعة من الدول هي في صورتها الظاهرية قد تأخذ النمط التعاوني بين تلك الدول برغم حقيقة قيامها لخدمة صراع تلك المجموعة من الدول ضد مجموعة أخرى لنيل مكاسب ما في نهاية المطاف.

وانطلاقا من مفهوم القوة التي تنظر الى واقع المجتمع الدولي والعلاقات الدولية على انها صراع مستمر نحو زيادة القوة الوطنية للدولة واستغلالها بالكيفية التي تمليها مصالحها او استراتيجيتها بغض النظر عن التأثيرات التي تتركها في مصالح الدول الأخرى. ان القوة المعنية في إطار العلاقات الدولية الواقعية ليست هي القوة العسكرية التقليدية، بل القوة الوطنية National Power بمفهومها الشامل من عناصرها ومكوناتها المادية وغير المادية على وجه الخصوص الموارد الطبيعية، السكان، الموقع الاستراتيجي.

إن الفكرة الأساسية وراء نظام القوة هو الوصول الى مرحلة توازنها عبر العنصر المميز للعلاقات الدولية هو الصراع. لكننا سنجد أن هذا الصراع لا تفرضه عوامل التباين والاختلاف في المصالح القومية للدول فحسب، بل في محاولة كل دولة لمضاعفة قوتها الوطنية على حساب غيرها من الدول. لذا يمكن القول، إن الدولة التي تحصل على مكاسب كبرى لصالح قوتها، ستكون مهدداً لمصالح الدول الاخرى واستقلالها، الأمر الذي سيدفع بالدول المحدودة القوة إلى مواجهة القوة بالقوة عن طريق التكتل والتمحور في إئتلافات قوى مضادة وبذا يتحقق توازن القوى بمفهومه الواسع لخدمة هدفين أساسيين حماية إستقلال الدولة وحفظ السلم والأمن الدوليين عبر التوازن.

الدولة الوطنية ما بعد الجائحة- السودان نموذجا
من المهم جدا الوقوف عند حدود مفهوم الدولة الوطنية The nation-state بمعناها الحداثوي وليس الكلاسيكي، وأهمية ترسيخ دور دولة المواطنة بجعل مفهوم الدولة الوطنية أساساً لذلك، بقوتها الداخلية التي تجعل منها دولة تحكم بالقانون والمساواة أمامها وتعايش مكوناتها. بمعنى أن يكون مفهوم “السودان أولا” جوهر إستراتيجيتها العامة، والتي تجعل من إستراتيجية السياسة الخارجية قائمة على دبلوماسية التنمية المستدامة ونقل المعرفة التي نروج لها منهاجاً لهدي السياسة الخارجية السودانية لمرحلة ما بعد ثورة التغيير المفاهيمية وبناء أسس جديدة للدولة السودانية التي تؤسس لدولة المواطنة بجعل الدولة الوطنية القوية أساساً لبناء دولة المواطنة والمشاركة المتساوية حقوقاً وواجبات.

نقول ذلك لأن الدولة الوطنية ستستعيد قوتها والتأثير على مسرح العلاقات الدولية وتفاعلاتها في بناء هيكل الدولة الداخلي وانعكاس ذلك على مسار علاقاتها الخارجية، بعد جائحة كورونا، وذلك بعد أن تقلص دور الدولة الوطنية في ديناميكيات العلاقات الدولية وبروز دور الشركات متعددة الجنسيات trans-national corporations في مراحل سابقة من عمر العلاقات الدولية، والتي تملكت زمام مطابخ القرار في كثير من تفاعلات العلاقات الدولية، تلك المؤسسات التي تتجاوز ميزانياتها في بعض الأحيان ميزانيات دول بحالها، فكان لها القدح المعلى واليد الطولى والكلمة العليا في رسم ملامح سياسات دول ومنظومات دولية على وجه الخصوص في المجال الاقتصادي والمالي وإدارة السياسات العامة فيها.

أزمة الجائحة الأخيرة أثبتت تراجع دور منظومات الشركات متعددة الجنسيات تلك، في مقدرتها على إحتواء اسقاطات وتداعيات جائحة كورونا السلبية. قد أشار بعض المفكرين في هذا المجال أمثال البروفيسور استيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الى أن العالم سيشهد تراجعاً في العولمة المفرطة ن الامر الذي سيجعل الشعوب تتطلع الى حكوماتهم الوطنية ودورها في حمايتهم. فإذن على الحكومات العمل على شحذ وإدارة الموارد المتوفرة بشكل يجعل التفضيل هو التركيز الأكبر وأعني بذلك ميز الاقتصاديات في كل دولة، فالزراعة الواسعة وذات التكلفة القليلة نسبياً في السودان ومنتوجها العضوي Organic food في هذه الدولة الفتية البور يجب أن يكون هو توجه واهتمام الحكومة، وبناءا عليه ان توجه دفة الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية صوب دبلوماسية التنمية المستدامة ونقل المعرفة. لحاجة العالم في المرحلة القادمة – والتي هي ما بعد تيار الجائحة مباشرة – الى الغذاء، ما بالك الغذاء العضوي. سواء أن كان ذلك منتوجاً نباتياً أو حيوانيا فكلامها متميز في السودان كماً وكيفا، فالمهم الآن الاهتمام بذلك القطاعي الإنتاجي الهام والاستراتيجي وتطوير صناعاته التحويلية من أجل رفع قيمتها المضافة.

كان الأستاذ محمد خير المحامي – الذي كان وزيراً للخارجية في ستينيات القرن الماضي- قد وضع أولى لبنات دبلوماسية التنمية حين قال قولته الشهيرة بأنه يريد “تحويل السفارات الي دكاكين لبيع ولتسويق المنتجات السودانية” وكان للدكتور منصور خالد – إبان تنسمه لوزارة الخارجية – بصماته الواضحة أيضا وجهده في الدفع بخلق نقلة في العمل الدبلوماسي وتوجهات السياسة الخارجية حيث كان جهده في بناء المؤسسية كما عمل علي تفعيل دبلوماسية التنمية بالتركيز على إستقطاب الإستثمارات العربية والغربية للدفع بعجلة التنمية في البلاد. هي دعوة إذن بأن تلعب سياستنا الخارجية الدور الفاعل في العملية التنموية والدفع بعجلتها، وما أحوجنا اليوم أن نخرج للعالم بتلك السلة الغذائية المبشرة غذاءا وبلسما لما بعد الجائحة، فكم من غذاء عضوي ودواء طبيعي نملكه بشكل شبه إحتكاري، فالعالم لن يعد كما كان إطلاقا.

ما نحتاجه اليوم، وعلى وجه الخصوص في علاقاتنا الدولية في عالم ما بعد الجائحة هو أن ننتهج رؤية إستراتيجية في إطار تعاطي شأن العلاقات الدولية كسياسة خارجية بأن نبني على ما قد وضع لبناته محمد خير المحامي – بالاهتمام بترويج المنتج الوطني- واهتمام د. منصور خالد بجذب الاستثمار الخارجي، أن نجعل الحزمة package متكاملة، ترويجاً لما نسوق، ونجذب ما يرقى بدعم عجلة التنمية المستدامة من إستثمار ومعرفة.

عليه أرى أنه من الضرورة بمكان أن يكون هدي دبلوماسيتنا- كذراع هام لتنفيذ السياسة الخارجية – ان يكون الهدي في تناغم تام وطموح الثورة، وأن يكون شعار” السودان أولا ” نهج وتطبيق عملي، ومواكبة لمتطلبات التفاعل على مسرح السياسة الدولية بنهج يراعي مصالح الوطن أولاً وأخيراً ، وذلك كدبلوماسية “خشنة”، لكن في الوقت ذاته أن تكون رؤيتنا في سياستنا الخارجية مبنية بأدوات دبلوماسية التنمية الاقتصادية المستدامة “دبلوماسية ناعمة” وذلك باستغلال لكل ما تتيحه الدبلوماسية التقليدية من قنوات اتصال وأطر للتعاون مع الدول الأخرى تسخيراً لخدمة اقتصاد السودان. حيث البحث الحثيث والدائم عن أسواق جديدة للمنتج السوداني واستقطاب الصناعات وجذب رجال ومؤسسات الصناعة، وبناء الصناعات التحولية على وجه الخصوص والمؤسسات الأجنبية للاستثمار في السودان، وكذلك الترويج للسودان بشكل عام، بعد تأسيس بنية تحتية استثمارية جاذبة كتوجه للسياسة الداخلية. بذا يكون منهاجنا دبلوماسية ” خشناعمة” أي تظهر نعومة الجذب والجوهر صلد.

من السهل جداً أن نكون أخيراً سلة غذاء العالم بحق وقد حانت اللحظة الأنسب وmomentum الاصدق لذلك. فإن من أبرز تداعيات الجائحة العالمية – وباء كورونا- هو تزايد دور الدولة الوطنية في المجال الاقتصادي وفي الإنتاج، ويرى مدافعي نظرية الدولة الوطنية النيو ليبرالية أن دور ووظائف الدولة في مثل هذه الأوضاع لا تقتصر على تطبيق القانون والإدارة والدفاع والسياسة الخارجية فحسب، بل مواجهة الأزمات وحسن إدارتها، ولنا في النموذج الصيني اليوم خير مثال لقدرة الدولة الوطنية المركزية القوية في إدارة الأزمة، فنحن نحتاج للمقدرة على أدارة الأزمة وذكاء إدارة فرص الازمة. وسيبرز دور المؤسسة العسكرية في المشاركة الإيجابية في إدارة الازمة واحتواء خطر عاصفة الجائحة العالمية وإنتهاز الفرصة للبناء والتنمية، وقد رأينا دور المؤسسة العسكرية الروسية في إيطاليا، والجيش الصيني في احتواء تمدد الفيروس، او الجيش الأمريكي ببوارجه وكل قواته في دعم اطقم الجيش الأبيض وكذلك المساعدة في توفير السلع والخدمات.

يجب الإشارة هنا في الوقت ذاته أنه سيقل دور التنظيمات المسلحة والميليشيات والحركات المسلحة داخل الدول، وليبيا تمور ببعض الاحداث التي قد تؤكد ذلك. نحن في المرحلة الانتقالية ظل الشراكة ما بين القوى العسكرية والحكومة المدنية فالفرصة كبيرة أن نكون أقرب للدولة المركزية ” الصين” من الدولة في نموذج الغرب الليبرالي ” إيطاليا” فعلينا أن ندير اللحظة التاريخية وال momentum الذي نزل الينا من السماء أن ندير ذلك بحكمة وحسن إدارة، فيما يلي الاستراتيجية العامة، واستراتيجية السياسة الخارجية لإدارة شأن علاقاتنا الدولية بذكاء وحنكة. الدولة الوطنية ستستعيد دورها في المرحلة ما بعد جائحة كورونا، لدينا مقومات الريادة، نحتاج لإدارة تكون بقدر تحديات وفرص المرحلة.

تيار الجائحة ومسارات العلاقات الدولية
إن أزمة هذه الجائحة العالمية -لفيروز كورونا- COVID-19 لن يُخْرِج الى العلن نظريات علمية في المجالات العلمية المتعلقة بالفيروسات فحسب، بل ستنشأ نظريات جديدة في تحليل العلاقات الدولية وتفسير ظواهرها الجديدة، وفق ما تفرزه أزمة الجائحة العالمية وذلك الفيروس الذي تحدى النظام الدولي وأشكال علاقات منظوماته ودوله. وذلك بتصاعد دور الدولة الوطنية وفي الوقت نفسه تراجع الكثير من أدوار فاعلين كثر على مسرح العلاقات الدولية. سيكون بروز دور الدولة الوطنية على حساب التعاون الدولي وإعادة هيكلة أشكال النظام الدولي الأحادي القطب. فقد هيمنت الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها بإنهيار القطب الآخر الموازي- الاتحاد السوفيتي- وها هي أقطاب عدة بدأت رؤوسها تبرز كما أفاعي الكوبرا لتنتقض على مساحات بقدر الإمكان من مسرح العلاقات الدولية. فنرى من أقاصي الشرق التنين الصيني يخرج من قمقمه سالكاً طريق حرير تجاري بآليات القرن الواحد والعشرين، وها هو الدب الروسي ينتفض من بين ثلوج اختبأ ورأها حينا فمد يده الطويلة يحمل طائراته تنزل بين تلال روما وآلامها. إذن التعددية القطبية قادمة حيث يعضد ذلك بعض منظّري العلاقات الدولية أن الأحادية القطبية هي احدى مراحل دائرة العلاقات الدولية ودورتها من التعددية الى الأحادية مروراً بالثنائية فيما بينهما، وهكذا تبدأ الدورة من جديد، ويرى الكثيرون أن من سمات التعددية والثنائية هو التوازن والاستقرار في العلاقات الدولية على الأصعدة جميعها، وعلى وجه الخصوص على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
تسبق بلوغ التعددية القطبية إنهيار بعض المنظومات الجماعية القائمة التي تظهر الكثير من ملامح ومعالم الهشاشة، وهنا يجدر القول الى ان الاتحاد الأوربي مثلا – كمنظومة إقليمية – بشكله التنظيمي الحالي قد اثبت عجزاً أدهش الشعوب الاوربية إبان مواجهة أعضاء المنظومة لخطر الجائحة العالمية- كورونا- التي ضربت أوربا بقوة، بل اجتاحت المكونات الأساسية لإقتصاديات بعض الدول بما في ذلك ثروتها البشرية، فضربت الثقة في منظومتها الاتحادية القائمة حالياً، ولن تكون علاقة بعضها بالمنظومة كما كانت قبل تيار الجائحة المدمر. وقد صرحت دول مثل إسبانيا وإيطاليا بعدم ثقتها في الاتحاد الأوربي بل اتهامها له بالفشل في المساعدة والجائحة تعصف بها. رغم الضرر الذي أصاب منظومة الاتحاد الأوربي الا أن رياح الجائحة العاصفة ستجعل من أمر إعادة صياغة تشكيل الاتحاد الأوربي، وملامح الأوراسيا تبدو خافتة لكنها ليست بخفية. عصر ما بعد الجائحة سيكون مدخلاً لدخول أعضاء جدد لمنظومة الاتحاد الأوربي ربما وخروج آخرين، وسيكون ذلك لحساب عملية نشوء الأقطاب، الذي سيبدأ بتحالفات إقليمية أخرى تراعي نزعة المصالح الإستراتيجية المباشرة.

يمكن القول بتراجع مفهوم التضامن الدولي والمسؤولية الجماعية الشاملة في العلاقات الدولية كآثار أولية لعاصفة الجائحة، وهي في أوج قوتها لصالح سياسة المحاور ونشوء الأقطاب المتعددة بشكل جديد، وبروز نزعة المصالح الجماعية في نواحٍ محددة. نزوع استراتيجيات جديدة للأمن الوطني تركز على منافسة القوى العظمى -كما التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ترامب- ستجعل من عملية نشوء الأقطاب، لأنها غير قادرة – بشكل فردي – على حماية الأمن الوطني كما أثبت جنوح الجائحة العالمية كورونا COVID-19 فلذا ستحتاج منظومات الأمن الوطني لتحالفات مبنية على نزعات المصالح. إن تحديات تقنيات القرن الواحد والعشرين هي عالمية Global الانتشار والعواقب كذلك، لذا يمكن أن تغدو مسببات الأمراض والأوبئة التي قد تنتج عن إنتشار التكنلوجيا الحديثة كما هو الحال في الجيل الخامس من التكنلوجيا الذكية والاشعاعات، كذلك الفيروسات الكمبيوترية أو المعملية الفتاكة التي قد تخرج عن السيطرة بعد إطلاقها عن قصد أو انطلاقها نتاج خلل تحكمي. كل ذلك يدعو الى الاهتمام بالأمن الصحي الجماعي إنطلاقاً من مبدأ رعاية المصالح المشتركة.

الامن الصحي الدولي ومسار العلاقات الدولية:
كشفت أزمة الجائحة العالمية لفيروس كورونا-COVID-19 عن الخلل الكبير في منظومة الأمن الجماعي الدولي وسعة مفهومه، حيث كان التركيز على المهدد التقليدي للأمن والسلم الدوليين- التهديد العسكري -ولم تجعل المنظومة الدولية من المصادر الأخرى للتهديد مقام أولويات، كما هو حال العالم وهو شبه أعزل من أدوات المواجهة اللازمة وهو يقف في وجه عاصفة الجائحة التي حصدت من الأرواح أكثر مما فعلت الحروب في فترة وجيزة وخلفت تداعيات إقتصادية فاقت ما خلفته حروب كبيرة.

رغم الحرب الشعواء التي ابتدرها الرئيس الأمريكي ترامب وسهامه المسمومة صوب منظمة الصحة العالمية ووقف الدعم المالي للمنظمة، الا ان دور هذه المنظمة الدولية المهمة سيزداد أهمية في المرحلة القادمة -مرحلة ما بعد الجائحة- وستنشأ العديد من مبادرات التعاون الدولي تحت مظلة هذه المنظمة في المجال الصحي لا سيما التعاون البحثي في مجال مكافحة الأوبئة والامراض الخطيرة والمهددة لحياة الانسان كما هو الحال في حالة جائحة كورونا العالمية. وحث المختصين في المجالات الدقيقة المختلفة في الصحة والاقتصاد في أنحاء العالم لبناء عالم أفضل عندما يتم التغلب على هذا الفيروس القاتل الذي زعزع كل ركائز النظام العالمي بحاله الحالي. في الغالب ستنشط مجالات علمية جديدة في الاقتصاد الصحي وكيف للبشرية أن تعمل للحيلولة دون وقوع كارثة صحية وصدمة اقتصادية قد تهز دول العالم وآثار ذلك على ديناميكية العلاقات الدولية، سترتكز البحوث والاستراتيجيات الجديدة على كيفية وأهمية التعاون الدولي في المجال الصحي والاقتصاد الصحي البيئي.

لذا نجد أن الحاجة الى إعادة النظر في مفهوم الأمن الدولي ليكون أكثر واقعية حاضرا وشاملا، ويحتاج الى إعادة ترتيب الأجندة وتعريف المهددات، وجعل أمر البيئة والصحة أمن عالمي Global “وليس دولي فقط” بإجراء إصلاح شامل لآليات التعاون الدولي في مجال الأمن العالمي. يأتي ذلك بالاهتمام بشأن الأمن الصحي الجماعي والبيئي وجعل ذلك شأناً يمس الامن الجماعي العالمي، ويكون ذلك بدعم مؤسسات دولية تمثل خط الدفاع الأول لأمن الحياة، كمنظمة الصحة العالمية وكذلك المنظومات المختصة في مجال حماية البيئة لرفع قدراتها للتمكن من مواجهة التحديات والمهددات بواقعية تامة.
سيبقى سؤال ما الذي ستحدثه الجائحة العالمية COVID-19 من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية في العلاقات الدولية يبقى سؤالاً مشرعاً ومشروعاً، وفي غاية الأهمية.

د. محمد عبد الله تيراب
متخصص في العلاقات الدولية
السياسات العامة، وإدارة النزاعات
ميريلاند- الولايات المتحدة الأمريكية

الراكوبة