رأي ومقالات

هل المجتمع الدولي جاد حقاً في دعم الحكم المدني؟


هل المجتمع الدولي جاد حقاً في دعم الحكم المدني؟

(1)
تستند حجة الداعين لإرسال بعثة سياسية أممية إلى السودان على فرضية أساسية أن وجودها ضروري ولازم لدعم الحكومة المدنية، سياسياً واقتصادياً وربما عسكريا كذلك لحمايتها لتحقيق مهام الفترة الانتقالية وأجندة التحول الديمقراطي. والسؤال هل أثبت المجتمع الدولي، والمعني هنا بالطبع الدول صاحبة القرار في مجلس الأمن المتعجلة لإصدار قرار بهذا الشأن، أية جدية، لا نتحدث عنها عن تصريحات مرسلة ووعود براقة، بل من خلال سياسات عملية وممارسات فعلية على دعم وإسناد الحكومة المدنية على مدار الأشهر التسعة الماضية منذ تشكيلها؟، هذا ما نجيب عليه في هذا المقال الخامس من هذه السلسلة، بما يثبت أن هذه الفرضية مبنية على شفا جرف هار.
(2)
ومن جهة ثانية تقوم حجة الحكومة في طلب البعثة على استحقاق السودان للحصول على هذا الدعم بحكم عضويته في الأسرة الدولية، وأنها صاحبة الملكية في شانها بما يخدم أولوياتها، وليس خدمة أجندة أي طرف آخر، وهذا موقف جيد لا غبار عليه، ولكن هل تؤيده الوقائع والتجربة العملية؟، لا يختلف اثنان على أن أخطر تحدي ماثل يواجه الحكومة الانتقالية يتعلق بالمأزق الاقتصادي الذي يمسك بخناق البلاد، ثم اجتاحت جائحة فيروس كورونا العالم ولم تسلم من تداعياتها دولة، فزادت الأمور ضغثاً على إبالة، وبالتالي فإن مما لا شك فيه أن مواجهة تبعات هذه الجائحة صحياً واقتصادياً، فضلا عن معالجة معضلات الاقتصاد السوداني الأخذ في التردي بوتيرة منذرة، تشكّل أهم أولويات الحكومة بلا جدال، والامتحان المصيري في قياس نجاحها أو فشلها، وبالتالي فإن قيمة وجدوى وجدية أي دعم من المجتمع الدولي للحكومة المدنية، وبالتالي للشعب السوداني، لا يمكن قياسه إلا من واقع ومدى تجاوبه مع هذه الأجندة الملّحة. ولنرى من خلال الوقائع التالية كيف كانت استجابته لنداءات الحكومة، إن لم نقل استغاثاتها!
(3)
في الثامن من أبريل الماضي خاطب رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش طالباً بذل مساعيه الحسنة لدى مؤسسات التمويل الدولية، صندوق النقد والبنك الدولي، وكما هو معلوم فإنهما جزء من منظومة الأمم المتحدة، لتسهيل حصول السودان على دعم إسعافي عاجل لتمكينه من مواجهة تبعات جائحة كورونا في ظل الضغوط الصعبة التي يعاني منها جراء ضعف النظام الصحي في البلاد، وتردي الأوضاع الاقتصادية ، وتزايد الاحتقان الاجتماعي، وأنحى حمدوك باللائمة في حرمان السودان من الحصول على أي المساعدات العاجلة التي قدمتها المؤسسات الدولية لدعم البلدان الفقيرة على تبعات استمرار إدراجه في اللائحة الأمريكية للدول لراعية للإرهاب، وحذر رئيس الحكومة المدنية من أن عدم حصول السودان على الدعم المالي اللازم بشكل عاجل من شأنه أن يجهض عملية التغيير السياسي والاجتماعي بسبب عدم الوفاء باستحقاقات الفترة الانتقالية.
(4)
وعلى الرغم من إصدار الأمين العام للمنظمة الدولية لتصريح صحافي لحث مؤسسات “بريتون وودز” على تقديم العون العاجل للسودان في هذا الوقت العصيب، إلا أنه كان يعلم أن ذلك لا يعدو أن يكون من باب أداء الواجب لا أكثر، فالصندوق والبنك الدوليان ليس بوسعهما تقديم أي دعم للسودان في ظل الفيتو الأمريكي، على الرغم من إنكار واشنطن ذلك مما نعرض لها لاحقاً في هذا المقال، بالطبع لم يجد نداء غوتيرش أذنا صاغية في أي من عواصم القرار الدولي، فقد جاء ردها على طلب الاستغاثة السوداني بعد أسبوعين من تحذير رئيس الوزراء السوداني من إمكانية فشل العملية الانتقالية برمتها نتيجة للمصاعب التي توجه الحكومة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وتبعات جائحة كورونا، ليس بالاستجابة العاجلة للتحديات الماثلة الملّحة حسب الأولويات السودانية، فقد تبين أن عواصم القرار ليست مشغولة بأولويات الحكومة المدنية المصيرية، بقدر انشغالها بأولوية أجندتها فانعقد مجلس الأمن في 24 أبريل ليس لبحث خطاب حمدوك المنذر تأثير جائحة كورونا المصيري على البلاد ، بل لبحث مسألة تشكيل البعثة السياسية الأممية، وهنا تبدو المفارقة جلية فقد استند الإلحاح عليها حتى أضحت أولوية عندها على رسالة رئيس الوزراء للأمين العام في 27 يناير، بزعم حرصها على دعم الحكومة المدنية، ولكن ها هي بكل بساطة تتجاهل خطابه الأحدث المحذّر من انهيار السلطة الانتقالية في غياب دعم دولي اقتصادي عاجل اقتضه طارئة صحية، ليضرب المجتمع الدولي بصدقية وعوده بدعم الحكومة عرض الحائط في سبيل مصالحه، وليس مصلحة السودانيين.
(5)
في الواقع جاءت رسالة حمدوك المستغيثة بغوتيرش بعد يوم واحد من تلقيه نداء دعت فيه 23 منظمة تابعة للأمم المتحدة الحكومة السودانية إلى تسهيل إجراءات تقديم المساعدة الإنسانية في البلاد، وقالت جوي يوب سون، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية للسودان: “إذا لم يتم تنسيق تقديم المساعدة بشكل صحيح، فقد يتأخر تسليم وتقديم المساعدة في السودان بما يترتب عليه من مضاعفات على خلفية سرعة انتشار كورونا”، لم تكن المشكلة الحقيقية هي المسائل اللوجستية، بل ما تم الكشف عنه من أن حوالي 9.3 مليون شخص في السودان يحتاج إلى دعم إنساني في عام 2020. بينما خطة الأمم المتحدة الإنسانية في السودان تواجه الفشل لأن المانحين لم يوفوا سوى ب 14% فقط من احتياجاتها للتمويل”!!!
(6)
في 19 مايو الجاري أعلنت مجموعة البنك الدولي “أن عملياتها الطارئة لمكافحة فيروس كورونا قد بلغت 100 بلد من البلدان النامية يعيش فيها 70% من سكان العالم”، وأضافت أنها “قدَّمت مستويات قياسية من المساندة على وجه السرعة لمساعدة البلدان على حماية الفئات الفقيرة والأولى بالرعاية، وتعزيز الأنظمة الصحية، والحفاظ على القطاع الخاص، ودعم التعافي الاقتصادي”. وقالت “تشكل هذه المساعدة، وهي أكبر وأسرع استجابة في مواجهة الأزمات في تاريخ مجموعة البنك، معلما بارزا في تنفيذ التعهد الذي قطعته المجموعة على نفسها بإتاحة 160 مليار دولار من المنح والمساندة المالية خلال فترة 15 شهرا لمساعدة البلدان النامية على مواجهة الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية لجائحة كورونا، والإغلاق الاقتصادي في البلدان المتقدمة”.
وقال ديفيد مالباس رئيس مجموعة البنك الدولي “من هذه البلدان المائة، يوجد 39 بلدا في أفريقيا جنوب الصحراء، كما يقع نحو ثلث إجمالي هذه المشروعات في بيئات تعاني أوضاع الهشاشة والصراع مثل أفغانستان وتشاد وهايتي والنيجر”. كما “قدمت مؤسسة التمويل الدولية والوكالة الدولية لضمان الاستثمار أيضا دعما سريع الصرف إلى منشآت الأعمال في البلدان النامية، وشمل ذلك تمويل التجارة ورأس المال العامل للحفاظ على القطاع الخاص والوظائف وسبل كسب العيش”.
الخلاصة كل هذه المساعدات والتسهيلات بعشرات المليارات من الدولارات من البنك الدولي، ليس للسودان فيها شروى نقير، لأنه ممنوع من الحصول على أي مساعدات من مؤسسات التمويل الدولية، ولو فتكت جائحة كورونا بكل مواطنيه، وهذا نموذج لنوع الدعم الذي يزعم المجتمع الدولي أنه حريص على تقديمه للسودانيين لإنجاح الحكم المدني، وعلينا أن نلاحظ أن مهمة البنك الدولي هي محاربة الفقر!!!
(7)
أما بالنسبة لصندوق النقد الدولي وفي إطار استجابته السريعة لمكافحة جائحة كورونا فقد رصد مساعدات بقيمة 50 مليار دولار، وهو جزء ضئيل من طاقة الإقراض الكلية للصندوق البالغة تريليون دولار، وخصص من بينها مبلغ 10 مليارات دولار لأفقر البلدان الأعضاء بسعر فائدة صفري من خلال “التسهيل الائتماني السريع”، ومن المهم بالنسبة للسودان الإشارة إلى انه “يمكن الحصول على هذه المساعدات لهذه الدول دون وجود ارتباط ببرنامج كامل مع الصندوق”. فضلاً عن تعهد السيدة كريستالينا جورجيفا المدير العام للصندوق بأنه “ملتزم تماما بدعم بلداننا الأعضاء الأفقر، ولا سيما الأشد تعرضا للمخاطر؛ وأن لدينا الأدوات اللازمة للمساعدة”.
ومن ضمن هذه الآليات موافقة الصندوق على تخفيف فوري لأعباء خدمة ديون 25 بلدا عضوا من خلال “الصندوق الائتماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون” بتقديم منح لتخفيف الديون تستفيد منها أفقر البلدان وأشدها تعرضا للمخاطر والتي عليها التزامات غير مسددة للصندوق، وذلك لمساعدتها في مواجهة الكوارث الطبيعية الفادحة والطوارئ الصحية العامة الكبرى الناجمة عن سرعة انتشار الأمراض. فما هو العون الذي قدمه الصندوق للسودان لمواجهة هذه الكارثة؟
(8)
قبل ثلاثة أسابيع أرسلت للدكتور جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، التي يتبع لها السودان، سائلاً عن خطط صندوق النقد الدولي للتعامل مع السودان في إطار مبادراته لمساعدة الدول الفقيرة لمواجهة جائحة فيروس كورونا؟، وعن تأثير متأخرات ديونه على الصندوق، وكذلك تأثير إدراجه في اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، في عملية اتخاذ الصندوق قراره بهذا الشأن؟
لم أتلق حتى الآن رداً على هذا السؤال، مع أن الإجابة معلومة سلفاً وبعضها تلقيتها مباشرة من السيد أزعور في أكتوبر الماضي في واشنطن على هامش الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك الدوليين، وقال لي وقتها “إن قضية الديون لها مسار معقد، وتعتمد على أساليب معينة لمعالجتها”، وأضاف “لا أستطيع الإجابة عليها، والأمر يتعلق بتواصل السودان من المقرضين” وهي الإجابة المهذبة لموظفي الصندوق لتحاشي الاعتراف بأن الأمر كله خاضع ل”فيتو أمريكي” وأنه لا مجال للتطبيع مع مؤسسات التمويل الدولية قبل تطبيع واشنطن علاقتها مع الخرطوم.
والنتيجة أن السودان لم يحظ بأية مساعدات من صندوق النقد الدولي سواء من خلال الدعم الطارئ المقدم من الصندوق لتوفير موارد إضافية للخدمات الصحية وبرامج الحماية الاجتماعية، سواء عبر “التسهيل الائتماني السريع”، أو من “الصندوق الائتماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون”، بدعوى أن السودان غير مؤهل لكليهما، ولم تشفع له أن جائحة كورونا لا تستأذن مؤسسات التمويل الدولية لتجنب حصد أرواح السودانيين وقطع أرزاقهم، وهذا نموذج آخر لنوع الدعم الذي قدمه المجتمع الدولي للحكومة المدنية ل”إنجاحها”، ول “الوقوف بجانب الشعب السوداني”.
(9)
لم تكن هذا المشاهد سوى جوانب من سلسلة مواقف، لا أخلاقية ولا إنسانية، أثبت خلالها المجتمع الدولي على مدار الأشهر الثلاثة عشر الماضية منذ إسقاط النظام السابق بأن تعهداته بدعم الثورة السودانية الثالثة لا تعدو أن تكون وعوداً جوفاء، أو في الواقع الأمر تعمل فعلياً على تحقيق عكسها تماماً، فمع كل أطنان التصريحات الرنانة لكبار المسؤولين الدوليين، والزيارات المتبادلة، وصور المقابلات التي تبدو دافئة مع رئيس الوزراء حمدوك، فالمحصلة صفر كبير، فهل من دليل على ذلك أكثر من ترك السودان يواجه وحده دون أي دعم دولي يُعتد به تبعات جائحة كورونا مع أن مؤسسات التمويل الدولية بذلت مئات المليارات من الدولارات لمساعدة حتى الدول الغنية دعك من الدول الفقيرة.
(10)
في 27 سبتمبر الماضي في أول لقاء جمع حمدوك مع الأمين العام على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال غوتيرش “إن على المجتمع الدولي الآن مسؤولية صارمة لبذل قصارى جهده للمساعدة في تسهيل ظروف النجاح في التجربة الديمقراطية السودانية الحالية”، مشدّداً على عدة إجراءات “نحتاجها من المجتمع الدولي في هذا الاتجاه، ينبغي أن تشمل هذه الإزالة الفورية لتسمية السودان كدولة داعمة للإرهاب، ورفع جميع العقوبات الاقتصادية، وتوفير دعم مالي هائل للتنمية لجعل المكاسب السياسية الحالية دائمة”، ومضى أكثر ليقول ب “إن السودان بلد يقع في مركز منطقة بالغة الأهمية في القارة الأفريقية، بحدود مع عدد كبير من الدول، ويكتسب أهمية كبيرة لاستقرار المنطقة وازدهارها، ولذلك فإن نجاح هذا الانتقال ضروري بطبيعة الحال لشعب السودان، لكنه مهم للغاية للمنطقة بأسرها”، ومع ذلك، وبعد ثمانية أشهر من تلك التصريحات “القوية”!! بقيت حبراً على ورق، ليس أكثر من كلام مجاني لا يصلح للصرف عند الدول الكبرى صاحبة القرار.
(11)
بعد أربعة أيام فقط من انعقاد مجلس الأمن المشغول بفرض بعثة سياسية لدعم حكومة مدنية لن تكون موجودة في ظل الانصراف الدولي عن مساعدتها في هذه الأوقات العصيبة، رغم مناشدات رئيس الوزراء وتحذيره من مغبة ذلك، أصدرت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ميشيل باتشيليت، بياناً في 28 أبريل الماضي حذرت فيه من تعرض السودان ل”كارثة صحية يمكن أن تفجر صراعات، بسبب تفشي جائحة كورونا”، وطالبت المانحين بتقديم عون فوري له. وذكرت في بيانها أن “النظام الصحي السوداني، ليس معدًا للتعامل مع تفشي المرض بالصورة التي شهدناه في أماكن أخرى من العالم.
وأن الطريقة الوحيدة لمنع وقوع كارثة إنسانية في السودان هي أن يكثف المانحون مساعداتهم وان يمدوا يد العون له”. وأضافت: “ينبغي ان نتحرك بسرعة ونوفر دعما ماليا سخيا للسودان، وإلا فإننا نخاطر بان بلدا تتخلق فيه احتمالات واعدة، سيعود القهقري إلى حالة غياب الاستقرار السياسي واحتمال تفجر الصراعات”، ونقلت باتشيليت عن مصادر طبية في السودان، وجود نقص خطير في المعدات الوقائية للحماية من انتقال فايروس كورونا للكوادر الطبية.
(12)
وحذرت المسؤولة الأممية الرفيعة من “أن الوعد بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والعدالة والسلام في السودان، بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير؛ يواجه تهديدًا ماثلًا الآن، بسبب تعرض الحكومة الانتقالية لمصاعب تتعلق بالموارد”. وأضافت: “قد تفاقمت المصاعب بتداخل عدة اسباب منها الآثار الفعلية للعقوبات الاحادية المستمرة، وفشل المؤسسات الدولية في تخفيف عبء الديون عن السودان وفشل تقديم اي عون دولي للحكومة”. وأكدت على “أن السودان يُعد حاليًا من الدول غير المؤهلة للحصول على دعم من الصندوق الائتماني لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي تبلغ قيمته 50 مليار دولار أمريكي والمخصص لمساعدة البلدان في مكافحة جائحة كورونا”.
وأضافت: ” السبيل الوحيد للسودان للخروج من دائرة الفقر واليأس هذه هي التحرر من اسر العقوبات المفروضة في عهد النظام السابق. ذلك سيمكن السودان من جذب الاستثمار لإصلاحاته الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها، والوصول الكامل إلى أموال المؤسسات المالية الدولية”.
مرة أخرى ذهبت صرخة المسؤولة الأممية أدراج الرياح فمجلس الأمن الدولي سيجتمع في 28 مايو، بعد مرور شهر على ندائها المُلح، لا لينقذ السودان من المخاطر الماثلة التي تنذر بذهاب ريحه، بل ليفرض بعثة سياسية ينفق عليها مليارات الدولارات لخدمة مصالح الكبار، مع بخله حتى بالفتات لإنقاذ ما يكمن إنقاذه من أرواح السودانيين.
(13)
وكان الظن أن جائحة كورونا التي أرعبت العالم أجمع، وألقت بتبعات قاسية على الاقتصادات في كل مكان، ولم يسلم بلد من عواقبها المدمرة لمعايش الناس، ستكون سانحة يراجع المجتمع الدولي موقفه المخزي غير المبرر تجاه السودان، سواء بتقديم العون له كسائر دول العالم التي حظيت بها الدولة الغنية والفقيرة، أو بإزاحة العراقيل التي يضعها أمام تمكين البلاد من القيام بعملية إصلاح اقتصادي حقيقية فعالة وفق رؤية ومنهجية تتلاءم مع أوضاعه المعقدة سيما وأنه لا يزال مكبلاً بقيود تصنيفه في اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب التي تحرمه بسبب الفيتو التي تفرضه من الحصول على مساعدات، قروض أو منح، من مؤسسات التمويل الدولية، أو إعفاء ديونه المؤهل لها، ولكن المؤسف أن المجتمع الدولي دون أية مراعاة لاعتبارات أخلاقية أو إنسانية يصر أن يفرض على الحكومة السودانية تنفيذ برامج صندوق النقد التي تعرف تماماً كلفتها الباهظة على الشرائح الضعيفة في المجتمعات ذات الاقتصادات الهشة، دون غطاء دولي داعم.
(14)
لم تحس الترويكا، الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بأي تأنيب ضمير وهي تنص صراحة في بيان لها الشعر الماضي على إملاء شروطها المجحفة “إننا ندرك المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي لا تزال تواجه السودان، وأن التقدم ببرنامج إصلاح للمساعدة على معالجة هذه المشاكل والمساعدة على استقرار الاقتصاد وتحفيزه سيسمح للمجتمع الدولي بالعمل مع الحكومة الانتقالية بقيادة المدنيين ودعمها”، تقول ذلك وقد وصفت في فقرة سابقة الإصلاحات التي تطالب بها بأنه “مؤلمة”، بالطبع قاسية على غمار الناس، ومع ذلك تصر على رفع دعم السلع والخدمات كشرط مسبق لمساعدة السودان، وهي كمن تطلب قتل المريض، حتى يتسنى لها أن تقدم له العلاج. كيف يقوى السودان على تحمل كلفة الإصلاح دون حد أدني من العون الدولي الذي يستحقه، في الوقت الذي تمنع عنه حتى الحصول على المساعدات الاستثنائية التي قدمتها مؤسسات التمويل الدولية للدول الفقيرة لإقالة عثرتها في ظل تداعيات جائحة كورونا.
(15)
ولا يختلف موقف الترويكا عن بقية أعضاء مجموعة أصدقاء السودان، التي لم تعرف لها البلاد في وقت الضيق موقفاً واحد داعماً بحق بعد عام على تأسيسها، غير اجتماعات لم تنتج سوى بيانات بلا طحين، ولعل أكبر دليل على خذلان السودان فشل قيام مؤتمر المانحين الذي وعدت به منذ أكتوبر الماضي، واعتمدت الحكومة بشكل كامل على مردوده في برنامجها الاقتصادي، وبنت عليه حسابات الموازنة العامة، وبعد تأجيله لمرتين بعد أن نأت بنفسها الدول الخليجية التي كانت يعوّل عليها سواء في الاستضافة والتمويل، انتهى للقاء تستضيفه برلين نهاية الشهر المقبل تحت لافتة جديدة “منتدى الشراكة المتبادل”، ووعود ضئيلة لن تجدي الحكومة شيئاً لأنها لن تسهم بشئ ذي بال في سد عجز المالية العامة المتفاقم.
(16)
وكان مؤسفاً إمعاناً في تضليل الرأي العام السوداني قيام كوهين فيرفاكي المسؤول الرفيع في العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي بنشر تغريدة يخاطب فيها وزير المالية السوداني بأن في وسعه أن يعتمد على دعم من الاتحاد الأوربي ب 460 مليون يورو، ولم يبخل وزير المالية في كيل الثناء للاتحاد الأوروبي على هذه الحزمة التي اعتبرها “تشجيعا للإصلاحات الجارية والبرنامج الطموح الذي قدمته حكومة الثورة لإسعاف الاقتصاد السوداني”، والتي سرعان ما تبيّن أنه لا علاقة لها بذلك، لأن معظمها مرصود أصلاً للعمليات الإنسانية في السودان المستمر منذ سنوات طويلة، ولا علاقة له بالمعطيات الراهنة، فالبيان الرسمي الختامي للاجتماع السابع لأصدقاء السودان تحدث بالكاد عن تعهد بمائة مليون يورو في مؤتمر الشراكة المزمع في برلين نهاية الشهر المقبل، وحتى في حالة الحصول على تعهدات إضافية لن تذهب لسد عجز المالية العامة التي عوّلت عليها الموازنة المعلقة في إيراداتها، بل ستودع في صندوق ائتماني متعدد المانحين اقترحه البنك الدولي وتبنته مجموعة أصدقاء السودان في اجتماعها بباريس في السابع من مايو الجاري، وهو ما يحرم الحكومة من حق التصرف الأصيل فيه.
(17)
ما يؤسف له أن هذا التلاعب بقضية مصيرية بالنسبة للسودانيين، ليس أمراً عارضاً، بل سلوك ممنهج ظلت تمارسه جهات عديدة في المجتمع الدولي عن سابق قصد، إضافة إلى الوعود المفخّخة، فقد درج كبار المسؤولين في إدارة الرئيس ترامب على الإنكار القاطع بأن يكون لإدراج السودان في اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب علاقة بتعثر حصوله على دعم مؤسسات التمويل الدولي، ويعزون ذلك إلى تراكم متأخرات ديونه على صندوق النقد والبنك الدولي، وهو ما ظل يكرره مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية تيبور ناجي، والمبعوث الخاص دونالد بوث، وهو تبرير لا يخلو من مغالطة، كما تفصح تصريحات كبار مسؤولي الأمم المتحدة التي أوردناها أنفاً، فضلاً ما ظل يكرره مسؤولو صندوق النقد الدولي على مدار سنوات من أن السودان مؤهل للاستفادة من مبادرة إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون، ولكن يقف حجرة عثرة أمام ذلك ضرورة تطبيع علاقاته مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني بالضرورة شطب اسمه من لائحة الدول الراعية للإرهاب، فضلاً عن التشريعات الأمريكية تمنع ممثلي الولايات المتحدة في مؤسسات التمويل الدولية من التصويت لصالح استفادة أية دولة مدرجة في قائمة الإرهاب من المساعدات أو المنح القرض التي تقدمها للدول الأعضاء، وهو ما حدا بالسيناتور البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بوب مننديز لتقديم مشروع قانون في السابع من مايو الجاري يدعو لاستثناء السودان من هذه القيود، حتى قبل شطب اسمه من اللائحة، لتمكنيه من الحصول على نصيب من المساعدات التي تقدمها مؤسسات التمويل الدولية على خلفية تداعيات جائحة كورونا.
(18)
وفي الوقت الذي يردد كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية أن الحكومة الجديدة في السودان “شريك إيجابي للغاية، يمكننا أن نتعامل معه، ونريد السودان ناجح، وأن نكون شركاء للسودان”، فإن شيئاً مصدق لذلك لا يتحقق على أرض الواقع، أو بالأحرى يحدث العكس تماماً ففي وقت الذي تختنق فيه البلد اقتصادياً، وفي الوقت الذي كان ينتظر أن تسهم واشنطن في فتح بعض مسالك التمويل الدولي أمامه، على الأقل لأسباب إنسانية على خلفية جائحة كورونا، فإنها تختار بدلاً عن ذلك أن تزيد من أعبائه بفرض تسويات لدفع تعويضات لضحايا عمليات إرهاب معاقبة لشعب لم يرتكبها، وقد شهدنا كيف تسببت الحكومة وهي تستجيب للضغوط لأمريكية لشراء 70 مليون دولاراً من السوق الموازي لدفع جانب من هذه التسويات الملغومة مما تسبب في فقدان الجنيه لثلث قيمته في غضون أيام معدودة، ولا يزال التوريط يجري على قدم وساق بقرابة نصف مليار دولار أخرى، وليتها مع ذلك كانت تشفع لرفعه اسمه من لائحة الدول الراعية للإرهاب، إذ لا دليل على أن ذلك سيحدث في وقت قريب فقد عاد مساعد وزير الخارجية الأمريكية تيبور ناجي الأسبوع الماضي لترديد ما ظل يقوله طوال الأشهر الماضية من إنه لا يستطيع أن يحدد جدولاً معلوماً لذلك، في تأكيد لنظريته “تقشير البصل” التي وصف بها المسألة في يناير الماضي وهو يبرر المماطلة في إعطاء التزام موعد بشطب السودان من اللائحة “لأن هناك عدد من القيود على ما يمكننا وما لا يمكننا فعله مع السودان”.
(19)
في ختام محادثات بعثة خبراء الصندوق إلى السودان في ديسمبر الماضي في إطار مشاورات المادة الرابعة لعام 2019، ورد نصاً في بيان أصدروه أن “السودان في حالة مديونية حرجة وهو مؤهل لتخفيف الديون في ظل المبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبيك”. وقد ألغيت العقوبات الأمريكية على التجارة والتدفقات المالية في أكتوبر 2017، لكن السودان لا يزال مدرجا في قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما يعوق التقدم نحو تخفيف ديونه في ظل مبادرة “هيبيك” وسداد متأخرات الديون المستحقة عليه، وبالإضافة إلى ذلك، فإن ضخامة الدين الخارجي والمتأخرات يعوقان الحصول على تمويل خارجي ويفرضان عبئا ثقيلا على التنمية، ويرحب الفريق بتفاعل السلطات مع الشركاء الدوليين لتأمين الدعم الشامل لعملية تخفيف الديون وشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما سيمهد السبيل لجذب الاستثمار الأجنبي والحصول على التمويل اللازم للنمو والحد من الفقر”.
ولا يكشف هذا الإقرار عن مسؤولية الولايات المتحدة وحدها عن ازدياد معاناة الشعب السوداني حتى بعد ثورته المجيدة، بل كذلك عن تواطؤ بقية ما يعتبرون أنفسهم شركاء في الإصرار على ان يدفع السودانيون ثمناً لجرائم لم يكونا طرفاً فيها.
(20)
ولكن المسألة الأخطر من ذلك أنها تقدم دليلاً قاطعاً على عدم وفاء المجتمع الدولي بتعهداته، فمسألة ديون السودان الخارجية ليست شأناً خاصاً به، فقد كانت أحد قضايا ترتيبات تقسيم السودان وفق اتفاقية السلام الشامل التي تعهد المجتمع الدولي سواء على مستوى الدول، أو على مستوى مجلس الأمن بضمان استحقاقاتها، وحسب اتفاقية الترتيبات المالية الانتقالية لقسمة تركة السودان الموحد في 2012، فقد جرت معالجة مسألة الديون وفق صيغة الخيار الصفري بأن يتحمل السودان الشمالي كل ديون البلد، على أن يشترك البلدان والمجتمع الدولي في تحرك مشترك لإعفائها في غضون عامين، وفي حالة عدم تحقيق ذلك يتم تقسيم هذه الديون بين البلدين وفق معايير معينة، وبعد مرور تسع سنوات على وفاء السودان بالتزامه واعترافه باستقلال دولة جنوب السودان، لم يتحقق أي من الخيارين، وبقي وحده يدفع ثمن تنكر المجتمع الدولي لالتزاماته.
(21)
والآن بعد كل هذه الوقائع والشواهد والأدلة التي سقناها في هذا المقال المطول، لا يزال هناك من ينتظر أن يجني السودان أي فائدة أو عون من هذه البعثة السياسية الأممية سوى خدمة أجندة الدول التي تقف وراءها، وليس لخدمة الشعب السوداني بأي حال من الأحوال وقد أوردنا آنفاً مواقف المجتمع الدول المخزية حتى في الوقوف إلى جانبه في وجه كارثة كورونا الصحية، أليس مثيراً للسخرية أن يكون من بين مهام البعثة المنتظرة دعم عقد مؤتمر للمانحين مع كل التضييق الدولي المعلن اقتصادياً على السودان الذي أوردنا دلائله آنفاً.
من المؤكد أن ذلك لا يحدث اعتباطاً، أو عن غفلة، أنظر إلى حلفاء العواصم الغربية صاحبة القرار في المنطقة تعرف نوعية الأنظمة التي يفضلونها لأنها بطبيعتها مؤهلة لخدمة مصالح الدول الكبرى، لا يعقل أن تكف هذه الدول يدها عن تقديم أي عون جاد من أي نوع للحكومة المدنية الانتقالية طوال الأشهر العصيبة الماضية وفي ظل تحديات مصيرية وأوق ات عصيبة، إلا إذا أرادت لها أن تفشل عن سابق قصد وتدبير، لتمهّد الطريق لتشكّل نظام سياسي جديد يصنع على عينها، لا علاقة له بتطلعات الشعب وتحقيق مطالبه في الحرية والسلام والعدالة، لأن وجود أي نظام ديمقراطي حقيقي مسنود بإرادة شعبية حرة لن يكون مؤهلاً في نظرها لضمان خدمة مصالح هذه الدول على النحو الذي تريد فرضه.

بقلم: خالد التيجاني النور
khalidtigani@gmail.com